العرب.. كافحوا ونجحوا في أميركا الجنوبية

معظمهم هاجر من بلاد الشام وبداية هجرتهم في القرن التاسع عشر

ساو باولو.. عاصمة المال والأعمال في البرازيل
ساو باولو.. عاصمة المال والأعمال في البرازيل
TT
20

العرب.. كافحوا ونجحوا في أميركا الجنوبية

ساو باولو.. عاصمة المال والأعمال في البرازيل
ساو باولو.. عاصمة المال والأعمال في البرازيل

استضافت العاصمة السعودية الرياض أخيرًا القمة العربية - الأميركية الجنوبية الرابعة التي افتتحها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وشددت على أهمية العلاقات المتنامية بين العالم العربي ودول قارة أميركا الجنوبية. كذلك سلطت هذه القمة الضوء على العلاقات القديمة والمتجددة بين كتلتين بشريتين كبيرتين من أكبر كتل العالم الثالث وأسرعها نموًا، سواء على الصعيد السكاني أو آفاق التنمية والاستثمار الاقتصادي. وفيما يلي نسلط الضوء العلاقات بين العرب والقارة الأميركية الجنوبية.
تشير المراجع التاريخية إلى وجود عربي ومسلم في قارة أميركا الجنوبية يضرب في القدم إلى بدايات التوطن الأوروبي في الأميركتين الشمالية والجنوبية. غير أن موجات الهجرة الحديثة هي الموجات التي وثقت، والتي ما زالت آثارها قائمة حتى اليوم، وهي تتجلّى ليس في نجاح المئات بل والألوف من «عرب أميركا الجنوبية» في تبوؤ مواقع قيادية في مجالات السياسة والاقتصاد والفكر والرياضة والفن، بل في احتفاظ كثيرين من هؤلاء بأواصر القربى والالتزام بالقضايا التي تشغل الديار التي هاجروا منها. وبالفعل، اهتمت الدول العربية التي هاجر كثيرون من أبنائها إلى «العالم الجديد» خلال القرون الثلاثة الأخيرة في السعي إلى ربط الأجيال الجديدة بشتى السبل المتاحة.
في الواقع الهجرة إلى الأصقاع البعيدة ليست جديدة بحال من الأحوال على العرب، الذين انطلقوا أصلاً من شبه جزيرة العرب للتوطن في المناطق القريبة والبعيدة. ولقد كان لمرور طريقين اقتصاديين مهمين جدًا في تاريخ التجارة والحضارة الإنسانية، هما «طريق البخور» و«طريق الحرير» في بلاد العرب دور بارز في إكساب العرب الرغبة في التنقل والاتجار وركوب البحار. ومعروف الدور الكبير الذي لعبه البحار العربي الشهير أحمد بن ماجد، الملاّح والعالم الفلكي والجغرافي والبحّار الذي اشتهر اسمه في تاريخ الملاحة البحرية، لا سيما الرحلة حول رأس الرجاء الصالح عندما ساعد الرحالة والمستكشف البرتغالي الشهير فاسكو داغاما على اكتشاف الطريق الموصل من أوروبا إلى الهند. ولقد لقّب البرتغاليون ابن ماجد المولود في جلفار (رأس الخيمة اليوم) بـ«أمير البحر» إقرارًا بفضله ومعرفته العظيمة بالمسالك البحرية والملاحة في المحيط الهندي وبحر الصين والبحر الأحمر.
ويشير أحد المراجع إلى أن الأسفار الأولى إلى الأميركتين كانت ذات طبيعة فردية، إلا أنها ما لبثت أن غدت موجات هجرة جماعية، نمت بصورة مطردة من العشرات إلى المئات فالآلاف سنويًا، ولا سيما في ظل أحداث دافعة أو مساعدة. ويذكر المؤرخ الكبير الراحل فيليب حتى أن كاهنًا مسيحيًا عراقيًا هو الأب إلياس بن حنا الموصلي الكلداني قام برحلة إلى الأميركتين الشمالية والجنوبية مرورًا بأميركا الوسطى استغرقت 23 سنة (1660 - 1683)، قبل أن يرجع إلى بغداد ويؤلف كتابه الشهير «رحلة أول سائح شرقي إلى أمركة»، وفيه تحدث الكاهن الموصلي عن البلدان التي زارها وثرواتها وسكانها وطبائعهم. وكانت هذه الرحلة حتمًا من بواكير العلامات على طريق الهجرة إلى «العالم الجديد».
