أدباء أعلنوا تمردهم واستغنوا عن دور النشر الورقية

أسسوا بدائل إلكترونية «نكاية» بالناشرين «المستغلين»

أدباء أعلنوا تمردهم واستغنوا عن دور النشر الورقية
TT

أدباء أعلنوا تمردهم واستغنوا عن دور النشر الورقية

أدباء أعلنوا تمردهم واستغنوا عن دور النشر الورقية

يستاء الأدباء غالبًا من الطريقة التي تتعامل معهم بها دور النشر على أرض الواقع، سواء في طريقة توزيع كتبهم أو في عائدات الأرباح التي يدعي معظم دور النشر أنها ضعيفة، ويتساءل الأدباء: «إذا كانت فعلا عائدات الكتب ضعيفة، فما الذي يجعل هذه الدور قائمة منذ سنين طويلة، بل كيف تشارك في معارض الكتب الخارجية وتدفع مبالغ طائلة في حجوزات الطيران والفنادق وغيرها من حجز الجناح في المعرض والمعيشة التي لا تقل عن أسبوعين؟»، هذا ما جعل الأدباء يطلقون عبارة «الناشر تاجر».
بعض الأدباء ضاقوا ذرعًا بهذه الدور، فتحايلوا على الموضوع، وأسسوا دور نشر إلكترونية غير موجودة على أرض الواقع، مستفيدين من تقنيات العصر الحديث، وهذه الدور لاقت رواجًا لدى الأدباء الذين يشعرون أنهم وقعوا في فخ استغلال دور النشر أو عدم قبول هذه الدور لمؤلفاتهم.
من أبرز النماذج التي ظهرت في هذا المجال، دار نشر اسمها ظريف سأذكره وأذكر الأسباب وراء التسمية، أسسها الأكاديمي المتخصص بالترجمة وله مؤلفات كثيرة ورقية، الدكتور جمال الجزيري، أما اسم الدار التي أسسها فهو «حمارتك العرجا»، وسبب التسمية يعود إلى المثل المصري: «حمارتك العرجا لا سؤال اللئيم»، أو ولا حاجة اللئيم. وبالتالي فالمقصود باللئيم دور النشر.
ويعدد لنا الجزيري مجموعة من دور النشر الإلكترونية التي ظهرت في هذا الصدد: «هناك دور نشر إلكترونية سبقت دار (حمارتك العرجا) ودار (كتابات جديدة للنشر الإلكتروني)، ودار (الزنبقة للنشر الإلكتروني) التي أنشأها الكاتب الجزائري يونس بن عمارة في مارس (آذار) 2014 تقريبا، ودار (حروف منثورة) التي أنشأها الكاتب المصري مروان محمد في مايو (أيار) 2013. وبعد ذلك أنشأ الدكتور عماد أبو حطب وزملاؤه في مجموعة (كتّاب ومبدعو القصة القصيرة جدا) دار نشر إلكترونية منذ شهور. وهذه دور نشر مجانية حسب علمي. وبالتأكيد هناك دور نشر إلكترونية أخرى، سواء أكانت مجانية أم غير مجانية».

