أثر الفيزياء المعاصرة في تطوير المنطق

تشهد انشطارًا أعجز العلماء عن بناء نظرية موحدة لها

أثر الفيزياء المعاصرة في تطوير المنطق
TT

أثر الفيزياء المعاصرة في تطوير المنطق

أثر الفيزياء المعاصرة في تطوير المنطق

إذا كان المنطق الأرسطي قد طالته رجة كبيرة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بسبب ما لحق علم الرياضيات من تحولات معرفية مست نظرية الهندسة بظهور الأنساق اللاأوقليدية، والطروحات النظرية الجديدة التي شهدها علم الجبر، بفعل تأسيس نظرية المجموعات مع جورج كانتور، فإن أزمة هذا المنطق في الحقل الفيزيائي، نتجت، بالأساس، في القرن العشرين، عندما انتقل علم الفيزياء إلى درس العالم المتناهي في الصغر، أي العالم الذري. حيث كان اكتشاف هذا المجال الوجودي، قلبا جذريا للمفهومات المنطقية التي اعتادها العقل الفلسفي والعلمي من قبل.
يرجع سبب عجز المنطق الأرسطي عن استيعاب ذلك المجال الفيزيائي، إلى كون النظرية المنطقية الأرسطية، تقوم على مبدأ منهجي ثنائي القيم (مبدأ الثالث المرفوع). وكانت الفيزياء خلال ممارستها النظرية والعملية ملزمة بهذه الثنائية، وحريصة على المحافظة عليها، حتى عندما كانت تعترضها العوائق الاستدلالية والوجودية؛ ورغم بعض الإشكالات التي اعترضت الرؤية المنطقية الثنائية في تاريخ الفيزياء، لم يكن ذلك بكاف لمعاودة النظر في هذا الثابت المنهجي المنطقي. لكن مع بداية القرن العشرين، ومع اختراق جدار الذرة، أصبحت الفيزياء أمام عالم جديد غريب ومدهش، من حيث بنائيته وأساليب انتظامه (أو لا انتظامه!). ولقد كان ذلك أكبر فشل فيزيائي للمنطق الكلاسيكي، أدى إلى الاقتناع باستحالة التفكير داخل الحقل الذري بمنطق ثنائي القيم، الأمر الذي فرض تأسيس منطق ثلاثي القيم أو متعدد القيم.
هذا النوع من الكشوفات، هو ما يشكل بلغة غاستون باشلار، عائقا إبستملوجيا يفرض تغيير نسق الرؤية العلمية السائدة، وتأسيس نسق جديد قادر على استيعاب المستجدات.
فما التحول الذي تم في نظرية المنطق بسبب مستجدات الفيزياء الذرية؟ وما الخصوصية الوجودية للحقل الفيزيائي الذري التي أرغمت النظرية الفيزيائية على التخلي عن مبدأ الثالث المرفوع، ومراجعة مختلف البداهات الكلاسيكية للمنطق؟
ثمة وقائع متعددة (مثلا ما يسمى تجربة قطة شرودنجر، وإشكال هيزنبرغ المتعلق بتحديد موقع الإلكترون وسرعته)، أثبتت عجز المنطق الأرسطي، وأكدت أن التفكير بمنطق ثنائي القيم مسألة ترفضها طبيعة الوجود الذري. وهذا ما طرح بإلحاح، إشكال تحديد القيم داخل المجال الكوانتي؛ ذلك لأن الذي فاجأ الفيزيائي داخل مجال الذرة، هو «عدم التحديد»، أو «القيمة الصفرية».
ففي داخل الحقل الذري ثمة ثلاث قيم، إذ هناك «وجود»، و«عدم»، و«لا تحديد». وقيم اللاتحديد كان لا بد من إدخالها لإمكان مقاربة كينونة الذرة، حيث إن الجسيم عندما ينتقل من حالة الوجود لا يستقر بالضرورة في حالة العدم، بل ثمة حالة ثالثة بين الوجود والعدم تم تسميتها بـ«اللاتحديد». ومن هنا أدرك المناطقة المشتغلون بإبستمولوجيا الفيزياء، أن الحالات الوجودية للجسم الذري غير قابلة للاستيعاب من مدخل منطق ثنائي القيم (وجود-عدم). وهذا ما دفع ميكاي Mackey وفرداراجان Varadarajan، إلى التوكيد على عدم صلاحية مبدأ الثالث المرفوع. كما دفع البعض، مثل جون فون نومان، إلى تأسيس منطق كوانتي.