من ناحية أخرى، عبر المحيط الهندي – أو بحر الهند – تقاطعت موجتا هجرة كبيرتان من جنوب شبه الجزيرة العربية هما الهجرة اليمنية - وتحديدًا من حضرموت - إلى شبه جزيرة الملايو وجزر الهند الشرقية (إندونيسيا) في جنوب شرقي آسيا، والهجرة العُمانية إلى شرق أفريقيا حيث أسّس العرب حضورًا مهمًّا في زنجبار ومُمباسا ودار السلام.. وجنوبًا إلى موزمبيق.
لكن أبناء بلاد الشام، وبالتحديد من سوريا ولبنان وفلسطين، كانوا في طليعة من اجتذبتهم الهجرة إلى الأميركتين، مع أن كثيرين منهم استقروا في أوروبا، كحال جاليات يمنية وشمال أفريقية لاحقًا، كما هاجروا إلى الفلبين وأستراليا. وكانت البداية الفعلية لهجرات بلاد الشام إلى الأميركتين في أواخر القرن الميلادي التاسع عشر عندما كانت المنطقة جزءًا من الدولة العثمانية، ولذا عُرف المُهاجرون الأوائل في ديار غربتهم الجديد بلقب «توركو» أي الأتراك، كونهم من رعايا الدولة العثمانية، ولاحقًا راج اسم «السوريون - اللبنانيون» وبالأخص، في البرازيل والأرجنتين، في حين أثبت المهاجرون من فلسطين حضورهم في تشيلي بصورة خاصة.
ويذكر أنه من الصعب فصل الهجرة إلى الدول الناطقة باللغة الإسبانية في أميركا الوسطى وجزر الكاريبي، وطبعًا، المكسيك، عن الهجرة إلى دول أميركا الجنوبية لأنها كانت لها الصفات ذاتها، والظروف ذاتها. وبالتالي، يمكن مجازًا استخدام أميركا اللاتينية لكي تغدو المعالجة أشمل وأدق في آن.
* أسباب الهجرة في بلاد الشام
كانت هناك ثلاثة عوامل أساسية أسهمت في موجات الهجرة من بلاد الشام إلى المهاجر الأميركية: العامل الأول اقتصادي، إذ كانت الزلازل والمجاعات والأوبئة والحروب والفتن الأهلية عوامل مؤثرة سلبيًا على الأوضاع المعيشية للفقراء وأبناء الطبقات المتوسطة، وبالتالي، كان السفر هربًا من الفقر والعوز، وأيضًا التجنيد الإلزامي في الجيش العثماني، الخيار المنطقي. وكانت المجاعة التي حدثت في مطلع القرن الـ20 وتفاقمت مع الحرب العالمية الأولى من أهم المفاصل في حركة الهجرة.
العامل الثاني، كان العامل السياسي، وبالأخصّ، بالنسبة للأقليات غير المسلمة في ظل حكم السلطان العثماني، الذي كان رسميًا «خليفة المسلمين». فقبل مرحلة «التنظيمات» العثمانية، خلال القرن التاسع عشر كان البعض من غير المسلمين يعتبر أنه لا يتمتع بكل حقوق المواطنة، ومن ثم كانت الهجرة بديلاً مناسبًا. وبعد ذلك مع بدء التدخل القوى الأوروبية المباشر في المشرق العربي، وتصاعد التيارات القومية، قامت ردة فعل قومية عربية على تصاعد القومية التركية، ومجدّدًا كان الانفتاح على الغرب مباشرة، أو عبر مصر - في عهد محمد علي – أيضًا خيارًا آخر لكل الناقمين على الحكم العثماني.
والعامل الثالث، هو العامل الشخصي الذي يمزج التوق إلى المغامرة والاستكشاف مع الطموح إلى تحقيق الثراء. لا سيما مع تيسر سبل السفر البحري، وتشجيع نجاح بعض المهاجرين على طلب أقاربهم، للانضمام إليهم.
ولئن كان للمجاعة الكبرى التي واكبت الحرب العالمية الأولى الأثر الكبير في هجرة كثيرين من أبناء بلاد الشام، فقد أدت هزيمة الدولة العثمانية في تلك الحرب وتقاسم الدول الغربية تركتها الممزقة، ومن ثم قيام إسرائيل على أرض فلسطين، إلى خلق كل الظروف الاقتصادية والسياسية والأمنية الدافعة إلى الهجرة إلى الغرب، وبالذات إلى الأميركتين.
* الاستقرار في الوطن الجديد
هجرة المغتربين العرب إلى أميركا الجنوبية يمكن تأريخ بداياتهم، حيث جاءت متأخرة عن الهجرة إلى أميركا الشمالية بنحو عقدين من الزمن، وفق المراجع التاريخية. أي إنها بدأت في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وكانت البداية إلى البرازيل بعد عام 1870م. أما أوائل المغتربين إلى الأرجنتين فقد جاءوا من غرب سوريا منذ عام 1882م. وارتفعت أعداد المهاجرين إلى البرازيل بعد توقيع معاهدة المهاجرة بين الحكومتين العثمانية والبرازيلية عام 1906م في أعقاب زيارة إمبراطور البرازيل (الدون بيدرو الثاني) إلى فلسطين وسوريا ولبنان.