لا عائد مادي ولا معنوي

سألته: ما السبب وراء تأسيسك للدار في ظل وجود دور نشر على أرض الواقع؟
أجاب الجزيري: «ربما كان التأسيس في البداية إدانة لدور النشر الموجودة على أرض الواقع. دفعتُ آلافا مؤلفة من الجنيهات في سبيل نشر بعض كتبي الورقية دون عائد مادي أو معنوي. وقمتُ بتأسيس دار (حمارتك العرجا للنشر الإلكتروني) في مايو 2014 لهدف مبدئي ساعتها، ألا وهو نشر إصدارات مجموعة أدبية اسمها (سنا الومضة القصصية)، وبداية من يناير (كانون الثاني) 2015 بدأت الدار تتوسع لتنشر كتبًا أخرى غير الومضات، فانفتحت على إبداعات الكتاب العرب في شتى الأنواع الأدبية. ويشرح الدكتور الجزيري دلالة اسم (حمارتك العرجا للنشر الإلكتروني) بقوله: هو اسم يسخر من واقع النشر الورقي في الأساس واستغلال الناشرين للكتاب، ويدل على الاعتماد على النفس في النشر. ولكن الاسم كان يلقى نفورا من بعض الكتاب، الأمر الذي يجعلهم ينفرون من النشر فيها، ونشرنا تحت هذا الاسم 173 كتابا حتى يونيو (حزيران) 2015. واقترح علي الدكتور بهاء مزيد تغيير الاسم، فتناقشتُ مع محمود الرجبي الذي يقوم بتصميم كل الأغلفة، واتفقنا على أن ننشئ معًا دار اسمها (كتابات جديدة للنشر الإلكتروني) في أكتوبر (تشرين الأول) 2015، وأصدرنا بالفعل في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 عدد 57 كتابا، كما قمنا بضم السلاسل الصادرة تحت اسم الدار القديمة في الدار الجديدة، وبلغ عدد الكتب المنشورة حتى الآن 230 كتابا. والهدف الأساسي مساعدة الكتّاب العرب على نشر إبداعاتهم بالمجان وحمايتهم من استغلال الناشرين الورقيين أو حتى الإلكترونيين ماديا، وتوصيل كتب جيدة بالمجان إلى القارئ العربي، مساهمة منا في تشجيع وترسيخ ثقافة القراءة».
وعن طريقة التعامل مع الراغبين بالنشر، وهل هي طريقة الدور التي على أرض الواقع؟ يجيب الجزيري: «تتمثل طريقة التعامل مع الراغبين في النشر في آلية بسيطة جدا: يقوم الكتّاب بإرسال مخطوطاتهم للدار عن طريق البريد الإلكتروني أو صفحتي على (فيسبوك) أو على مجموعة الدار على (فيسبوك)، وأقوم بمراجعة المخطوط لغويا وبتنسيقه وتصميمه، ويقوم الأستاذ محمود الرجبي بقراءة الكتب وتصميم أغلفة لها، ثم يتم رفع الكتب على موقع الرفع، وبعدها تتم مشاركة روابط الكتب على المدونتين الخاصتين بالدار وعلى مجموعة الدار ومجموعة دار (حمارتك العرجا) السابقة وكذلك بعض الصفحات الأخرى، ويقوم الكتّاب بمشاركة الروابط على صفحاتهم الشخصية. ويتم كل ذلك بالمجان. وأخيرا، تم إنشاء لجنة قراءة لقراءة المخطوطات وإجازة الجيد منها للنشر، بناء على مستواها الفني، وبناء على الانفتاح على التجارب الجديدة في الكتابة».
وأسأله: هل تضع ضوابط صارمة لقبول المادة أم لكون الدار إلكترونية يكون الأمر أسهل؟
فيجيب: «طبعا هناك ضوابط، ولكنها ليست معقدة أو صارمة أو روتينية، فقط لا بد أن يتمتع الكتاب بحد أدنى من الجودة الفنية والأدبية. وهنا لا أقوم بتحكيم ذوقي الخاص، فلا يمكن أن أطبّق ذوقي الذي اكتسبته من مسيرتي مع الكتابة التي تمتد منذ 1991 حتى الآن ومع القراءة التي تمتد من قبل ذلك بكثير حتى الآن على كتابات الكتّاب الذين يرسلون كتبهم للنشر، وكذلك الأمر بالنسبة للأستاذ محمود الرجبي، وإنما نكتفي بحد أدنى للجودة، وأقوم بمراجعة اللغة لضمان خروج كتاب خالٍ من الأخطاء للقارئ العربي. وبداية من نوفمبر 2015 قررنا تشكيل لجنة قراءة لتحدد ما إذا كان الكتاب صالحا للنشر أم لا، من ناحية مستواه الفني، فلقد تم رفض ديوانين من الشعر في هذا الشهر، وسنعرض كل الكتب المقبلة على لجنة القراءة لتحدد مستواها، خصوصا أن عدد الكتب المنشور شهريًا في تزايد مستمر، الأمر الذي يمثّل ضغطا كبيرا على وقت مؤسسي الدار، كما أننا لا نريد أن نخسر القارئ العربي، فالقارئ الذي يطالع كتب الدار ويجد كتابًا قليل الجودة من ناحية المستوى الفني قد ينصرف عن قراءة كتب الدار، ومن أهداف الدار تشجيع المواطن العربي على القراءة».

