النمر وآل شويل: منظرا الإرهاب من مذهبين.. أمام ميزان واحد

خيانة الوطن وتوظيف الدين لأغراض سياسية واستباحة شاملة للدماء

إرهاب السكان هدف مستمر للإرهابيين («الشرق الأوسط»)
إرهاب السكان هدف مستمر للإرهابيين («الشرق الأوسط»)
TT

النمر وآل شويل: منظرا الإرهاب من مذهبين.. أمام ميزان واحد

إرهاب السكان هدف مستمر للإرهابيين («الشرق الأوسط»)
إرهاب السكان هدف مستمر للإرهابيين («الشرق الأوسط»)

بينهما روابط مشتركة، إذ خلعا البيعة عن أعناقهما لحكام السعودية، وانتهجا الخيانة وفقا لنصي حكميهما، معلنين من منبرين، تتفاوت بينهما سنوات، أنه لا شرعية لهذه البلاد.. إنهما عملة واحدة، أحد أوجهها رجل الدين الشيعي نمر النمر، ووجه آخر يتمثل في منظّر تنظيم القاعدة فارس آل شويل، ولهما في إيران موقع للتدريب، وفقا لما أثبتته مسيرة جلسات محاكمتهما في المحكمة الجزائية المتخصصة بالعاصمة السعودية الرياض.
* نمر باقر النمر
يتوقف عمره عند الخامسة والخمسين، وعاش حياته في العوامية وتتلمذ في مدارسها، وبعدما اندلعت الثورة الإسلامية في إيران هاجر إليها لأهداف شتى، ومنها إلى العراق الذي التحق فيه بحوزة الإمام القائم (الحوزة: لفظ اصطلاحي على مدرسة تدرس المذهب الجعفري الاثني عشري الشيعي)، ومن ثم انتقل إلى سوريا، وظل بعيدا عن السعودية لأكثر من خمس عشرة سنة، قبل أن يعود في 1994، ومنذ ذلك التاريخ وحتى الآن ظل مارقا على أنظمة الدولة، على الرغم من إيقافاته المتكررة.
في عام 2009 صعد منبره في العوامية، موجها الهجوم على وزارة الداخلية السعودية، واتهمها بكثير من التهم المترافقة مع الخطابات التحريضية القادمة من قم إيران. واتهم الأجهزة الأمنية أنها تسعى للخراب وليس الأمن. وظل على ذات المنوال حتى اندلاع الثورات العربية، وقيام احتجاجات في مملكة البحرين التي أخمدتها السياسة البحرينية والأمن الخليجي بعد ثبوت تورط إيراني في تلك الاحتجاجات، والدفع بعدد كبير من الأفراد للخروج، بغية إسقاط حكم الأسرة الحاكمة في البحرين.
وطالب النمر، الذي استؤنف الحكم عليه بالقصاص، في خطبه منذ 2011 التي أصبحت منتشرة ومتناغمة مع التطور التقني وتناقلتها الأجهزة الذكية، بإعادة الهجوم على السعودية، وحكامها وأجهزتها الأمنية، متهما إياها بـ«القمع»، ومطالبا بالخروج للتظاهر ضد الحكومة وحكامها، والمطالبة بالإفراج عن متهمين لهم علاقة بـ«تفجيرات الخبر» 1996. وحملت تلك الدعوات انسجاما في الموقف الرسمي الإيراني، وبعض المرجعيات الدينية التي ظل النمر ممثلا في مسرحها، لتأجيج الشارع.
وبعد وفاة الأمير نايف بن عبد العزيز (رحمه الله)، ولي العهد وزير الداخلية السعودي، سخر النمر من وفاته، وطالب عبر خطبة دموية بتحكيم ولاية الفقيه في هذه البلاد، ومطالبته بإسقاط مملكة البحرين، ودعوته للشباب السعودي إلى مناصرة مثيري الفتنة في البحرين بالقول والفعل وغير ذلك مما حوته خطبه.
وفي شهر يوليو (تموز) من عام 2012، وأثناء قيام إحدى الدوريات الأمنية بعملها المعتاد، لاحظت وجود أحد المطلوبين على لائحة القائمة الأمنية الـ«23» هو حسين آل ربيع (قبض عليه بعد شهرين من القبض على النمر ويمثل حاليا أمام القضاء الشرعي)، وأثناء محاولتها القبض عليه قام بإطلاق النار على الدورية الأمنية، وخلال تلك اللحظات حاولت سيارة أخرى تضليل المطاردة الأمنية للمطلوب، واتضح أنها تعود للمطلوب حينها نمر النمر. وعندها أقدمت الأجهزة الأمنية للقبض على النمر، ولكن أثناء القبض عليه حضرت سيارة أخرى إلى المكان وأطلق من كانوا فيها وابلا من الرصاص على الأمن، ونتج عنها إصابة نمر النمر، الذي تم نقله للعلاج.
