خريطة مصادر أموال «داعش» ونظامه المالي

الخزانة الأميركية: أكثر التنظيمات الإرهابية ثراء.. وعوائده من النفط والضرائب تقارب ملياري دولار

خريطة مصادر أموال «داعش» ونظامه المالي
TT

خريطة مصادر أموال «داعش» ونظامه المالي

خريطة مصادر أموال «داعش» ونظامه المالي

رَسَمت تقارير ومعلومات لوزارتي الخارجية الأميركية والخزانة وأجهزة الاستخبارات الأميركية «خريطة» لما يمكن أن يُطلق عليه اسم «النظام المالي لتنظيم داعش». وقدرت الأموال التي حصل عليها التنظيم من بيع النفط وفرض الضرائب ونهب البنوك (المصارف) وغيرها بما يقترب من ملياري دولار. ولقد رصدت التقارير الوسائل التي يجني بها «داعش» مئات الملايين من الدولارات، وتعاملاته بالأموال السائلة في دفع الرواتب، والإنفاق على توفير الخدمات في المناطق التي يسيطر عليها، وأيضًا طرق تهريب تلك الأموال السائلة عبر الحدود، بعيدًا عن الطرق التقليدية للنظم المالية الرسمية، بما يجعل تعقب وملاحقة العمليات المالية للتنظيم أمرًا صعبًا. وتضع هذه الخريطة لعوائد التنظيم ونفقاته ونظامه المالي المجتمع الدولي بأسره أمام تحدي كيفية مواجهة تنظيم إرهابي بهذا القدر من الثراء والقدرة على التخطيط، وكيفية اختراق نظمه المالية وقطع مصادر تمويله.
وصف ديفيد كوهين، وكيل وزارة الخزانة الأميركية لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، تنظيم داعش بأنه «قد يكون أكثر المنظمات الإرهابية تمويلاً وثراء»، مشيرًا إلى أن التنظيم يملك ثورة مالية طائلة ولديه معدات عسكرية وأسلحة، ويعمل بنظام مالي لدفع رواتب الموظفين والإنفاق على إنتاج الأشرطة الدعائية، وعلى شن العمليات الانتحارية، والهجمات الإرهابية، كتلك التي استهدفت العاصمة الفرنسية باريس، وأيضًا تجنيد واستقدام الشباب من المقاتلين الأجانب إلى سوريا.
في تقرير لوزارة الخزانة الأميركية تبين أنه «خلافًا للكثير من الجماعات الإرهابية التي تموّل نفسها، فإن (داعش) يحصل على عشرات الملايين من تبرّعات تأتيه من عدة دول في الشرق الأوسط»، وقدّرت الوزارة أن ما حصل عليه التنظيم المتطرّف من تبرّعات خاصة من أشخاص بلغ 40 مليون دولار أميركي خلال العام الماضي وحده، إضافة إلى ما حصل عليه من أموال من خلال نشاطاته الإجرامية الأخرى مثل تهريب الآثار وبيع المقتنيات الفنية إلى تجّار السوق السوداء والمهرّبين في المنطقة، وكذلك بيع النفط بأسعار أقل من السوق، والاتجار بالفتيات والنساء، والابتزاز لحصول على فديات لقاء الإفراج عن الأسرى والرهائن. ووفق التقديرات المتوافرة فإن عوائد «داعش» تصل إلى ما بين مليون إلى ثلاثة ملايين دولار في اليوم الواحد.