حرية الإبداع.. بلا حذف

هل توجد رقابة على إصداراتكم؟ يجيب صاحب دار «حمارتك العرجا»: «لا توجد رقابة على إصدارات الدار، فإصداراتها أدبية ونقدية ولغوية، والأدب لا يتناول الأفكار مباشرة، وحتى لو تعرضت بعض الإصدارات للتابوهات المعروفة، فيكون ذلك بشكل فني وغير مباشر. وبوجه عام، لا تستسيغ الدار فكرة الرقابة، فحرية الإبداع هي الأساس. وحتى أثناء المراجعة اللغوية، لا أقوم بحذف أي شيء. ويوجد تنويه في الصفحة التالية للغلاف ينص على أن ما يَرِدُ في الكتاب مسؤولية الكاتب، فالكاتب مسؤول عن لغته وأسلوبه وفكره، كما أن الدار تنشر الكتاب كما هو بعد المراجعة اللغوية، ولذلك الدار ليست مسؤولة عن أي شيء يتعلق بحقوق الملكية الفكرية، وأي منازعات خاصة بهذا الشأن يكون الكاتب هو طرفها الوحيد مع من يرفع الدعوى».
حسنًا، وما النتائج التي حصلت عليها دور النشر هذه؟
يقول: «حصلنا على نتائج جيدة من وجهة نظري: فعلى المستوى العام، نشرنا لعشرات الكتّاب من مختلف أنحاء العالم العربي، ومعظمهم كتاب لم ينشروا من قبل أو لم يجدوا فرصة في النشر الإلكتروني، كما أن الإقبال على الدار وقراءة كتبها والنشر فيها يتزايد يوما بعد يوم. وعلى المستوى الخاص، يستطيع القائمان على الدار متابعة مستجدات الإبداع في العالم العربي والإلمام بالحالة الإبداعية العربية، بما يجعلهما في قلب الصورة الإبداعية العربية. وأظن أن نشر 230 كتابا في هذه الفترة الزمنية يُعدُّ إنجازا كبيرا».
وبعد أن ختم الدكتور الجزيري كلامه، باغتتني مجموعة أسئلة: «هل سيشهد عالم النشر تحولاً كبيرًا في هذا المجال خصوصًا أن الكتاب الإلكتروني بدأ يفرض وجوده؟ وهل تجدي هذه النكايات التي قام بها المتمردون على دور النشر نفعًا يومًا ما، فيغير الناشرون من سياستهم تجاه المؤلفين؟ أسئلة قد تبدو سابقة لأوانها ولكن علينا أن نطرحها حتى لا يقول أحد إننا لم نقرع الجرس».



أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية
TT

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

يُعد الروائي الجزائري أمين الزاوي من أبرز الأصوات الأدبية في المشهد المغاربي الراهن؛ يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وحصل على عدة جوائز دولية، منها جائزة «الحوار الثقافي» عام 2007 التي يمنحها رئيس الجمهورية الإيطالية، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 13 لغة، كما وصل عدد منها إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، آخرها رواية «الأصنام» (2024)، ومن رواياته بالفرنسية «الخنوع»، و«طفل البيضة». يعمل أستاذاً للأدب المقارن بجامعة الجزائر المركزية، وتولى منصب المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية حتى عام 2008. صدرت له أخيراً رواية «منام القيلولة» عن دار «العين للنشر» بالقاهرة... هنا حوار معه حولها والمحطات المهمة في تجربته الأدبية.

* في روايتك الأحدث «منام القيلولة» تتفرع من الواقع مسارات للغرابة من خلال حكاية «أم» جزائرية... حدِّثنا عن ملامح هذا العالم الروائي الجديد؟

- كتبت هذه الرواية بقلبي، بحس خاص جداً، كانت أحداثها تسكنني منذ سنوات، وهي مرتبطة، ليس بشكل مباشر، بأشخاص شكلوا جزءاً مهماً في حياتي منذ الطفولة. كل شخصية روائية في «منام القيلولة» لها معادلها الاجتماعي لكنها كُتبت بشكل أدبي بكل ما في الأدب من نزعة التخييل والمسخ والتحوير والاختراق.

تتشكل الرواية إلى قسمين متداخلين في تناوُب وتناغُم؛ قسمٌ سمعتُ جلَّ وقائعه أو رُوي لي، وهو القسم الخاص بزمن الثورة المسلحة، حيث الحديث عن الخيانة الوطنية وخيانة الصداقة، وفيها أردت أن أقول إن التاريخ هو من صناعة البشر، والبشر مُعرضون للضعف ولارتكاب الأخطاء الصغيرة والكبرى، والثورة لها منطقها المتميز بالعنف والخوف والشجاعة، كل هذه القيم تتقدم معاً مختلطةً ومتنافرةً ومتقاطعةً، وهذا هو الجو الذي يتشكل فيه شقاء وعي المناضل.

أما القسم الثاني من الرواية فقد عايشته وعشته، وفيه أعرض بعض شخوص تشبه بعض الذين قاطعتهم في حياتي، ولكنهم سردياً خرجوا وتحرروا من الحالة الواقعية ولبسوا لبوس الشخوص الروائية، وهم من يمثلون الجيل الجديد في ظل الاستقلال وشكل الدولة الوطنية وما عاشته من تقلبات سياسية وحروب أهلية.

