تحقيق حاجةِ شعبٍ إلى الحقيقة يلزمها توفر أناس يحبون الحقيقة

سيمون فايل: فيلسوفة المصنع والشرط العمّالي

تحقيق حاجةِ شعبٍ إلى الحقيقة يلزمها توفر أناس يحبون الحقيقة
TT

تحقيق حاجةِ شعبٍ إلى الحقيقة يلزمها توفر أناس يحبون الحقيقة

تحقيق حاجةِ شعبٍ إلى الحقيقة يلزمها توفر أناس يحبون الحقيقة

عملت الفيلسوفة سيمون فايل (1909 - 1943)، أستاذة مبرزة في الفلسفة في التعليم الثانوي لمدة أربع سنوات، إلا أنها سرعان ما ستتخلى عن وظيفتها، بعد أن قررت أن تصبح عاملة في المصانع الفرنسيّة، بفضل أفكارها الماركسيّة (معادية للستالينيّة)، حيث تبدي دومًا تعاطفًا لا متناهيًا مع الفقراء والبسطاء الذين تقتسم معهم كل ما تملك، بما فيها أجرتها الشهريّة (قررت العيش بخمس فرنكات فرنسيّة في اليوم، وتودع ما تبقى من أجرتها الشهريّة في صندوق التضامن مع عمال المناجم). وكانت سيمون تلتقي مع العاطلين والعمال في المقاهي، وتمنحهم ثقافة عامة للالتزام السيّاسي. وأعطت دروسًا في الجامعات الشعبيّة (انخرطت بصدق في تحليل القضايا التي شغلت عصرها في المنابر التقدميّة).
تنتمي سيمون إلى عائلة يهوديّة - برجوازيّة، وهي أخت عالم الرياضيات أندري فايل، والتلميذة النجيبة للفيلسوف الفرنسي اللاّمع: الآن (إميل شارتييه)، الذي أثّر فيها تأثيرا بليغًا، واستلهمت منه أسلوبه في الكتابة والتعبير، وظلت وفيّة له ولروحه. وقد شجعها كثيرًا بمناسبة صدور دراستها «تأملات حول أسباب القمع والحرية»، معتبرًا إياها قلمًا واعدًا ونبراسًا للأجيال المقبلة.
لم تعمِّر العذراء الحمراء (كما نعتها الآن)، سوى أربعة وثلاثون سنة، كتبت خلالها ما يعادل خمسة وعشرين كتابًا - تشهد على أنها فيلسوفة متجذِّرة وشرسة بشكلٍ غير مسبوق - صدرت أعمالها كاملة عن دار غاليمار، في سبعة عشر جزءًا، موزعة على سبع مجلدات.
لم تكن فايل مجرد مدرِّسَة عاديّة تؤدي وظيفة مؤسساتيّة، بل كانت نموذجًا لفيلسوفة ملتزِمة بقضايا المضطهدِين الذين كافحت من أجلهم طوال حياتها، مناضلة نقابيّة وسياسيّة شاركت في حملات التضامن والإضرابات القطاعيّة (شاركت بقوة في الإضراب الشهير سنة 1936)، وجالست العاطلين والعمال وخبرت محنتهم، كما صادقت تلامذتها وأحبتهم بإخلاص، مما أتاح لها أن تضع أسسًا جديدة لتربية تقوم على التمرُّد على الجاهز والمألوف. والتحقت بالمقاومة الإسبانيّة سنة 1936 إبان الحرب الأهليّة لمواجهة انقلاب فرانكو الفاشي.
وُسِمت فايل بكونها الفيلسوفة الروحانيّة أو الفيلسوفة الماركسيّة ذات النفحات الصوفيّة، غير أن ما آل إليه فكرها، في السنوات الأخيرة من حياتها، ما بين 1940 و1943، كان أقرب إلى الفلسفة الصوفيّة منه إلى الماركسيّة. ولنا شهادة في رسالة من تروتسكي إلى فيكتور سيرج يوم 30 يوليو (تموز) 1936، يدعوه إلى قطع العلاقة مع فايل لأنها لم تعد متحمسة للفكر الثوري، ولم تعد مناصرة لقضايا البروليتاريا (هذا النبي الأعزل بتعبير إسحق دويتشر، استقبلته فايل في منزل عائلتها في ديسمبر (كانون الأول) 1933. انظر: «سيمون فايل: حوار مع تروتسكي، 2014).
