«فتاة كاتشينسكي» تتولى السلطة في بولندا

اليمين المتشدد المناوئ للمهاجرين ثبت أقدامه في الحكم بعد الانتخابات العامة

«فتاة كاتشينسكي» تتولى السلطة في بولندا
TT

«فتاة كاتشينسكي» تتولى السلطة في بولندا

«فتاة كاتشينسكي» تتولى السلطة في بولندا

تتفق الصحافة الألمانية والصحافة البولندية على وجود أوجه شبه كثيرة بين «المستشارة الحديدية» أنجيلا ميركل والزعيمة «الروبوتية» البولندية الجديدة بيآته شيدوو. والفرق هو أن ميركل، التي تعتز بتسمية «مستشارة الوسط»، تظهر ميلاً واضحًا نحو اليسار اليوم بالعلاقة مع سياسة استقبال اللاجئين، وفي الموقف من تركيا وإيران وروسيا، في حين تميل شيدوو إلى تشدد يميني أكبر بالعلاقة مع هذه المواضيع.
بافل كوبتشينسكي، الخبير البولندي في شؤون بلاده، يقول: «إن الصحافيين الذين يلقبون بيآته شيدوو بالـ(روبوت) بسبب نشاطها الدائب.. ليسوا على حق، لأنها تمتلك ما هو أكثر، فهي امرأة تفكر استراتيجيًا، وذكية ومخلصة». وطبيعي أن المقصود هنا هو إخلاصها الشديد لـ«عرّابها» السياسي ورئيس حزب القانون والعدالة اليميني المحافظ ياروسلاف كاتشينسكي. إذ تبدو شيدوو، بتسريحة شعرها القصيرة وشفتيها المزمومتين وبرودها الشديد، أكثر شبهًا بكاتشينسكي من والدها عامل المنجم كوشينيشكا.
ولجت بيآته شيدوو عالم السياسة في سن متأخرة نسبيًا، كما هي الحال تمامًا مع أنجيلا ميركل، أي بعد أن تخطت الثلاثين. ولكن إذا كانت ميركل قد نشطت في شبابها في تنظيمات «الشبيبة الشيوعية» في دولة ألمانيا الشرقية السابقة، فليس ثمة ما يدل على نشاط سياسي مماثل في شباب شيدو. وإذ تردد ميركل جملة «سننجح في ذلك» منذ تربّعها على كرسي المستشارية، تردّد شيدوو على الأسماع مقولة «سنحقق ما نريد» التي قد ترافقها كرئيسة وزراء لسنوات غير معروفة.
كان المستشار الألماني الأسبق هيلموت كول «عرّاب» ميركل الذي فتح أمام «الفتاة» - كما كان يحلو له تسميتها - أبواب الحزب الديمقراطي المسيحي، ثم أزاح كل المنافسين لها في الحزب على منصب المستشارية. وهكذا لصق بميركل لقب «فتاة كول» حتى اليوم على الرغم من تجاوزها سن الستين، ولقد كان إخلاصها لكول مفتاح نجاحها السياسي، كما هي الحال مع إخلاص شيدوو لراعيها وحاميها و«عرّابها» كاتشينسكي. والآن، وبعدما صارت ميركل تهدّد رقم كول القياسي في عدد سنوات الحكم (16 سنة)، عبّر كول عن أسفه لهذه الفتاة «العاقة» مؤخرًا حينما قال إنها «لم تكن تعرف الأكل بالشوكة والسكين» حينما نقلها من مختبرات الكيمياء إلى البرلمان الألماني (البوندستاغ).
ولايفّوت النقاد السياسيون البولنديون فرصة دون الإشارة إلى «فتاة كاتشينسكي» التي انتشلها زعيم اليمين البولندي المحافظ من مختبرات الجامعة الياغييلونية العريقة في مدينة كراكوف إلى برلمان وارسو. ولئن كانت شيدوو ستشارك الرئيس آندريه دودا في رسم الأدوار على المسرح السياسي البولندي، يعرف الجميع أن كاتشينسكي هو يمسك بكل الخيوط التي تحرك الاثنين.