* نص الحكم الابتدائي
وجاء نص الحكم الابتدائي على نمر النمر بعدد من الإدانات، أقر فيها النمر بأنه لا بيعة في عنقه لأحد، وأن البيعة لا تكون إلا لله ولرسوله وآله وللأئمة الاثنى عشر، وأنه لا شرعية لحكام هذه البلاد، كونه لا تتوفر فيهم الشروط الشرعية للبيعة. واتهم القضاء في السعودية بعدم النزاهة، ووصف الدولة بأنها «دولة إرهاب وعنف». كذلك وصف كثيرا من الأنظمة والقوانين المتبعة فيها بأنها غير شرعية، خصوصا النظام الأساسي للحكم. ووصف رجال الأمن بـ«عصابات قطاع الطرق»، وقوات «درع الجزيرة» بـ«عار الجزيرة»، مطالبا بإخراجهم من البحرين. وحرض للدفاع عن المطلوبين في قضايا تمس أمن البلاد والمعلن عنهم في قائمة «الـ23»، وهرب وتخفى عن رجال الأمن بعدما علم أنه مطلوب للسلطات المختصة.
حمل نص الحكم، بناء على إفادات عدد من الأشخاص المرصودة سابقا والمتضمنة، أن النمر هو من يتزعم التوتر الحاصل في بلدة العوامية، ويقوم بتحميس الشباب في البلدة على مواصلة المسيرات والتجمعات، وعدم الخوف من الجهات الأمنية. ويسيء في خطبه لولاة الأمر، ويطالب باستقلال العوامية. وبعد أن ثبت لدى المحكمة الجزائية المتخصصة «خروجه على إمام هذه الدولة والحاكم فيها خادم الحرمين الشريفين بقصد تفريق الأمة وإشاعة الفوضى وإسقاط الدولة (...) ونظرا إلى أنه قد ثبت للمحكمة إدانة المدعى عليه بأفعال ضارة على الأمن العام وسكينة المجتمع وسلمه، الذي استقرت به أوضاعه، حيث تجاوز الأمر إبداء الرأي المجرد، والذي مارسه المدعى عليه سنين طويلة دون أن يؤاخذ به انطلاقا من ترحيب الشريعة الإسلامية بالرأي وعدم مصادرته»، تم الحكم بقتله تعزيرا.
* فارس آل شويل
آل شويل محرض في بحر الأربعين من العمر، خاض حياته في التأليب والتحريض، حتى انتهى به الحال بين قضبان الحديد، ومحكوم عليه بالقتل تعزيرا.
رحل من منطقة الباحة إلى المدينة المنورة في عام 1996، لدراسة المرحلة الجامعية بالجامعة الإسلامية، حيث لم يستمر بها أكثر من سنة، انتقل بعدها إلى القصيم (بوسط السعودية)، ومن ثم انتقل جنوبا إلى أبها، حيث أكمل فيها دراسته، ومن ثم تزوج ورزق بطفلين.
نشيط في الكتابة، وساهم تنامي الوهج المحلي على الإنترنت مع بداية الألفية الحالية، على القيام بكثير من الأمور الشرعية وفقا لتخصصه الجامعي. وبما أن تنظيم القاعدة في عمله يقوم على ثلاثة شعب: الشرعية والعسكرية والإعلامية، فإن آل شويل كان حجر الأساس الشرعي للفتيا في التنظيم، وكان يمد الشعبة الإعلامية بنتاجه من كتب مسمومة، يشرعن فيها الزاد النظري أمام الجناح العسكري المتعدد الأفراد.
* الكتب التي ألفها
ألف آل شويل عشرات الكتب، وأصدر عدة رسائل صوتية عبر الإنترنت، وكان من بين أبرز كتبه التي كتب بعضها باسم مستعار هو «أبو جندل الأزدي» - أزاله لاحقا بعدما أصبح على قائمة المطلوبين - هو: «الباحث عن حكم قتل أفراد وضباط المباحث»، و«أسامة بن لادن مجدد الزمان وقاهر الأميركان»، و«وجوب استنقاذ المستضعفين من سجون الطواغيت والمرتدين»، و«الآيات والأحاديث الغزيرة على كفر قوات درع الجزيرة»، و«تحريض المجاهدين الأبطال على إحياء سنة الاغتيال»، و«نصوص الفقهاء حول أحكام الإغارة والتترس».