* النفط.. أكبر مصادر الدخل
من جهة ثانية، صرّح مسؤول كبير في وزارة الخارجية الأميركية خلال لقاء مع «الشرق الأوسط»، قائلاً: «إن أهم مصادر دخل (داعش) بيع النفط، تضاف إليه بصورة جزئية مبيعات الغاز الطبيعي. ونحن نعتقد أن هذا المصدر يدرّ على (داعش) دخلا بمقدار 40 مليون دولار شهريًا، أي أكثر من مليون دولار يوميًا بإجمالي دخل سنوي يقترب من 500 مليون دولار. أما المصدر الثاني من حيث الأهمية بالنسبة لتغذية مداخيل التنظيم ما يفرضه (داعش) من ضرائب ومكوس على السكان في المناطق التي يسيطر عليها، فهو يفرض ضرائب على السلع والخدمات العامة كتوفير المياه والكهرباء وعلى التبادلات التجارية، كما يفرض جزية (إتاوات) على الأقليات الدينية، وتوفر هذه الضرائب بشتى صورها دخلاً يتجاوز 500 مليون دولار في العام».
وأوضح المسؤول الرفيع بالخارجية الأميركية أن التقييمات المتوافرة حول ثروة «داعش» الإجمالية حاليًا هي مليار دولار من بيع النفط وفرض الضرائب، بالإضافة إلى ما استولى عليه التنظيم من أموال تصل إلى حدود 500 مليون دولار من البنوك العراقية التي هاجمها ونهبها، ثم هناك مصادر دخل الأخرى. واستطرد: «حسب تقديراتنا تقسّم إلى نحو مليار دولار من عوائد النفط ونهب ودائع البنوك، و750 مليون من عوائد الضرائب ومصادر الدخل الأخرى».
ثم أوضح متابعًا ومفصلاً: «أدخلنا تحت بند المصادر الأخرى الحصول على فديات مقابل إطلاق الرهائن، وتلقّي تبرعات من الأفراد المناصرين، وعوائد جرائم نهب المقتنيات الأثرية وتهريبها وبيعها، إضافة إلى عمليات النهب عمومًا، إلا أن كل هذه المصادر أصبحت تشكل جانبًا صغيرًا من إجمالي دخل التنظيم». وأضاف المسؤول الأميركي: «حسب تقييمنا فإن التبّرعات لا تشكّل مصدرًا كبيرًا من الموارد المالية لـ(داعش)، ولا نستطيع أن نقول إننا استطعنا قطع تلك المصادر تمامًا، لكن ثمة تعاونًا كبيرًا ونشطًا مع الدول الأعضاء في التحالف الدولي، مما أدى إلى تضييق قدرة (داعش) على الحصول على أموال من تلك المصادر».
* سُبُل مكافحة التنظيم ماليًا
وحول مكافحة «داعش» ماليًا، والجهود التي تبذلها الولايات المتحدة، وبقية دول التحالف لقطع مصادر تمويل «داعش» ومدى النجاح في تلك الجهود، قال لنا مسؤول الخارجية الأميركية: «لقد تمكّنت الولايات المتحدة، بالتعاون مع التحالف الدولي لمكافحة (داعش) ومجموعة الدول لمكافحة (داعش) ماليًا التي تضم 29 دولة، من بذل جهد كبير، فلقد تحرّكت الولايات المتحدة منفردة، وأيضًا بمشاركة دول عدة في وضع قادة (داعش) والموظفين الماليين على قوائم العقوبات. ومنها، على سبيل المثال، ما أعلنته الولايات المتحدة في 29 سبتمبر (أيلول) الماضي عن وضع 25 شخصًا من قادة (داعش) وخمسة كيانات مالية على قائمة العقوبات، كما تعاونت الولايات المتحدة مع الحكومة العراقية لقطع فروع البنوك التي تقع داخل المناطق الواقعة تحت سيطرة (داعش) عن النظام المالي العالمي». وأضاف: «وعقدت مجموعة مكافحة (داعش) ماليًا ثلاثة اجتماعات في العاصمة الإيطالية روما في مارس (آذار) الماضي، وفي جدة بالسعودية في مايو (أيار)، وأخيرًا في العاصمة الأميركية واشنطن في أوائل أكتوبر (تشرين الأول)، وذلك لمناقشة خطط وجهود قطع مصادر تمويل التنظيم. وبالفعل، أُنشئت مجموعات صغيرة لإعداد مقترحات حول مزيد من الخطوات الهادفة لضرب مصادر تمويل (داعش) من النفط، ومقترحات أخرى لمنع (داعش) من الاستفادة من الجماعات الإرهابية الأخرى، وإقرار إجراءات قوية ضد جريمة تهريب الآثار، وتضييق قدرات (داعش) في الحصول على فديات، بالإضافة إلى تضييق قدرة (داعش) على الحصول على تبرّعات وتمويل عبر الحدود، وأخيرًا، تعزيز التعاون مع الشركاء في الإقليم كي لا تتمكّن (داعش) من شن عمليات إرهابية وهجمات عبر الحدود. ولقد أوفى عدد كبير من الدول بالتزاماته، كما أن الضربات الجوية لقوات التحالف استهدفت مواقع وحقول استخراج النفط التابعة لـ(داعش)، وكثفت تلك الضربات في غضون الأسابيع الماضية».