* يُحيل عنوان روايتك «الأصنام» إلى ميراث مجازي من التطرف والتحجّر، ثم سرعان ما يحملنا إلى فضاء الرواية المكاني وهو مدينة «الأصنام». حدِّثنا عن هذا التراوح بين المجاز والمكان.

- أحياناً يكون العنوان هو النقطة التي تتشكل منها الرواية ككرة الثلج، تُحيل كلمة «الأصنام» إلى بُعدين مركزيين؛ الأول يرمز إلى هذه الأصنام السياسية والدينية الجديدة التي نُصبت في المؤسسات وأصبحت بديلاً عن الله وتتكلم باسمه وبديلاً عن الوطن وتتكلم باسمه، والبعد الآخَر هو الإحالة إلى مدينة «الأصنام» التي توجد في الغرب الجزائري، التي أصبحت تسمى اليوم «شلف»، وتغيير اسمها جاء جراء تخريجات شعبوية دينية وسياسية أفتت بها «أصنام» السياسة والدين في ثمانينات القرن الماضي، حيث تعرضت المدينة لزلزال مدمر، ففسرته «الأصنام» الدينية والسياسية الشعبوية على أن الله ضرب المدينة بهذا الزلزال بسبب اسمها الذي تحمل والذي يُحيل إلى الشرك والكفر ويضرب وحدانية الله.

بهذا المعنى فالمكان في الرواية ليس حيادياً بل هو جزء من إشكالية الرواية، وهو يحيل إلى مستوى زيف الوعي التاريخي الجمعي، اختياره له دلالاته السياسية والحضارية والعقلية.

* تحاورت عبر التخييل الأدبي مع القصة التاريخية الأولى للقتل «قابيل وهابيل» ووضعتها في سردية مضادة في روايتك. ما الذي ألهمك لتطوير تلك المعارضة الأدبية؟

- سبق لي أن نشرت رواية بعنوان «حر بن يقظان»، وفيها أقمت معارضة فلسفية لقصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، وهي أيضاً قريبة من معارضة رواية «روبنسون كريزوي» الفرنسية، حاولت بها أن أقول إن «الحرية أسبق من الحياة والوجود»، لذا استبدلت بـكلمة «حي» كلمة «حر».

وفي رواية «الأصنام» حاولت مقاربة فلسفة الأخوة التي لم يُكتب عنها إلا القليل جداً، عدت للحكاية التي وردت في الكتب السماوية الثلاثة عن قابيل وهابيل، وكيف كانت أول عملية إجرامية في التاريخ، لكني عكست الحكاية وبنيت علاقة عشق بين الأخوين مهدي وحميميد، وكيف أن الأخ الأصغر يعطي حياته للمخاطر والأسفار والحروب بحثاً عن قاتل أخيه والانتقام منه.

* الحِس الساخر بارز كأداة نقدية في أعمالك، كالقبض، مثلاً على والد البطل في رواية «الأصنام» بسبب اسم ابنه...

- السخرية سلاح مُقاوم، في رواية «الأصنام» اشتغلت على السخرية التي تكشف مستوى الرقابة والقمع الممارَس على المواطن، فحتى الأسماء يمكنها أن تكون سبباً في توقيف وسجن مواطن بسيط، ومن ذلك أن الأب يتم سجنه لسبب بسيط هو أنه سمى ابنه الذي وُلد يوم الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة، سمَّاه باسم حميميد، وهو الاسم الذي كان يُطلق على الرئيس أحمد بن بلة. وفي السجن يتعرف على «الصرصور» الذي يرافقه في زنزانته ويكسر عنه وحدته ويصبح صديقاً حميماً له، ويظل قلبه مشدوداً له حتى بعد خروجه من السجن.

* في أعمالِك انشغال بصوت العائلات وتتبع أصواتها ومآلاتها، ما أكثر ما يؤرقك في سيرة الأجيال الجزائرية المتلاطمة بين تيارات الاستعمار والتحرر والثورات؟

- العائلة مؤسسة بقدر ما هي قامعة هي في الوقت نفسه مورِّثة لمجموعة من التقاليد تتناولها الأجيال. إنَّ الحرية لا يمكنها أن تُفهَم وتُدرَك إلا داخل الأسرة؛ فالعلاقة بين الأب والزوجة، بين الأب وابنته، بين الأخ وأخته هي مقياس أساسي لفهم الوعي الجمعي لحرية المرأة، والخطابات بين أفراد العائلة تعكس في مفرداتها كثيراً من اللامسكوت عنه واللامفكَّر فيه، لذا جاءت رواياتي، وبالأساس روايتا «الأصنام» و«منام القيلولة»، تكتب التاريخ والمجتمع من خلال تفكيك سلّم العلاقات ما بين أفراد العائلة، وفيما بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. فالأسرة تشبه في بنيتها هرم بنية السلطة السياسية بشكل واضح.

