برمنيد الفيلسوف الأكثر أهمية وتأثيرًا بعد أفلاطون وأرسطو وأفلوطين

كل من قرأ قصيدته وأدرك قيمتها الفلسفية فقد الرغبة في الكتابة

رأس من الحجر لبرمنيد
رأس من الحجر لبرمنيد
TT

برمنيد الفيلسوف الأكثر أهمية وتأثيرًا بعد أفلاطون وأرسطو وأفلوطين

رأس من الحجر لبرمنيد
رأس من الحجر لبرمنيد

احتفت الفلسفة المعاصرة كثيرا بالفيلسوف الإغريقي برمنيد، فمنذ «محاضرات» هيغل، ثم خصوصًا بعد أطروحة كارل راينهارت، صار البحث الفلسفي يستعيد الفكر البرمنيدي من مدخل الإعلاء، حتى إن هيدغر وصف ما تبقى من شعر برمنيد، بأنه على الرغم من وجازته «يغني عن كل المكتبة الفلسفية»، بل يضيف: «إن الذي يقرأ قصيدته ويدرك القيمة الفلسفية الكامنة فيها، يفقد كل الرغبة في الكتابة»! أي كأني بهيدغر يقول: «بعد برمنيد، ليس في الإمكان أبدع مما كان».
وفي سياق التقدير أيضا، نلقى شراح الفكر ومؤرخي ما قبل السقراطية، يقفون موقفًا خاصًا عند بلوغهم لحظة تقديم برمنيد، رائين فيها إيذانًا بتحول معرفي جديد كان له بالغ الأثر على تطور اللغة من بعد. وآية ذلك أن شارل هـ.كاهن Charles H. Kahn، أحد أهم المتخصصين المعاصرين في الفلسفة ما قبل السقراطية يقول: «باستثناء أفلاطون، وأرسطو، وأفلوطين، فإن برمنيد هو ربما الأكثر الأهمية والأكثر تأثيرا من بين كل فلاسفة الإغريق».
والواقع، أن الانتباه إلى قيمة برمنيد حاصل منذ القدم، إذ نقرأ في المتن الأفلاطوني توصيفات كثيرة تجتمع على الدلالة على علو مكانة هذا الإيلي (نسبة إلى مدينة إيليا موطن برمنيد) الذي خصه أفلاطون بمحاورة موسومة باسمه، حيث نقرأ فيها تفاصيل طريفة عن زيارته إلى أثينا. وبَيِّنٌ من تلك المحاورة أن تلك الزيارة لم تمر في صمت، بل كانت محل إشهار واحتفاء، إذ تفيد بأن الشيخ الإيلي وصل بصحبة تلميذه، زينون، في فترة احتفال أثينا في البانثيون الكبير، فأقاما في السيراميكوس، في بيت بيثودوروس، وإلى هناك تنادى إلى لقائهما جمع من الشباب الأثيني المتفلسف، بقصد تبادل الحوار معهما لاستعلام ملامح فلسفتهما.. وكان من ضمن ذلك الجمع، شاب حديث السن، في نحو الخامسة عشر من عمره، يدعى سقراط، أبان عن مهارة واقتدار في محاورته للضيفين الإيليين.
ويسرد لنا أفلاطون تفاصيل ذلك الصدام الفكري، وكيف انساق الحوار، في البداية، بين زينون وسقراط، إلى أن بدأ هذا الأخير في استشكال الأطروحة البرمنيدية، فما كان من زينون إلا أن وصفه بأنه أشبه بـ«كلب الصيد الإسبرطي»، ولا ينبغي أن نفهم هذا التشبيه تنقيصًا من قدر سقراط، بل كان تأكيدًا على قدرته على تدقيق النظر وتعميق الملاحظة، حيث يفيد سياق التشبيه أن زينون وصف قدرة الاستفهام السقراطية على تتبع أدق دقائق الفكر، بكونها أشبه ما تكون بقدرة الكلب الإسبرطي على تتبع الآثار بدقة. ثم تسلم برمنيد دفة الحديث، ليتابع مع سقراط موغلا في قضايا معرفية وأنطولوجية من مستوى نظري جد متطور، يلزمنا بأن نقول إن كانت الزيارة واقعة حقيقية، فإننا لا نشك في أن المحاورة بين سقراط وبرمنيد، على نحو ما أوردها أفلاطون، مجرد تخييل، ولا نحتاج للاستدلال بأكثر من القول، بأن «الكلب الإسبرطي» كان لا يزال في بدء شبابه، والأطروحات الفلسفية التي نطق بها أنضج بكثير من مستوى سنه، الذي قلنا إنه كان نحو الخامسة عشر. هذا فضلا عن أن تلك الأطروحات، تشكل معالجة نقدية لتفاصيل فلسفية في نظرية المثل، لم تكن قد ظهرت في الزمن الفكري الذي «جرت» فيه المحاورة.