وحقق المغتربون العرب نجاحهم الأكبر في ميداني التجارة والصناعة، حتى إن الجالية العربية في مدينة ساو باولو، كبرى مدن البرازيل، تمتلك وحدها شارعين كبيرين يكونان قلب المدينة التجاري. ولم يقتصر المغتربون في نشاطهم على المجالات المادية، بل دخلوا أيضًا ميادين الحياة الفكرية والأدبية والاجتماعية وأصدروا الصحف والمجلات باللغة العربية ولغة البلاد نفسها كما أنشأوا دور الرعاية الاجتماعية والمصحات والمستشفيات والكنائس. واهتم المغتربون العرب منذ سنواتهم الأولى بالصحافة فأصدروا الصحف والمجلات ليعبروا عن آرائهم ويتواصلوا فيما بينهم ومع الوطن الأم. فكانت الصحافة العربية في البرازيل خاصة، وسيلة لنشر الثقافة والمدارس الأدبية والشعرية، إلا أن معظم هذه الصحف والمجلات توقفت مع الأيام لأسباب مختلفة ولم يبقَ من مائة صحيفة ومجلة كانت تصدرها الجالية العربية هناك سوى عدد قليل.
لقد واجه المهاجرون إلى الأميركتين، وبالأخص إلى أميركا الجنوبية، مشكلات كثيرة في التأقلم، ليس أقلها جهلهم باللغة والعادات، والحاجة إلى العيش أحيانًا في مناطق معزولة تفرض عليهم الاعتماد على النفس. ولكنهم، جيلاً بعد جيل، نجحوا في ترسيخ أقدامهم، ومن ثم بعدما استقروا وأخذت جهودهم تثمر، ويبنون لأنفسهم مكانة اجتماعية مقبولة، وأحيانًا كثيرًا مرموقة، انطلق الجيل الثاني، للمشاركة أكثر فأكثر في الحياة الثقافية والفنية والسياسية وخرج من الجاليات العربية في عموم «العالم الجديد» ساسة كبار شغلوا أعلى المناصب. كذلك أسسوا لهم أندية وروابط ومؤسسات نشطت في مختلف المجالات منها الثقافي والأدبي والإعلامي والإغاثي والرياضي. وكانت «رواق المعري» أول رابطة أدبية أنشئت في ساو باولو تلتها «جمعية الخريجين» التي ما زالت نشطة حتى اليوم. أما الجمعية الأشهر فهي «العصبة الأندلسية» التي أُسست عام 1933 وضمت كبار أدباء المهجر وشعرائه ومن أبرزهم رشيد سليم الخوري (الشاعر القروي) وإلياس فرحات ورياض وشفيق معلوف وسواهم، وظلت تصدر مجلتها الشهيرة طوال عقدين من الزمن إلى أن احتجبت عام 1953. كذلك أُنشئت في عام 1965 رابطة أدبية جديدة أطلق عليها اسم «جامعة القلم» وهي تضم معظم حملة الأقلام العربية في ساو باولو وتسعى إلى التعاون مع «ندوة الأدب العربي» في الأرجنتين.
وفي عالم الرياضة يعد نادي بالستينو (النادي الفلسطيني) في تشيلي أحد أنجح الأندية الرياضية في البلاد وسبق له غير مرة أن انتزع لقب بطولة تشيبي لكرة القدم وخرج منه عدد من النجوم الكبار، كما اشتهر النادي السوري اللبناني في عدة رياضات في البرازيل، وتولى سوريون - لبنانيون رئاسة أندية برازيلية شهيرة في عالم كرة القدم بينها فلامينغو وآتلتيكو مينيرو.
وإذا تجاوزنا حدود أميركا الجنوبية إلى باقي أميركا اللاتينية (المكسيك وأميركا الوسطى وجزر الكاريبي)، نبغ المهاجرون العرب في المكسيك، ومنهم اليوم كارلوس سليم حلو أحد أغنى أغنياء العالم، والممثلة العالمية سلمى حايك. وبرز في عالم السياسة في أميركا الوسطى أنطونيو السقا (السياسي الفلسطيني الأصل) الذي فاز برئاسة الجمهورية في السلفادور بعد تغلبه على المناضل اليساري المتحدر هو الآخر من أصل فلسطيني شفيق حنظل. وفي كوبا، لمع ألفريدو جبور في الحياة السياسية أسس مع فيديل وراؤول كاسترو وآخرين المجلس العسكري الثوري عام 1956. وفي الاتجاه نفسه كان موسى حسن المتحدر من أصل فلسطيني ثاني أرفع قادة الثورة السندينية بعد الرئيس دانيال أورتيغا.