لقد أبرزت تلك الأبحاث التي أنجزت في حقل علم المنطق، بناء على التحولات المعرفية التي شهدتها الفيزياء، نسبية ذلك العلم الذي ظل في الفكر الفلسفي الغربي - طيلة ألفي عام - بوصفه مطلقا منهجيا ومعرفيا لم يستطع أحد من الفلاسفة أن يتجرأ على تنسيبه. وحتى كانط (القرن الثامن عشر) الذي انتبه إلى أولوية الإشكال المعرفي، وأسس لمشروع معرفي نقدي، لم يكن ينظر إلى المنطق الأرسطي إلا بوصفه نموذجا معرفيا «ولد كاملا». ولذا لا نجد في تاريخ الفكر الغربي أي مراجعة نقدية فعلية لمنطق أرسطو. على عكس التراث الفلسفي العربي الذي شهد ميلاد نظرية منطقية فريدة مع ابن تيمية، الذي قدم نقدا شاملا للمنطق الأرسطي. أما في تاريخ الفكر الغربي، فلم تبدأ المراجعات النقدية إلا في القرن السابع عشر، مع المحاولة الديكارتية لنقد عقم القياس الأرسطي، ومحاولة بيكون لتأسيس أورغانون استقرائي، ومحاولة لايبنز لتأسيس منطق رمزي. لكن هذه المحاولات على أهميتها، لم تستطع بلورة نظرية منطقية تتخطى أرسطو. وكان لا بد من انتظار الاستحالات التي وقع فيها بسبب مستجدات الرياضيات والفيزياء الكوانتية. ومع هذه الاستحالات كان لا بد من تبديل المعايير المنطقية الأرسطية. وكانت محاولة المنطقي ألكسندوفيك فاسليف عام 1910، أولى المحاولات المعرفية لتأسيس منطق متعدد القيم. حيث قدم رؤية منطقية تقوم على ثلاث قيم بدلا من المنطق الثنائي الأرسطي، وهي القيم المثبتة والمنفية والمحايدة. ولم يؤد إدخال هذه القيمة الثالثة (المحايدة) تجاوزا لمبدأ الثالث المرفوع فقط، بل أدى إلى تجاوز مبدأ عدم التناقض أيضا. وقد صاغ لوكازيفتش حسابا لهذه القيم الثلاث، كما كان إسهام تلميذه ألفرد تارسكي بالغ الأهمية في تدقيق مفهوم القيمة الممكنة.
هذا المنطق المتعدد القيم الذي تم تقديمه لحل إشكالات معرفية لما استجد في حقل الرياضيات، سيشكل الدعامة النظرية والمفاهيمية لمعالجة الإشكالات التي طرحتها الفيزياء الكوانتية. ويعد «المنطقي البولوني زاويرسكي - يقول الأستاذ عبد السلام بن ميس - أول من فكر في تطبيق المنطق المتعدد القيم على الفيزياء الكوانتية، وذلك في مقال نشر بالبولونية سنة 1931، ثم أعيد نشره بالفرنسية سنة 1932، وينطلق هذا الكاتب من كون ثنائية موجة - جسم، ممثلة لتناقض أساسي في الفيزياء الكوانتية، ولا يمكن التعامل مع هذا التناقض إلا بمنطق ثلاثي القيم». (قضايا في الابستملوجيا ص 67). كما قام فون نومان وبيركوف، بنقد قانون التوزيعية بين الفصل والوصل في تطبيقاته الكلاسيكية، حيث أكدا عدم صلاحية هذا القانون للتعبير عن الحقل الفيزيائي الكوانتي.
لكن المناطقة والفيزيائيين، اعترضتهم في صياغة منطق للفيزياء صعوبة منهجية بالغة، حيث باءت محاولاتهم لإيجاد منطق شامل لمختلف الحقول الفيزيائية بفشل ذريع، بل كانت محاولات بايرون ووايسكر نموذجا واضحا لهذا الفشل.
وترجع حقيقة المأزق، إلى أن الفيزياء اليوم لا تزال مشطورة إلى نصفين، حيث لدينا نظرية النسبية لآينشتاين لتفسير العالم الميكروسكوبي، ونظرية الكوانتا لتفسير العالم الذري. وذلك لأننا لا يمكن أن ننظر من خلال القوانين الناظمة للعالم الميكروسكوبي إلى العالم الكوانتي. ولذا لا تزال الفيزياء إلى الآن، تشهد هذا الانشطار الذي أعجز العلماء والمناطقة في بناء نظرية منطقية موحدة للفيزياء.
وقد حاول آينشتاين إيجاد هذه النظرية الشاملة، القادرة على توحيد الفيزياء في حقليها الكوانتي والميكروسكوبي، لكن مشروعه انتهى إلى الفشل. ثم تجدد هذا الحلم في ستينات القرن العشرين، مع عالم الفيزياء الباكستاني، عبد السلام، والفيزيائيين الأميركيين، ستيفن وينبرغ وشيلدن غلاشو. غير أن العمل المضني الذي قاموا به لم ينته إلى إنجاز هذا التوحيد كاملا. وخلال العقود الثلاثة الماضية طرحت نظرية الأوتار الفائقة، منظورا جديدا لإمكان إنجاز هذه التوحيد النظري، وإن لم تستطع إنجاز ذلك في حدود آخر ما استجد لحد الآن في حقل الفيزياء. وأمام هذا العجز، فإن الأمر الأكيد، هو أن مستجدات الرياضيات والفيزياء، تفرض القول بأن علم المنطق لم يعد نموذجا معياريا واحدا ووحيدا، بل دخله هو كذلك، فعل التنسيب، فاستحال إلى نظريات منطقية متعددة لا منطق واحد.



مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي
TT

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

مجلة «المسرح» الإماراتية: مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي

صدر حديثاً عن دائرة الثقافة في الشارقة العدد 62 لشهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 من مجلة «المسرح»، وضمَّ مجموعة من المقالات والحوارات والمتابعات حول الشأن المسرحي المحلي والعربي والعالمي.

في «مدخل» مواكبة لحفل تكريم الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في إطار الدورة السابعة من مهرجان «المهن التمثيلية للمسرح المصري»، تثميناً لإسهاماته ومجهوداته في دعم ورعاية المسرح والفن في الوطن العربي؛ إذ تسلَّم عبد الله بن محمد العويس، رئيس دائرة الثقافة، ممثلاً عن حاكم الشارقة، درع التكريم، خلال افتتاح المهرجان في العاصمة المصرية القاهرة مساء التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 2024.

وبمناسبة انعقاد مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي في دورته الثامنة من 13 إلى 17 ديسمبر (كانون الأول) 2024، تضمَّن العدد استطلاعاً ضمَّ آراء مجموعة من الفنانين الإماراتيين حول مسيرة المهرجان ودوره في فتح آفاق جديدة للممارسة المسرحية المحلية والعربية، كما ضمَّ باب «رؤى» مقالتين حول التحديات والحلول الإخراجية والتمثيلية التي يقترحها المهرجان الذي ينظم في فضاء مفتوح بمنطقة «الكهيف» على العروض المشاركة فيه. في باب «قراءات» نطالع مجموعة مراجعات حول أبرز العروض التي شهدتها المسارح العربية في الفترة الأخيرة، حيث كتبت آنا عكاش عن عرض «ساعة واحدة فقط» للمخرج السوري منتجب صقر، وكتبت إكرام الزقلي عن مسرحية «بلا عنوان» أحدث أعمال المخرجة التونسية مروى المناعي، وتناول شريف الشافعي مونودراما «ودارت الأيام» للمخرج المصري فادي فوكيه، وتناول سامر محمد إسماعيل «تبادل إطلاق نار» للمخرجة السورية هيا حسني، وكتب إبراهيم الحسيني عن مسرحية «وحدي في الفراغ» للمخرج المصري رأفت البيومي.

في باب «حوار» مقابلة أجراها إبراهيم حاج عبدي مع الكاتب السوري أحمد إسماعيل إسماعيل الذي حاز عدداً من الجوائز في مجال الكتابة المسرحية للأطفال، وتحدث في الحوار عن بداياته، وأبرز المؤثرات الاجتماعية والثقافية التي شكَّلت شخصيته، وإشكاليات التأليف المسرحي للصغار.

وفي «أسفار» كتب الحسام محيي الدين عن رحلته إلى المملكة المغربية، حيث تعرف إلى جوانب من مشهدها المسرحي، انطلاقاً من متابعته للدورة السادسة والعشرين من المهرجان الدولي للمسرح الجامعي الذي نظمته جامعة الحسن الثاني.

وفي «أفق» مقابلة أجراها محمود سعيد مع الناقدة والباحثة والمترجمة المسرحية المصرية مروة مهدي التي أنجزت رسالتها للدكتوراه حول المتفرِّج المفترض في مسرح برتولد برشت، وأسهمت أخيراً في نقل أربعة من أبرز المؤلفات النظرية المعاصرة في مجال المسرح من اللغة الألمانية إلى اللغة العربية.

في باب «متابعات» مقالة عن تجربة المسرحي الفلسطيني جورج إبراهيم في تأسيس وإدارة مسرح «القصبة» الفلسطيني، وحوار مع الممثلة المغربية هند بلعولة، وآخر مع المخرجة التونسية وفاء الطبوبي. وكتب صبري حافظ في «رسائل» عن تجربة الفنان المصري خالد عبد الله الذي نجح في فرض نفسه على المسرح الإنجليزي في السنوات الأخيرة، وفي الباب ذاته نقرأ تغطيات للدورة الحادية عشرة من مهرجان كلباء للمسرحيات القصيرة، والدورة الرابعة عشرة لمهرجان الإسكندرية المسرحي الدولي، والدورة الثامنة لمهرجان المسرح العماني، إضافة إلى تقرير عن انطلاق الموسم المسرحي في الجزائر.