* «كاتشينسكي.. بتنوّرة»
يتندر البولنديون على بيآته شيدوو، بسبب تبعيتها الظاهرة لكاتشينسكي وإخلاصها له، بأنها ليست أكثر من «كاتشينسكي بتنوّرة». ولقد تندّروا أكثر حينما ظهرت في النزال التلفزيوني، ضد غريمتها الليبرالية إيفا كوبتش، بجاكيتة حمراء لا تنسجم مع ثقافتها الكاثوليكية المحافظة، ولا مع طبيعتها الريفية.
لا تميل شيدوو إلى الأضواء كثيرًا، ولذا بقيت لفترة طويلة مجهولة الاسم لدى كثرة من البولنديين، وأيضًا لدى كثرة من الناخبين. ثم كسبت لقب «المرأة بالبروش»، لأنها كانت تتزين ببروش كبير على صدرها دائمًا وهي تظهر في المقابلات وفي الحياة العامة. ويعتبر نقادها «البروش» علامة أخرى على ثقافتها الريفية التقليدية التي حملتها معها من بلدة أوشفيشيم (أوشفيتز، الشهيرة بدورها الكبير في «المحرقة النازية» في جنوب بولندا.
الجميل في شيدوو أنها لا ترى في هذه السخرية المبطنة إساءة لها، بل تواصل عملها بالتنورة الزرقاء والبروش محققة الإنجاز تلو الآخر. وهي تقول: «أؤكد دائمًا على مكان ولادتي في الريف، لأنني لا أجد في ذلك تعبيرًا سلبيًا». كذلك قالت مرة في مقابلة تلفزيونية معلقة على لقب «كاتشينسكي بتنورة» بأنها لا تعتبر ذلك إهانة لها بل هي «فخورة» باللقب الذي يعبر عن إخلاصها لسياسة «قائد الحزب». وهنا تجدر الإشارة إلى البولنديين يستخدمون لقب «القائد» - الذي يوازي لقب «الفوهرر» عند الألمان - في وصف زعامة كاتشينسكي، إلا أن الخبير بافل كوبتشينسكي يؤكد أن هذا المفهوم يختلف في استخدامه البولندي تمامًا عن الاستخدام الألماني.
معروف عن بيآته شيدوو ترديدها جملة «القائد دائمًا على حق» التي تصف بها كاتشينسكي. ولذا، حينما سمعت منافستها إيفا كوبيتش بأن كاتشينسكي رشّحها لمنصب رئيسة الوزراء، قالت «هذا التفاف». وقصدها أن كاتشينسكي يلتف على حقيقة أنه دفع «فتاته» شيدوو إلى المقدمة لكي يحتفظ بموقعه القيادي كجندي «باسل في خدمة الشعب البولندي» وراء الكواليس.
* امرأة طبيعية جدًا
ولدت بيآته ماريا شيدوو يوم 15 أبريل (نيسان) 1963 في بلدة أوشفيشيم (آوشفيتز) الصغيرة بالقرب من مدينة بجيشيتش في جنوب بولندا، لعائلة عامل منجم لا علاقة لها بالسياسة. ودرست الابتدائية والإعدادية في بجيشيتش وهذا ما أهّلها بسهولة، وبعمر 35 سنة، لتبوء منصب عمدة المدينة الأخيرة طوال سبع سنوات بين 1998 - 2005 بعد دخولها عالم السياسة. وعلى المستوى الشخصي، تعيش شيدوو حياة زوجية اعتيادية مع زوجها مدير المدرسة إدوارد شيدو، وهي أم لشابين هما تيموتوشي وباجيج.
جيرانها، الذين يذكرون أنها كانت تسكن بيتًا مدهونًا بالأزرق على حافة الغابة، يقولون عنها إنها «امرأة طبيعية جدًا» هادئة ومجدّة في العمل في الحديقة، وهي تنتعل جزمتها المطاطية، كما أنها كانت أكثر سكان القرية رعاية للقطط. ويبدو أن حب القطط هواية تجمعها مع رئيسها كاتشينسكي، وهو سبب تعليق صحيفة «نويه زيورشر تسايتونغ» السويسرية على فوز شيدوو بأن «كاتشينسكي أطلق القطة المحبوسة في الكيس».