** أبرز المشاهير المتحدرين من أصل عربي في أميركا الجنوبية
* البرازيل: ميشال تامر (نائب رئيس الجمهورية الحالي)، وكارلوس غصن (رئيس مجموعة «رينو – نيسان» للسيارات)، وباولو سليم معلوف وتاسو جريصاتي وفرناندو حداد وجيلبرتو كسّاب وجيرالدو ألكمين (من كبار رجال السياسة)، وماريو زاغالو وبرانكو (من كبار نجوم كرة القدم)، ولوتشيانا خيمينز مراد ومالو مدار وسابرينا ساتو رحال (من أهل الفن والإعلام).
* الأرجنتين: كارلوس منعم (رئيس جمهورية سابق)، جوليانا عواضة (زوجة رئيس الجمهورية الجديد)، محمد علي زين الدين (أحد كبار الضباط، حاول الانقلاب على الرئيس منعم)، كلاوديو حسين وعمر أسد وإلياس بزي (نجما كرة قدم).
* كولومبيا: باولو سيزار طربيه (رئيس جمهورية)، جبرائيل طربية (أحد أكبر ساسة كولومبيا)، شاكيرا - شاكرة مبارك (النجمة الغنائية العالمية)، وجورجين الشاعر ملاط (سفيرة كولومبيا لدى لبنان)، فريد موندراغون (حارس مرمى عالمي).
* فنزويلا: طارق العيسمي (وزير الداخلية والعدل)، ضياء العنداري (سفيرة فنزويلا في سوريا)، طارق صعب (أحد أبرز ساسة فنزويلا).
* تشيلي: باولو زلاقط سعيد (عمدة سانتياغو)، ألبرتو حداد وحسين صباغ (رجال سياسة)، نيقولا مسوح (كرة مضرب)، روبرتو بشارة وارتورو صلاح (كرة قدم).
* بوليفيا: خوان لاشين (أبرز قادة نقابات العمال وصانع الرؤساء).
* الإكوادور: عبد الله بوكرم (رئيس جمهورية)، جميل معوض (رئيس جمهورية)، أسعد بوكرم (أحد أبرز الساسة في البلاد)، خوليو ثيودور سالم (رئيس جمهوري انتقالي)، هايمي النبوت (مرشح لرئاسة الجمهورية)، إيفون خويص عبد الباقي (مرشحة لرئاسة الجمهورية ووزيرة التجارة والسفيرة في واشنطن ورئيسة برلمان دول الآنديز).
* الباراغواي: ليلى رشيد (وزيرة خارجية وسفيرة في واشنطن).