لكن لا يعنينا كثيرًا ما إذا كان لقاء برمنيد بسقراط سردًا من المخيال أو توصيفًا لواقعة، بل ما يستوقفنا هنا، هو أن أفلاطون أحاط حضور الفيلسوف الإيلي بهالة إشهارية، تدل على أنه رأى دخول فلسفته إلى أثينا حدثًا يستحق الذكر والإذاعة. ومن ثم، فحتى إذا كان قد ابتدع من محض خياله حضور برمنيد، وتَنَادِي النخبة الأثينية إلى لقائه، فذاك عندنا كافٍ لتأكيد اعترافه بسموق فيلسوف إيليا، وهو السموق الذي تؤكده أيضا، توصيفات كثيرة منثورة في كتاباته، حيث يقدمه في محاورة «السفسطائي» بـ«برميند الكبير»، ويصفه في محاورة «ثياتيتوس»، بـ«العظيم» و«المبجل» و«المهيب». كما يقول عن خطابه الفلسفي بأن فيه «عمقا عجيبا».
وهنا أبتغي التقاط ملحوظة مهمة، وهي أنه لم يسبق لأفلاطون أن قرظ أحدا من سلفه الفلسفي قط. ولم يسبق أن عامل فيلسوفا من الفلاسفة السابقين عليه، بمثل ما عامل به برمنيد من جميل الذكر وإعلاء القَدْرِ. فما هو مكمن امتياز برمنيد حتى يحتفي به شخص كأفلاطون، الذي، إذا استثنينا سقراط، صح أن نقول إنه لم يحظ عنده أحد من رجالات الفكر السابقين بالتقدير.
عندما نتحدث هنا، عن حضور برميند إلى أثينا، فإننا لا ننظر إليها كمقام جغرافي، حيث قلنا إنه لا يعنينا ارتحال برمنيد، أو عدم ارتحاله من بيته في إيليا إلى المقام ضيفا في بيت بيثودوروس، بل يعنينا الاستفهام عن سبب استحقاقه للمقام داخل المحاورة الأفلاطونية بالهالة التي بدا بها. أي ننظر إلى أثينا هنا، كمحل فلسفي، وكرمز ثاوٍ في الجغرافية الأفلاطونية. وعليه ينبغي توجيه لحاظ التفكير إلى السمت النظري للفكر الإيلي، الذي جعل أفلاطون يحتفي به. ومحصول لحاظنا هو أن ذلك السمت، تستبطنه مقولة: «الوجود الضروري» التي ابتدعها برمنيد، إذ هي محل إعجاب أفلاطون بالفلسفة الإيلية.
ولا شك عندنا، في أن برمنيد يستحق هذا التقدير. فقد تخطى مستوى التفكير الفلسفي الملطي والأيوني، وتخلص من السؤال الكوسمولوجي المشدود إلى مطلب أصل الوجود، وتعليل صيرورته. وبهذا التخطي، وضع قواعد التأسيس لنمط في التفلسف، ينادى بحصر النظر في الوجود الضروري، فأسس بذلك، للنهج المعقولي المفارق للحس. وآية ذلك، أن أرسطو عندما ضرب المثال على الفلسفة الرافضة لنهج الحس، قدم الإيلية كأوضح نموذج مجسد لها.
وتلك الممايزة بين النظر المعقولي والنظر الحسي، وذلك الحرص على تخليص موضوع التفلسف وتجريده في مقولة الوجود الضروري، وطريقة بناء دلالة المفهوم وكيفيات الاستدلال التي انتهجها برمنيد في قصيدته.. أسباب كافية لتفسير سبب الانبهار الأفلاطوني بقامة فيلسوف إيليا، ولتعليل رفعه من قبل هيغل وهيدغر وكوجيف إلى المستوى المستفاد من عبارات التقريظ التي أوردناها عنهم، في بداية هذا التقديم.
وختاما، ليس القصد من هذا المقال الإيغال في عرض فلسفة برمنيد، بل الدعوة إلى البحث فيها ومطالعتها، وتنبيهًا إلى أن ما تبقى من شذراته، تحتوي على أول ممارسة منهجية في بناء المفهوم الفلسفي. وفي تجربتي في تدريس الفلسفة لم أجد أفضل من برمنيد نموذجًا أستحضره لأبين لطلبتي كيف يشتغل العقل الفلسفي في بناء المفهوم، حيث كانت شذرته الثامنة معتمدي في بيان هذا الاشتغال المفاهيمي، وتقريب طرائق منهج البناء.



مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي
TT

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

مجلة «الفيصل»: صناعة النخب في الوطن العربي

صدر العدد الجديد من مجلة «الفيصل»، وتضمن مواضيع متنوعة، وخصص الملف لصناعة النخب في الوطن العربي، شارك فيه عدد من الباحثين العرب وهم: محمد شوقي الزين: صُورَةُ النُّخَب وجَدَل الأدْوَار. محمد الرميحي: المجتمع الخليجي وصناعة النخب: الوسائل والصعوبات! موليم العروسي: صناعة النخب وآلياتها. علي الشدوي: مواد أولية عن النخبة السعودية المؤسّسة. ثائر ديب: روسيا مطلع القرن العشرين وسوريا مطلع الواحد والعشرين: إنتلجنسيا ومثقفون.

أما حوار العدد فكان مع المؤرخ اللبناني مسعود ضاهر (أجراه أحمد فرحات) الذي يرى أن مشروع الشرق الأوسط الجديد يحل محل نظيره سايكس بيكو القديم، مطالباً بالانتقال من التاريخ العبء إلى التاريخ الحافز. المفكر فهمي جدعان كتب عن محنة التقدم بين شرط الإلحاد ولاهوت التحرير. وفي مقال بعنوان: «أين المشكلة؟» يرى المفكر علي حرب أن ما تشهده المجتمعات الغربية اليوم تحت مسمى «الصحوة» هو الوجه الآخر لمنظمة «القاعدة» أو لحركة «طالبان» في الإسلام. ويحكي الناقد الفلسطيني فيصل دراج حكايته مع رواية «موبي ديك». ويستعيد الناقد العراقي حاتم الصكر الألفة الأولى في فضاء البيوت وأعماقها، متجولاً بنا في بيته الأول ثم البيوت الأخرى التي سكنها.

ويطالع القارئ عدداً من المواد المهمة في مختلف أبواب العدد. قضايا: «تلوين الترجمة... الخلفية العرقية للمترجم وسياسات الترجمة الأدبية». (عبد الفتاح عادل). جاك دريدا قارئاً أنطونان أرتو (جمال شحيّد). عمارة: العمارة العربية من التقليدية إلى ما بعد الحداثة (عبد العزيز الزهراني). رسائل: أحلام من آبائنا: فيث أدييلي (ترجمة: عز الدين طجيو). ثقافات: خوليو كورتاثر كما عرفته: عمر بريغو (ترجمة: محمد الفحايم). عن قتل تشارلز ديكنز: زيدي سميث (ترجمة أماني لا زار). سيرة: أم كلثوم ونجيب محفوظ نسيج متداخل وروابط متعددة (سيد محمود). اليوتوبيا ونهاية العالم: القرن العشرون صحبة برتراند راسل: خاومي نافارو (ترجمة: نجيب مبارك). رحلة أدب الأطفال الروسي من جامع الفلكلور حتى حكايات اليوم (عبادة تقلا). الأدب والفلسفة: جان لويس فييار بارون (ترجمة حورية الظل). بواكير الحداثة العربية: الريادة والحداثة: عن السيَّاب والبيَّاتي (محمَّد مظلوم). بروتريه: بعد سنوات من رحيله زيارة جديدة لإبراهيم أصلان (محمود الورداني). تراث: كتاب الموسيقى للفارابي: من خلال مخطوط بالمكتبة الوطنية بمدريد (أحمد السعيدي). فيلسوفيا: فيليب ماينلاندر: فيلسوف الخلاص (ياسين عاشور). فضاءات: «غرافيتي» على جدران الفناء (هاني نديم).

قراءات: قراءة في تجربة العماني عوض اللويهي (أسامة الحداد). «القبيلة التي تضحك ليلاً»: تشظي الذات بين المواجهات النسقية (شهلا العجيلي). مختارات من الشعر الإيراني المعاصر (سعد القرش). نور الدين أفاية ومقدمات نقد عوائق الفكر الفلسفي العربي الراهن (الصديق الدهبي). تشكيل: تجربة التشكيلي حلمي التوني (شريف الشافعي). تشكيل: غادة الحسن: تجربتي بمجملها نسيج واحد والعمل الفني كائن حي وله دوره في الحياة (حوار هدى الدغفق). سينما: سعيد ولد خليفة: ما يثير اهتمامي دائماً هو المصاير الفردية للأبطال اليوميين (سمير قسيمي). الفلسفة فناً للموت: كوستيكا براداتان (ترجمة أزدشير سليمان). ماذا يعني ألا تُصنف كاتب حواشٍ لأفلاطون؟ (كمال سلمان العنزي). «الومضة» عند الشاعر الأردني «هزّاع البراري» (عبد الحكيم أبو جاموس).

ونقرأ مراجعات لعدد من الكتب: «جوامع الكمد» لعيد الحجيلي (أحمد الصغير). «حقائق الحياة الصغيرة» للؤي حمزة عباس (حسين عماد صادق). «أنا رسول بصيرتي» لسيد الجزايرلي (صبحي موسى). «طبول الوادي» لمحمود الرحبي (محمد الراشدي). «عقلان» لمحمد الشجاع (محمد عبد الوكيل جازم)

وكذلك نطالع نصوصاً لشعراء وكتاب قصة: برايتون (عبد الكريم بن محمد النملة). في طريق السفر تخاطبك النجوم: أورهان ولي (ترجمة: نوزاد جعدان). بين صحوي وسُكْرها (سعود بن سليمان اليوسف). خرائطُ النُّقصان (عصام عيسى). الغفران (حسن عبد الموجود). أنتِ أمي التي وأبي (عزت الطيرى).