لا نجزم ما إن كانت حنة أرنت قد استعارت عنوان شرط الإنسان الحديث من سيمون فايل، التي تحدثت قبلها عن الشّرط العمّالي. ففي كتابها هذا، ترصد عذراء الفلسفة المعاصرة، مجموع الشروط التي تعاني منها اليد العاملة الصناعيّة في فرنسا. وقد مثل اقتحامها للعمل في المصانع، أقصى درجات الالتزام السيّاسي بقضايا المستغلين، حيث صار الاستغلال والاضطهاد ومختلف أنواع القهر والاستعباد المعاصر، عيشًا يوميًّا ملازمًا لها طوال تلك التجربة، أو ذلك «اللّقاء مع الحياة الحقيقيّة والفعليّة»، كما عبرت في رسالتها إلى تلميذة (الشّرط العمّالي، 20). ولهذا يعود لها الفضل في اختبارها حقيقة أفكار ماركس ومن تبعه في المذهب من مختلف المدارس، وما شعارها البرّاق إلا خير دليلٍ على ما خبرته: «الوحوش الثلاثة للحضارة البشريّة الراهنة، هي المال والتِقانَة والجَبر».
بدءا من سنة 1938، دخلت فايل في علاقات مع كثير من رجال الدّين، ومنهم تحديدًا جوزيف ماري بيرين (صاحبته ما بين 1940 – 1942). وقد أثّر فيها كثيرًا، ولعب دورًا في تجربتها الروحيّة التي طمستها طوال حياتها، ولم تظهر إلا من خلال رسائلها، بعد وفاتها (نتيجة نوبة قلبيّة قد يكون السّبب وراء معاناتها الطويلة مع مرض السّل). وقد سبق لفايل أن تحدثت عن الموت قبل وفاتها، «لقد فكرت في الموت في سن 14 بعد أن عشت شهورًا في الظلمات» (الرسالة الرابعة: السيرة الروحيّة - في انتظار الله). لهذا «امتنعتُ دائمًا، عن التفكير في حياةٍ مستقبليّة. وصرختُ دومًا أن لحظة الموت هي معيار وهدف الحياة» (الرسالة الرابعة)، لأن المستقبل في نظرها، «لن يجلب لنا أي شيء، ولن يمنحنا أي شيء؛ إننا نحن من يصنعه، من يمنحه كل شيء بما فيه حياتنا نفسها».
ليس لدينا دليل فيما إن كانت فايل قد التقت مع حنا أرنت، لكن من المؤكد أن بينهن علاقة فكريّة غير مباشرة، وبالقدر الذي نعرف أرنت كمناهضة للتوتاليتاريا وللفكر الجامد والوثوقي، ينبغي أن نعترف أن سيمون فايل، قد خطّت كلماتها القوية ضد الفاشيّة وضد الأنظمة الشموليّة، في «تأملات في قضايا الحرية والقهر الاجتماعي»، وفي «كتاباتها السياسية والتاريخية» التي جمعت فيما بعد. وعلى هذا الأساس، فإن فكر حنا أرنت الفلسفي، يلتقي مع فكر سيمون فايل في كثير من القضايا من قبيل: العنف، الشّر، الحريّة، الألم، الحقيقة، التجذّر، نقد التوتاليتاريا، المحبّة.. أي في مجمل قضايا السيّاسة والأخلاق والدين.
يمنح صدق فايل لكلماتها معاني خاصة جدًا، معاني نابِعة من عمق مأساتِها التي تعتبرها بمثابة بلاء عليها أن تتحمله حبًا في الله. وكما تقول في سيرتها الروحيّة: «تغيّرت حياتي لأول مرة في سفري إلى إيطاليا، حينما ركعت على ركبتي أمام الكنيسة» (في انتظار الله). غير أن هذا الحدث لم يكن وحده كافيًا لتفسير صلة فايل بالدين المسيحي، لأنها لم تمارس التدين يوما، واكتفت بالإيمان بالله ومحبته، لأن «الحب إلهي يحطم القلب الإنساني لما ينفذ إليه» (المعرفة