** الصحافة العربية في أميركا الجنوبية
«الرقيب»: أسعد خالد ونعوم لبكي - ريو دي جانيرو 1896.
العدل: شكري جرجس أنطون - ساو باولو 1901.
المناظر: نعوم لبكي - ساو باولو 1901.
السلام: وديع شمعون - بوينس آيرس 1902.
الأفكار: سعيد أبو جمرا - ساو باولو 1903.
الزمان: ميخائيل السمرا - بوينس آيرس 1905.
أبو الهول: شكري الخوري - ساو باولو 1906.
الميزان: إسطفان وجورج غلبوني - ساو باولو 1909.
المرسل: الأب يوحنا غصن - بوينس آيرس 1913.
فتى لبنان: رشيد عطية - ساو بولو 1914.



اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
TT
20

اتهامات ترمب تحدث زوبعة سياسية في نيجيريا

الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)
الرئيس النيجيري السابق غودلاك جوناثان (آ ف ب)

أثارَ الرئيس الأميركي دونالد ترمب عاصفةً من الجدل في نيجيريا، منذُ أن أعلن الحرب على «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» فور وصوله إلى السلطة، خصوصاً حين اتهمها بتمويل جماعات إرهابية من بينها «بوكو حرام»، التنظيم الإرهابي الذي يخوض حرباً داميةً ضد نيجيريا منذ 2009، قتل فيها عشرات آلاف النيجيريين. في نيجيريا لا صوتَ يعلو اليوم على مطالب التحقيق في مزاعم وصول أموال الوكالة الأميركية إلى «بوكو حرام»، ومحاسبة المتورطين في القضية جميعاً؛ لأن النقاش الذي يدور في الصحافة المحلية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أخذ أبعاداً خطيرة بعد اتهام شخصيات في الوسط السياسي والمجتمع المدني بأنها متورطة في إيصال أموال الوكالة إلى التنظيم الإرهابي. واتسعت دائرة الجدل ليطرح أسئلة حول خطورة أموال المساعدات الخارجية على الأمن القومي للدول المستفيدة منها، خصوصاً إثر الكلام عن دور سياسي لعبته تمويلات «الوكالة» في خسارة الرئيس النيجيري الأسبق غودلاك جوناثان رئاسيات 2015.

منذ عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، في يناير (كانون الثاني) الماضي، وقَّع الرئيس العائد عدداً من القرارات أو «الأوامر التنفيذية»، التي كان في مقدمها قرار بتعليق جميع المساعدات الخارجية الأميركية باستثناء تلك المخصَّصة لمصر وإسرائيل. وكانت الذريعة، انتظار التدقيق في نشاطات «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» التي ظلت لأكثر من 7 عقود تمثّل وجه الدبلوماسية الناعمة للولايات المتحدة.

ترمب يريد اليوم طيّ حقبة هذه الوكالة، وأسند مهمة تفكيكها إلى الملياردير إيلون ماسك، وزير «كفاءة العمل الحكومي» في فريقه الخاص. ولم يتأخر الأخير في وضع يده على جميع وثائق الوكالة، التي وصفها بأنها «عشٌ للأفكار اليسارية المتطرفة التي تكره أميركا».

هذا النقاشُ ظل أميركياً خالصاً، حتى جاءت تصريحات سكوت بيري، عضو الكونغرس عن ولاية بنسلفانيا، لتخرج به نحو دوائر أبعد. إذ قال الرجل إن 697 مليون دولار أميركي من التمويلات السنوية لـ«الوكالة» تنتهي بحوزة تنظيمات إرهابية، من بينها جماعة «بوكو حرام»، وجماعة «طالبان»، وتنظيم «القاعدة».

تصريحات بيري جاءت خلال جلسة استماع للجنة الفرعية لمراقبة كفاءة الحكومة، تحت عنوان «الحرب على الهدر: القضاء على ظاهرة المدفوعات غير المشروعة والاحتيال». وقال بيري أمام اللجنة: «أموالكم تذهب لتمويل الإرهاب، عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية... يجب أن يتوقف هذا فوراً».