* يبدو التراث جلياً في تفاصيل أعمالك، كتلك المقاربة في عنوان «الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق»، وتُصدِر إحدى رواياتك برثاء المهلهل بن ربيعة لشقيقه كُليّب... حدِّثنا عن علاقتك بالتراث العربي؟

- أعدّ نفسي قارئاً نهماً للتراث العربي والإسلامي ومهتماً به، التراث المكتوب والشفوي على حد سواء، ولكن يجب أن ننظر إلى تراثنا، ونتعامل معه، في علاقته مع التراثات الإنسانية الأخرى حتى تتجلى لنا الصورة الناصعة فيه والمتردية أيضاً، لأن التقوقع حول تراثٍ وطنيٍّ والزهو به كثيراً قد يُسقطنا في مرض الاكتفاء بالذات. حين اكتشفتْ الإنسانية قيمة كتاب «ألف ليلة وليلة» تبناه الجميع، لا لأنها من هذه الهوية أو تلك، ولكن لأنها تعكس إبداعاً خالداً يمس البشرية جمعاء.

في تراثنا الجزائري أسعدُ دائماً بقراءة «الحمار الذهبي» لأبوليوس، وأيضاً «مدينة الله» للقديس أو أوغسطين وغيرهما، ويثيرني أيضاً التراث الأمازيغي الذي هو وعاء حقيقي لذاكرة البلاد، كما أقرأ الجاحظ وأعدّه معلم الحكاية، وأقرأ المعرّي «رسالة الغفران» وأعدّه مُعلم الجرأة.

* تحمل أعمالك رؤية آيديولوجية ونقدية، هل يصعب على الروائي صاحب الموقف أن يُحيّد نفسه وموقفه وهو يكتب الأدب، أم أن الحياد هنا نزعٌ لصوته الخاص؟

- الكاتب له قناعة فلسفية وسياسية واجتماعية، وبالتالي لا كتابة خارج هذه القناعة، لكن يجب النظر إلى هذه العلاقة بشكل مُعقد وليس ميكانيكياً، فالفن ومنه الأدب لا يعكس قناعة الكاتب بشكل آلي ولكن الكتابة الإبداعية تقول تلك القناعة بقناع جمالي مُعقد ومركّب إنْ على مستوى اللغة أو من خلال تحليل نفسيات الشخوص الروائية أو من خلال البناء السردي نفسه، الرواية تحتاج إلى قول الآيديولوجيا جمالياً وتلك هي مغامرة الكتابة والتحدي الذي عليها مجابهته.

* كيف تتأمل المسافة بين اللغتين العربية والفرنسية؟ ما الذي يجعلك تختار الفرنسية لكتابة رواية؟

- أكتب باللغتين العربية والفرنسية في انسجام منذ ثلاثين سنة. نشرت 15 رواية باللغة الفرنسية، بعضها يدرَّس في كثير من الجامعات الأوروبية المختلفة، ونشرت 15 رواية باللغة العربية. تربطني باللغة علاقة شخصية-ذاتية أكثر منها موضوعية، لكل كاتب لغته، وما أُصر عليه هو أنني لا أخون قارئي في اللغتين. ما يشغلني بالعربية هو ذاته ما يشغلني بالفرنسية، والإشكالات التي أكتبها لا تفرِّق بين هذه اللغة وتلك.

حين أبدأ كتابة العمل الروائي تسكنني حالة سيكولوجية لغوية غير مفسَّرة، فأجدني أكتب من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار، ثم أغرق في شهوة الكتابة بهذه اللغة أو بتلك. ما يُفرق بين الكتابة باللغتين هو القارئ، فالقارئ بالفرنسية له تقاليد قبول كل الموضوعات والإشكاليات، لا تابوه في رأسه، وهذا ناتج عن علاقته بنصوص روائية فرنسية أو مترجمة إلى الفرنسية كُتبت في ظل حرية كبيرة وسقف قبول عالٍ، أما القارئ بالعربية، وإن كنا نلاحظ تغيرات كثيرة طرأت عليه أخيراً فإنه لم يتخلص من نصب المحاكَم للروائيين في كثير من المرات، هي في غالبيتها محاكم أخلاقية أو دينية لا علاقة لها بالأدب، وهذا العطب في الفهم وفي المفاهيم قادم من مناهج المدرسة والجامعة التي تحتاج إلى مراجعة جوهرية.