وتنقل آل شويل بين عدد من المدن السعودية، متنكرا بزي نسائي، حتى وصل إلى مدينة أبها في شهر أغسطس (آب) من عام 2004. وبعد رصد أمني دقيق تمكنت القوات الأمنية من جعله تحت الأنظار أثناء وجوده في حديقة عامة، وكانت محاكمته تحمل تحديا أمام القضاء، إذ إنه ظل متمسكا بمنهج «القاعدة»، وأثبتت المحكمة الجزائية المتخصصة، في حكمها الذي أدانت فيه آل شويل، تأييده منهج «عدد من المنحرفين فكريا أمثال أسامة بن لادن وأبو محمد المقدسي والفقيه والمسعري وتصريحه بتمجيدهم ودفاعه عن منهجهم». كما أدين بالاستجابة لأحد الأشخاص عند مقابلته في مكة المكرمة، وسبق أن التقاه في إيران، وذلك بعرض مقابلته عددا من الأشخاص في محافظة جدة لممارسة بعض التدريبات البدنية بقصد الإعداد للقتال. وقيامه بالتردد عليهم في إحدى الشقق، وتدربه مع بعضهم على الرماية بالسلاح الرشاش، وإقراره بأنه بعد الأحداث الإرهابية التي وقعت في الرياض 2003 قرر الانتقال إلى منطقة عسير، وذلك بالتشاور مع من وصفه بـ«قائد تنظيم الجهاد في جزيرة العرب»، وكذلك بالتشاور أيضا مع عيسى العوشن.
أيضا، ثبتت إدانته بالخروج من السعودية إلى اليمن بطريقة غير مشروعة، بعد علمه أنه مطلوب للجهات الأمنية، إثر القبض على من كان يجتمع بهم في جدة. وكذلك عودته إلى المملكة بالطريقة نفسها، والتنقل من منطقة إلى أخرى متخفيا عن رجال الأمن بمساعدة عدة أشخاص، مستخدما محررات رسمية مزورة حصل عليها من شخص يقيم في منطقة القصيم سبق أن تعرف إليه أثناء وجودهما في إيران. كما قام بالاشتراك في إيواء أحد المصابين في المواجهات الأمنية في حي الفيحاء، شرق مدينة الرياض، في أبريل (نيسان) 2004، وهو راكان الصيخان، وتولى مع عبد العزيز المقرن دفنه بعد هلاكه بقصد تضليل الجهات الأمنية.
وثبت أيضا إدانة آل شويل بالتستر على عدة عمليات إرهابية علم عن الترتيب لها أثناء إقامته مع أعضاء التنظيم وقيامه بالقنوت لإتمامها، ومنها التخطيط لاغتيال وزير الداخلية آنذاك الأمير نايف بن عبد العزيز (رحمه الله)، والشروع في تفجير سفارات دول أجنبية ومبنى قوات أمن الطوارئ بتجهيز أعضاء التنظيم سيارات مفخخة، إضافة إلى إقراره بأنهم في كل مخططاتهم هدفهم في التنظيم الإطاحة بالأسرة الحاكمة في المملكة وعدد من الأسر الحاكمة في الخليج بعد الإطاحة بأميركا.
* اعتبارات تتعلق بالعقوبة
وقال حمود الزيادي، الباحث في شؤون الجماعات الإرهابية، إن «تنفيذ العقوبة بحق المدانين، لها عدة اعتبارات، أهمها أن من شأن ذلك يعد رادعا للذين لم ينخرطوا بعد في هذه التنظيمات المتطرفة، ويبرهن على سيادة القانون ونفاذه، وأن لا تهاون مع كل من يستحل الدماء ويعتدي على شرعية الدولة وكيانها ويتآمر على أمنها واستقرارها لتحقيق مصالح أعداء سواء كانوا تنظيمات أو دولا». وأوضح أن «ذلك سيحدث إرباكا بين أتباع تلك التنظيمات ومناصريها، وسيحطم الهيبة المصطنعة والموهومة لتلك الجماعات».
وتابع الزيادي، خلال حديث مع «الشرق الأوسط»، أن «لدى السعودية من الإمكانات والقدرات الأمنية الاحترافية ما يكفي للتصدي لمثل هذه التهديدات التي طالما وجهت إليها من هذه المجموعات الإرهابية، ورعاتها من بعض الدول الإقليمية وتحديدا إيران. وأن السعودية تعمل بحزم وصرامة مع ملف الإرهاب خلال عقد ونصف، وفككت كثيرا من الشبكات والخلايا حتى قضت على فرع تنظيم القاعدة في السعودية».



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