وأضاف بيري في حديثه أمام لجنة الاستماع أن الوكالة خصَّصت 136 مليون دولار لبناء 120 مدرسة في باكستان، إلا أنه لم يُعثر على أي دليل يثبتُ تنفيذ هذه المشاريع، معتبراً أن ذلك يثير الشكوك حول مصير هذه الأموال.

علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)
علم "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" (آ ف ب)

مطالب التحقيق

تصريحات عضو الكونغرس أثارت بطبيعة الحال جدلاً واسعاً في نيجيريا، وحظيت بحيّز واسع من التداول في الصحافة المحلية. وخلال برنامج تلفزيوني على قناة محلية لنقاش تصريحات سكوت بيري، قال علي ندومة، عضو مجلس الشيوخ في نيجيريا عن ولاية بورنو، إن على نيجيريا فتح «تحقيق شامل حول الادعاءات التي تفيد بأن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تموّل (بوكو حرام)».

وأردف السياسي النيجيري الذي ينحدرُ من بورنو، أكثر ولايات نيجيريا تضرراً من هجمات «بوكو حرام» الإرهابية: «لا يمكنكم القول إنها مجرد مزاعم، الأمر يتجاوز ذلك. ولهذا السبب يتوجَّب على الحكومة النيجيرية، والبرلمان الوطني على وجه الخصوص، التحقيق في هذه الادعاءات والتحقّق من صحتها، لأنها خطيرة للغاية».

ثم تابع ندومة: «هذا التطوّر مقلق للغاية، خصوصاً أن إحدى الجماعات الإرهابية التي ذكرها سكوت بيري هي (بوكو حرام)، التي لم تدمّر شمال شرقي نيجيريا فحسب، بل امتد تأثيرها أيضاً إلى مناطق أخرى من البلاد. تتذكرون أن (بوكو حرام) فجَّرت مقر الشرطة، ومكتب الأمم المتحدة في أبوجا، وكانت الخسائر البشرية هائلة. لذا، يجب أن تكون الحكومة النيجيرية مهتمةً بهذا الأمر».

ومن ثم، أعرب ندومة عن قلقه الكبير حيال هذه المزاعم، لافتاً إلى أن «أجهزة الأمن النيجيرية سبق أن أثارت هذه القضية بشكل غير مباشر مرات عدة»، في إشارة إلى تصريحات أدلى بها قائد أركان الجيش النيجيري أخيراً ذكرت أن «دولاً ومنظمات أجنبية» متورطة في تمويل «بوكو حرام». وخلص عضو مجلس الشيوخ النيجيري إلى التأكيد على ضرورة التحقيق في هذه المزاعم، وأن الجميع «كان يتساءل منذ سنوات طويلة عن مصدر تمويل هؤلاء الأشخاص».

قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)
قرويون نيجيرون إثر تعرّض قريتهم لإحدى هجمات "بوكو حرام" (آ ب)

المسلمون... و«بوكو حرام»

في الواقع، لأكثر من 15 سنة، دأبت جماعة «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا، وكان السؤال الذي يُطرَحُ بإلحاح من قِبَل الجميع هو: مَن يقف خلف هذا التنظيم الإرهابي؟ ومَن يوفر له التمويل والسلاح... ويمكِّنه من تجنيد آلاف الشباب المحبطين وفاقدي الأمل؟.

طيلة تلك الفترة، كانت أصابع الاتهام توجَّه إلى زمر من المسلمين الذين يشكلون غالبية سكان شمال نيجيريا، حيث تنشط الجماعة الإرهابية. ولكن مع إثارة الجدل حول مزاعم تمويل «بوكو حرام» عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» أصدرَ «مركز الشؤون العامة للمسلمين» في نيجيريا بياناً يستحضر فيه اتهامات سابقة للمسلمين بتمويل الجماعة.

ولقد طلب «المركز» من البرلمان النيجيري التحقيق في تلك المزاعم، وأعرب رئيسه ديسو كامور، عن «قلقه العميق إزاء هذه الادعاءات»، قبل أن يستحضر «حملة التدقيق والاتهامات الظالمة التي واجهها المسلمون النيجيريون، ومنها التعاطف مع (بوكو حرام)».