وتحدث عن محاولات «داعش» لاستقدام وتوظيف خبراء في استخراج النفط واستقدام معدات لاستخدامها في علميات استخراج النفط.
وعلى صعيد الاتجار بالآثار، أشار المسؤول الأميركي إلى تحقيق نجاحات وتقدّم في مجال مكافحة جرائم تهريب الآثار وتهريبها، شارحًا: «لقد عملنا مع اليونيسكو ومن خلال قنوات قانونية ولقاءات في نيويورك وباريس لرفع مستوى الوعي حول الآثار المحتمل أن يُقدم (داعش) على تهريبها، ومخاطر التورّط في شراء تلك الآثار».
وهنا اعترف المسؤول الأميركي بإقدام «داعش» إلى عقد عمليات تجارية عبر الحدود مع تجار داخل الأردن وتركيا وغيرها من الدول المُجاورة، وفصّل: «نعم، هناك عمليات تجارية لـ(داعش) عبر الحدود، لكن الشركاء في التحالف الدولي يبذلون كل الجهد لمنع تلك العمليات».
بالعودة إلى ديفيد كوهين، فإن وكيل وزارة الخزانة الأميركي لشؤون الإرهاب والاستخبارات المالية، ذكر في خطابه أمام مركز كارنيغي بواشنطن خلال أكتوبر الماضي أن «(داعش) جمع ثروة غير مسبوقة من مصادر مختلفة عن الكثير من المنظمات الإرهابية الأخرى، إذ لا يعتمد (داعش) على نقل الأموال عبر الحدود الدولية، بل يحصل على الغالبية العظمى من أمواله من الأنشطة الإجرامية والإرهابية الداخلية». ويشكل هذا الواقع عقبة أمام وزارة الخزانة الأميركية التي تعمل على ملاحقة أعدائها من خلال الضغط على البنوك لقطع التعاملات المالية. في حين يقوم «داعش» باستخدام وسطاء لتهريب الأموال داخل وخارج الأراضي التي يسيطر عليها، من خلال طرق تهريب سرية قديمة لا يعرفها سوى المهربين الذين عملوا في تهريب النفط للكويت وإيران لعقود خلال حكم الرئيس العراقي صدام حسين، بعد فرض عقوبات اقتصادية غربية على العراق.
* المعابر الحدودية
ومن جانبها، تفيد مجلة «نيوزويك» الأميركية بأن معظم عمليات تهريب الأموال يجري عبر المعابر الحدودية بين تركيا وسوريا - بصفة خاصة مدينة غازي عنتاب، بجنوب تركيا، القريبة من حدود سوريا - وتنقل المجلة عن مسؤولين بوزارة الأمن الداخلي الأميركية أن «داعش» يستخدم تقنيات متقدمة لكنها في معاملاتها المالية لا تستخدم نظام «بيتكوين»Bitcoin وهو نظام للتبادل المالي باستخدام عملات افتراضية، كي تتجنب التعامل مع النظام المالي العالمي. وحسب مصادر مسؤولة، يلجأ أفراد «داعش» إلى وضع الأموال في حقائب بحيث يسهل تهريب مليون إلى مليوني دولار في حقيبة سفر واحدة. وحسب كلام «نيوزويك» استولى «داعش» على 12 بنكًا في مدينتي الموصل وتكريت ونهب خزائن البنوك بما يقرب من 1.5 مليار دولار، في حين أشار شهود عيان إلى أن مقاتلي التنظيم عندما استولوا على الموصل «أخذوا القلائد من النساء والأقراط من آذانهم ونهبوا الأثاث والسيارات وأخذوا الماشية».