الخارقة، 308). تلك المحبة التي «هي الله ذاته» (رسالة إلى الأب جو بوسكيه)، بالقدر الذي صارت فيه الطبيعة عند سبينوزا متوحدة في الله. لهذا: «خلَقَ اللهُ عن محبة ومن أجل المحبة. لم يخلُق اللهُ غيرَ المحبة ذاتها وغيرَ طُرُق المحبة. خلَقَ كلَّ أشكال المحبة. خلَقَ كائناتٍ قادرةً على المحبة من جميع المسافات الممكنة. أتى، هو نفسُه، لأنه لا أحد غيره قادر على القيام بذلك، إلى المسافة القصوى، المسافة اللانهائيّة. هذه المسافة اللانهائيّة بين الله والله، كآبة déchirement مُطْلَقة، ألمٌ لا يدانيه أي ألم» (الخبرة مع الله: حب الله والبلاء، ترجمة محمد علي عبد الجليل، معابر). وبهذا يكون الله «في جوهره، محبةٌ إلى درجة أنَّ الوحدانية التي هي تعريفه ذاته بأحد المعاني ليست سوى مجرَّد نتيجةٍ للمحبّة» (المصدر نفسه) وتضيف: «هناك شكلان من المحبة، اللقاء والانفصال. وهما ضروريان جدًا. وينطوي الاثنانِ على الخير نفسه، الخير الوحيد، المحبة. لأنه عندما يقترب شخصان ليسا صديقَينِ من بعضهما، لا يكون هناك لقاء. وعندما يبتعدان لا يكون هناك انفصال. هذان الشكلانِ حَسَنانِ أيضًا لاحتوائهما على الخير نفسه». (حب الله والبلاء).
كتبت أرنت عن المحبة في أطروحتها عن أوغسطين (1929)، لكنها لم تبلغ ما بلغته فايل من تعالٍ وتسامٍ يصير فيه البلاء والشر قدرًا لا مفر منه: «أعتقد أنَّ أصل الشرِّ، عند الجميع ربما، بل عند من أصابهم البلاء بصورةٍ خاصة، وخصوصا إذا كان البلاء بيولوجيًا، إنما هو حلم يقظة. إنه العزاء الوحيد، غِنى المبتلين الوحيد، العون الوحيد لحمل الثقل الرهيب للزمن؛ عونٌ بريء لا غنى عنه على أي حال. فكيف يكون ممكنًا الاستغناء عنه؟ ليست له سوى سيئةٍ واحدة، هي أنه غير واقعي. وعزوف المرء عنه حبًا بالحقيقة يعني حقًا تخلِّيه عن جميع ممتلكاته بدافع جنون الحب واتِّباع من كان الحقَّ بذاته». كل البشر يستسلم للشر عن غير وعي، مادام أنه لا يمكن أن يعيش وحيدًا في العالم، لأن هذا الأخير هو بوابة ومدخل وحاجز، وفي الوقت نفسه، جسر للعبور «ليس ضروريًا أن يقول المرء نعم للشر حتى يتملَّكه الشرُّ. ولكنَّ الخير لا يشغل النفسَ إلاَّ إذا قالت له نعم» وهكذا فـ«أقصى ما يمكن أن يفعله الكائن الإنسانيُّ، هو أن يحافظ في داخله على سلامة ملَكةِ قول نعم للخير» (رسالة إلى جو بوسكيه). وإذا كانت دعوة فايل هي الجرأة في قول «نعم للخير»، فإن دعوة أرنت لملايين الضحايا الذين قادهم بضع مئات من جنود النازيّة إلى المحرقة، هي قول: «لا»، لا للشر وللهمجية: «لماذا لا يستطيعون التمرد؟». ذلك هو السؤال الذي أحرق حنة وهي تبحث عن أصل الشّر، لا بما هو بلاء ميتافيزيقي يجد أساسه في القدر، وإنما بلاء بشري يعبر أيّما تعبير عن تصحر هذا العالم. فكل المآسي «التي يمكن أن نتخيلها تعود إلى مأساة واحدة: إضاعة الوقت»، لأن إنسانا يعيش وحيدًا في العالم، لا يمكنه أن يتمتع بأية حقوق لأن قدره هو الواجبات لا غير.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!