وقال كامور: «إذا كانت هذه المزاعم صحيحة، فإنها ستكشف نفاق أولئك الذين ألقوا باللوم على المجتمعات المسلمة المحلية، بينما كانت جهات خارجية تدعم الإرهابيين». وطالب، بالتالي، السلطات النيجيرية بالتحقيق في المزاعم لأن «النيجيريين يستحقون الشفافية والمساءلة بشأن أي تورّط أجنبي في تمويل الإرهاب على أراضينا».

شكوك كبيرة

من جانبه، ذهب آدامو غاربا، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في نيجيريا، والقيادي في حزب «المؤتمر التقدمي الشامل»، إلى أن «شكوكاً كبيرة» تحوم حول تمويلات الوكالة في نيجيريا، وأعلن تصديقه للادعاءات بأن بعض التمويلات قد تكون بالفعل أسهمت في تسليح «بوكو حرام» و«داعش في غرب أفريقيا».

وادعى غاربا، في مقطع فيديو نشره عبر صفحته على موقع التواصل الاجتماعي «إكس»، أن «الوكالة» أنفقت مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا العام الماضي، وتساءل عن طريقة صرف هذا المبلغ الكبير.

ثم أضاف: «ذكرتُ سابقاً أن (بوكو حرام) و(داعش)، ومختلف التنظيمات الإرهابية في المنطقة، تتلقى أسلحتها عبر جهات أجنبية سرّية تموّلها وتزوّدها بالسلاح. وبعد الكشف عن دور (الوكالة الأميركية للتنمية الدولية)، يكفي أن نعرف أنه في العام الماضي وحده، أنفقت الوكالة مبلغ 824 مليون دولار في نيجيريا، فأين ذهب هذا المال؟ هل تعلم ماذا يعني 824 مليون دولار؟ عند تحويله إلى النيرة (العملة النيجيرية)، يساوي 1.3 تريليون نيرة».

واستطرد قائلاً: «هذا يعني أن كل ولاية يمكن أن تحصل على 36 مليار نيرة، ومع ذلك، يزعمون أنهم أنفقوا هذه الأموال على الحدّ من وفيات الأطفال والتعليم، لكن ماذا رأينا؟ لا شيء. متى دخل هذا المال؟ وأين ذهب؟ هذه الأموال تذهب لتمويل (بوكو حرام)، والخاطفين الذين يستخدمونها للقتل وتدمير بلادنا، هذه هي الحقيقة».

قضية باينانس

في سياق موازٍ، بينما يحتدم النقاش في نيجيريا حول اتهام «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» بتمويل أنشطة «بوكو حرام»، اتهم فيمي فاني-كايودي، وزير الطيران السابق في نيجيريا، أخيراً، مسؤولاً تنفيذياً في شركة باينانس، أكبر منصة عالمية لتداول العملات الرقمية، بالتورط في إيصال التمويلات إلى الجماعة الإرهابية.

وزعم الوزير السابق إن تيغران غامباريان، المسؤول التنفيذي في شركة «باينانس» كان «أداة» استخدمتها الوكالة لتمويل الجماعة، قبل أن يصف غامباريان بأنه كان «عامل تمكين للإرهاب وأسهم في تخريب اقتصاد نيجيريا».

وللعلم، اعتُقل غامباريان في نيجيريا العام الماضي بعد اتهام السلطات النيجيرية شركة «باينانس» بالتهرب الضريبي، والتورّط في عمليات غسل أموال، بالإضافة إلى المساهمة في إضعاف العملة المحلية «النيرة». إلا أنه أُفرِج عن الرجل؛ بسبب تدهور وضعه الصحي، بينما تشير بعض المصادر إلى أن السلطات النيجيرية تعرَّضت لضغط دبلوماسي أميركي كبير.

وفي آخر تطور للقضية، رفعت نيجيريا دعوى قضائية في الأسبوع قبل الماضي ضد منصة «باينانس»، تطالبها بدفع 79.5 مليار دولار، تعويضاً عن الخسائر الاقتصادية الناجمة عن عملياتها في البلاد، بالإضافة إلى مليارَي دولار ضرائب متأخرة عن العامين الماضيين.

تمويل دون قصد!