درست شيدوو علم الشعوب البدائية في الجامعة الياغييلونية، أعرق جامعات بولندا وإحدى أقدم جامعات أوروبا الشرقية والوسطى، في مدينة كراكوف، حيث لعبت كرة اليد في فريق الجامعة، ثم درست الإدارة الثقافية في جامعة وارسو بالعاصمة وارسو بين 1995 - 1998. وعملت 1987 - 1995 أستاذة مساعدة في المتحف التاريخي لمدينة كراكوف، وكانت تنهمك بتنظيم تمثيليات ولادة المسيح للكنيسة الكاثوليكية، كما أصبحت نائبة رئيس متطوعي دائرة الإطفاء في المدينة عام 2004.
ارتبطت مسيرة شيدوو السياسية بالأخوين التوأمين البولنديين المحافظين ليش وياروسلاف كاتشينسكي (اللذين توليا بالترتيب منصبي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة)، لكنها دخلت حزب القانون والعدالة عام 2005 فقط. ومن ثم وصلت إلى البرلمان في العام نفسه.
ثم أصبحت بعد 5 سنوات فقط اليد اليمنى لياروسلاف كاتشينسكي، ولا سيما، بعد مقتل ليش كاتشينسكي المباغت في حادث سقوط طائرة عام 2010، وانتقلت إلى وارسو، وغدت وزيرة للمالية ونائبة رئيس الحزب في السنوات الأخيرة.
ولقد باغتت شيدوو الجميع، بمن فيهم ياروسلاف كاتشينسكي، بإدارتها الحملة الانتخابية الناجحة لكبير أعوان الزعيم المحافظ آندريه دودا، الذي أصبح رئيسًا لبولندا منذ مطلع عام 2015. ولم تكن «السيدة الروبوت» بعيدة عن النجاح الأخير الذي أوصل حزب القانون والعدالة إلى الحكم بأغلبية مطلقة. وكانت دائمًا تردد كلمات «دامي راده»، التي تعني بالبولندية «سنحقق ما نصبو إليه».
* «حفظها الله»
من ناحية أخرى، تعترف شيدوو بأنها كانت أقرب إلى معسكر أعدائها الحاليين في «المنبر المدني الليبرالي»، لكنها كأي كاثوليكية مؤمنة، قالت في مقابلة تلفزيونية، «إن الله حفظها» من الانتماء لليبراليين. وكان التمسك بالتقاليد المسيحية الكاثوليكية، والوقوف ضد سياسة أوروبا المتساهلة تجاه اللاجئين، عنواني حملتها الانتخابية البارزين.
ووفق المتابعين، لم تصل شيدوو إلى كل هذه الأصوات من الناس بفضل برنامج حكومي مقنع، بل بفضل وعود قد لا تتحقق تتحدث عن مكافحة البطالة، ووقف موجات اللاجئين، والعودة إلى القيم المسيحية، وتشديد النظرة النقدية للاتحاد الأوروبي. وحين سئلت عن ضعف شعاراتها الانتخابية في الحملة الأخيرة قالت صراحة: «لا يوجد برنامج أفضل ينظم الحياة بين الناس من الوصايا العشر للنبي موسى».
ولقد وعدت شيدوو بمساعدة سكان القرى والأرياف والبلدات الصغيرة المنسية، تمامًا حيث تشتد المشاعر الدينية والقومية المحافظة، وحيث يتضح إهمال الدولة البولندية لصغار الناس. وواقع الحال، وكما تشير التحليلات السياسية لنتائج الانتخابات، شكل سكان القرى والأرياف النسبة الأكبر من ناخبي القانون والعدالة.