والواقع أن «داعش» يفرض ضرائب عالية على السلع والرواتب والشاحنات التي تمر في المناطق التي يسيطر عليها، كما يفرض ضرائب على حاصلات القمح والشعير وغيرها من المحاصيل الزراعية. وتقدر بعض التقارير حصول «داعش» على 200 مليون دولار من صوامع القمح العراقية وحدها، إضافة إلى نهب ممتلكات أبناء الطوائف المسيحية والإيزيديين، وتصل عوائد الضرائب ونهب الممتلكات إلى ما يزيد عن 360 مليون دولار سنويًا.
ويشير تقرير لـ«منتدى الشرق الأوسط» إلى أن «(داعش) يفرض ضرائب في شكل بطاقة هوية لمنح الصفح عن السكان الذين عملوا في أنظمة لا يعتبرها التنظيم أنظمة تتبع تعاليم الإسلام، وتصل تلك الضريبة إلى 2500 دولار». وفي المقابل، تشير تقارير الاستخبارات الأميركية إلى أن التنظيم استحوذ على سيارات وأسلحة وذخائر أميركية الصنع استطاع استخدامها أحيانًا، وعمد إلى بيعها في أحيان أخرى، إضافة إلى مولدات وكابلات كهربائية وعقارات تعود ملكيتها للجيش العراقي والمسؤولين والسياسيين والعائلات الغنية.
وفي أعقاب ما قام به «داعش» من تدمير ممنهج للمواقع الأثرية المهمة، فإنه ربح كثيرًا من وراء بيع تلك الآثار وتهريبها إلى تجار الآثار عبر تركيا والأردن ومنها إلى الدول الأوروبية. وفي هذا المجال تقول التقديرات الأميركية إن تجارة الآثار وفرت لـ«داعش» دخلاً إجماليًا يربو على 100 مليون دولار سنويًا.
وعلى صعيد التبرعات الفردية والشخصية، كما سبقت الإشارة، تشكل التبرعات التي يحصل عليها التنظيم من مناصرين ومتعاطفين من رجال أعمال أغنياء من بعض الدول الخليجية جانبًا مهمًا من عوائد التنظيم، وقدّرت وزارة الخزانة الأميركية أن ما تلقاه «داعش» من تبرعات خلال عامي 2013 و2014 بلغ 40 مليون دولار، حصل عليها التنظيم من خلال جمعيات خيرية ومؤسسات لتقديم الإغاثة الإنسانية ومساعدة الأيتام. ولقد رصد معهد بروكينغز في تقرير مفصل أسماء الشخصيات المتبرّعة وطرق جمع الأموال وإرسالها لـ«داعش». بينما تحدث تقرير للأمم المتحدة عن أن «داعش» حصل ما بين 35 مليون دولار و45 مليون دولار من خلال عمليات خطف الرهائن والحصول على فدية مقابل إطلاق سراح كل منهم.
* دور نظام الأسد
وبخصوص قدرة «داعش» على الحصول على الأسلحة والذخائر، يقول مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) لـ«الشرق الأوسط» إن «عمليات تهريب الأسلحة منتشرة بكثرة في دول منطقة البلقان في أعقاب انهيار يوغوسلافيا، إضافة إلى ما استولى عليه (داعش) من كميات كبيرة من الأسلحة والذخيرة، بما في ذلك الدبابات وقاذفات الصواريخ ومدافع الهاوتزر (الميدان) من المخازن والثكنات العسكرية التي كانت تابعة للحكومة العراقية».