في أي حال، لا يخلو النقاش الدائر في نيجيريا حول العلاقة بين «الوكالة» و«بوكو حرام» من حسابات سياسية ضيقة. ومن الأصوات التي بدت أكثر رصانةً، السفير والخبير الأمني نورين أبايومي موموني، عضو «حزب المؤتمر التقدمي» الحاكم، الذي نشر مقالاً تطرَّق فيه إلى طريقة عمل المنظمات الدولية، مشيراً إلى أنها تحتاج إلى المراجعة، لأنها قد تُموِّل أنشطة إرهابية «دون قصد».

وتابع: «أنا قلق للغاية بشأن الاتهامات الأخيرة» التي تفيد بأن الوكالة قد تكون دعمت الإرهاب دون قصد في نيجيريا ومناطق أخرى من العالم... «هذه الادعاءات تثير تساؤلات جوهرية ليس فقط حول نزاهة المساعدات الإنسانية، ولكن أيضاً حول تداعياتها الأوسع على الأمن العالمي، والعلاقات الدبلوماسية».

وأضاف أبايومي موموني أن «على الوكالات الدولية العاملة تقديم الدعم الإنساني من دون الإضرار بأمن المجتمعات المستضيفة». ورأى أن الاتهامات الأخيرة تؤكد «الحاجة الملحة إلى تعزيز الرقابة والمساءلة في برامج المساعدات الدولية. ومن الضروري أن تعزز وكالات مثل الوكالة الأميركية آليات المتابعة والتقييم والتدقيق؛ لضمان أن تصل المساعدات إلى مستحقيها ولا يتم تحويلها لدعم التطرف العنيف».

وأوضح أنه «إذا ثبتت صحة هذه الادعاءات، فقد تؤدي إلى زيادة التدقيق في سياسات المساعدات الخارجية الأميركية، ما يستدعي عملية إصلاح جذرية... لأن اتباع نهج شفاف في تمويل المساعدات والالتزام بالمعايير الأخلاقية في تقديم الدعم الإنساني أمران أساسيان. وبالتالي، على الحكومة الأميركية أن تعزز التزامها بمنع تمويل الإرهاب، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أن تكون المساعدات وسيلةً لتحقيق السلام والاستقرار، لا العنف».

المال السياسي

غير أن الاتهامات الموجَّهة إلى «الوكالة» لم تقتصر على تمويل الإرهاب في نيجيريا، بل وصلت إلى أن بعض تمويلاتها أسهمت في التأثير على الانتخابات الرئاسية في البلد الذي يملك الاقتصاد الأكبر في غرب أفريقيا، والذي يبلغ تعداد سكانه نحو ربع مليار نسمة.

إذ كتبت الصحافة المحلية، ونشر ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، عن «علاقة» ربطت «الوكالة» مع قيادة حملة «أعيدوا فتياتنا» التي أطلقها ناشطون في المجتمع المدني عام 2014 إثر اختطاف «بوكو حرام» مئات الفتيات من بلدة شيبوك في قضية هزَّت الرأي العام العالمي آنذاك. ولقد ادعى ناشطون سياسيون أن الحملة كانت مدعومة سراً من «الوكالة» بهدف الإطاحة بالرئيس النيجيري آنذاك، غودلاك جوناثان، بعد حملة واسعة لتشويه سمعته، ربطه بالفشل، وحمَّلته مسؤولية اختطاف الفتيات والعجز عن تحريرهن، ما فتح الباب واسعاً أمام فوز محمدو بخاري بانتخابات 2015 الرئاسية.

كذلك تعرَّضت الناشطة النيجيرية عائشة يسوفو، التي كانت من أبرز وجوه الحملة، لهجوم حاد على منصة «إكس»، حين طالبها البعض بتقديم تفسير أو اعتذار، لكن الناشطة النيجيرية في ردِّها على هذه الاتهامات، نفت أي علاقة لها أو للحملة بـ«الوكالة» أو أي منظمة دولية أخرى. وقالت في تغريدة مقتضبة: «أنا أعمل مع نيجيريين ملتزمين ببناء أمة عظيمة، بعيداً عن نظريات المؤامرة والتشكيك». لأكثر من 15 سنة دأب تنظيم «بوكو حرام» على مهاجمة مناطق مختلفة من نيجيريا... وكان السؤال المطروح بإلحاح:

مَن يقف خلفه؟