ويقول الدكتور ماثيو ليفيت، مدير برنامج الاستخبارات ومكافحة الإرهاب في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والخبير السابق بوزارة الخزانة الأميركية ومكتب التحقيقات الفيدرالي: «كل التسميات، مثل (داعش)، وتنظيم القاعدة في العراق وشبكة الزرقاوي كلها تصب في بوتقة واحدة، وجميعها تحصل على الأموال من خلال القيام بأنشطة إجرامية». ويتابع: «يعمل (داعش) مثل جماعات المافيا، ومجموعات الجريمة المنظمة ويضع قواعده الخاصة مثل فرض الإتاوات على السكان وابتزازهم، فعلى من يريد قيادة شاحنة لنقل البضائع، أن يدفع مقابل استخدام الطريق الذي يسيطر عليه التنظيم. ويتحكم (داعش) أيضًا في محاصيل المزارعين في الرقة من القمح والقطن وفي صوامع الحبوب، وكل هذا يوفر لهم قوة اقتصادية وتمويلا ماليًا كبيرًا».
ويستطرد الخبير في مكافحة الإرهاب فيقول: «رغم ابتعاد (داعش) عن النظام المالي الرسمي فإن لديه مجموعة من الطرق للوصول إلى النظام البنكي لتسهيل نقل كميات صغيرة من الأموال السائلة وتمويل هجمات إرهابية». ويشير إلى أن هناك أكثر من 20 مؤسسة مالية سورية تعمل مع «داعش»، ويشجع نظام الأسد تلك المؤسسات لتعزيز مصالحها التجارية الخاصة مع التنظيم. ومع انخفاض أسعار النفط العالمية، يرى الخبراء أنه من المرجح أن يضطر «داعش» إلى خفض أسعار بيع النفط. وبالتالي التحسب انخفاض عوائده الضخمة من هذا المصدر. وحسب الخبراء فإن «داعش» يفتقر إلى الخبرة والمعدات اللازمة لإنتاج النفط، وهو يستخرج النفط الخام فقط، وبالتالي يستفيد جزئيًا من الإنتاج المحتمل لحقول النفط الواقعة تحت سيطرة التنظيم.
وعلى الرغم مما قد يبدو من إمكانات لدى «داعش» لإدارة نظام مالي فريد، تشكّك صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية في قدرات «داعش» على الاستمرار على المدى الطويل اعتمادًا على نظامه المالي الحالي. وترى أنه ليس لدى التنظيم المتطرّف أي نموذج مالي مستدام على المدى الطويل يتيح له القدرة على الوصول للأسواق الدولية الرسمية، إلا أنها تؤكد أن المجتمع الدولي لا يملك ترف الانتظار حتى يتعرض التنظيم لخراب مالي. ومن هذا المنطلق يتفاءل الخبراء بأن تكثيف الضربات الجوية للتحالف واستهداف حقول النفط والمنشآت النفطية التابعة لـ«داعش» سيقلص تدريجيًا من إمكانياته المالية. وحقًا، يشير تقرير لوكالة «بلومبيرغ» إلى أن الضربات الجوية الأميركية ضد مواقع «داعش» ومنشآت النفط التي يسيطر عليها قد تكلفت 2.44 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الأولى من بدء الغارات الجوية لقوات التحالف.
من ناحية ثانية، يلحظ تقرير صادر عن خدمة أبحاث الكونغرس الأميركي أن مبيعات «داعش» النفطية انخفضت بشكل كبير منذ بداية الحملة الجوية للتحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد مواقع التنظيم في سوريا والعراق. ويذكر التقرير أن الولايات المتحدة دمّرت ما يقرب من نصف الطاقة التكريرية للنفط للتنظيم، وأسفرت الضربات عن مقتل عدد من موظفيه وعامليه من ذوي الخبرة النفطية، إضافة إلى ملاحقة وسطاء وتجار السوق السواء، وتشجيع تركيا للقضاء على عمليات التهريب التي تتم عبر حدودها.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.