كذلك ركزت رئيسة الحكومة الجديدة في حملتها الانتخابية على «إحياء تقاليد العائلة البولندية المسيحية»، مع ميول يمينية واضحة العداء للمثليين واليساريين والأغراب، ولئن كانت لم تصل إلى درجة اتهام اللاجئين بجلب الجراثيم والطفيليات معهم إلى المجتمع البولندي السليم، كما فعل معلمها وقدوتها كاتشينسكي، لكنها اعتبرتهم تهديدًا للتقاليد المسيحية والقومية.
* «القانون والعدالة» ليس معاديًا لأوروبا
فوز اليمين البولندي المحافظ، متمثلاً بالرئيس دودا ورئيسة الوزراء شيدوو، أبرز مشاعر انعدام الثقة بين أوروبا وبولندا من جهة، وبين ألمانيا وبولندا من جهة أخرى. ولا يعود جليد العلاقات الألمانية البولندية التاريخي إلى المجازر النازية بحق الشعب البولندي فحسب، وإنما إلى عقد النفط والغاز الألماني مع روسيا بين غيرهارد شرودر وفلاديمير بوتين في عام 2005، عبر البحر، وليس عبر الأراضي البولندية، وهو ما قارنته بعض الصحف البولندية آنذاك، باتفاقية أدولف هتلر وجوزيف ستالين التي مهدت لاحتلال بولندا.
ولقد لخص مارتن شولتز (ألماني) رئيس البرلمان الأوروبي، تأثير صعود اليمين المحافظ في وارسو بأنه «ليس تعزيزًا للاندماج بأوروبا بالتأكيد، خصوصًا، وأن كاتشينسكي يقف ضد دخول بولندا منطقة اليورو». ويذكر أن الرئيس البولندي دودا وقف بقوة ضد تمديد «اتفاقية كيوتو» الخاصة بتقليص انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون حتى 2020، ثم دعا كاتشينسكي قبل أسبوعين إلى إعادة النظر في القرارات الأوروبية الخاصة بالبيئة.
من ناحية أخرى، توقع ديتر بنغن، رئيس المعهد الاقتصادي الألماني - البولندي، أن يتراجع تعاون بولندا مع أوروبا في مجالي الطاقة والبيئة والموقف من اللاجئين، لكنه استبعد تمامًا ابتعاد بولندا الكامل عن الاتحاد الأوروبي. وأوضح بنغن أن حزب «القانون والعدالة» ليس مثل الجبهة القومية الفرنسية، لأنه ليس حزبًا معاديًا لأوروبا. وحتى إذا ابتعدت بولندا الكاتشينيسكية عن سياسة ألمانيا تجاه اللاجئين، فإن موقفها لا يختلف كثيرًا عن الموقف النقدي لبلدان الاتحاد الأوروبي «القديمة» مثل فرنسا وبريطانيا.
الشيء الأكيد هو أن بولندا ستنحى منحى يمينيًا لا مفر منه، بالنظر لضعف القوى الأخرى، وخصوصًا الليبراليين، وعجز أحزاب اليسار عن بلوغ البرلمان. وهذان عاملان مقرران. مع ملاحظة أن هذه هي المرة الأولى التي يخلو فيها البرلمان البولندي من الأحزاب اليسارية منذ انهيار الاشتراكية في بولندا مطلع التسعينات.
ولكن هل ستشهد أوروبا تحالفًا مجريًا - بولنديًا في المستقبل؟ يقول بنغن إن بولندا تقف مع أوروبا في سياستها المناهضة لسياسة روسيا في أوكرانيا، وهناك علاقات متينة تاريخية بين أوكرانيا وبولندا، في حين يقف الرئيس المجري فيكتور أوروبان إلى جانب روسيا في هذا النزاع. وعلى هذا الأساس لا يبدو أوروبان شريكًا جذابًا بالنسبة لكاتشينسكي.
وحول حلف شمال الأطلسي «ناتو»، وعد دودا أخيرًا بتوسيع حضور «ناتو» في بولندا، وصوتت رئيسة الوزراء الليبرالية السابقة إيفا كوباش إلى جانب توزيع اللاجئين على بلدان الاتحاد الأوروبي (7 آلاف إلى بولندا)، لكن يرجح أن تتراجع شيدوو عن هذا القرار. أضف إلى ذلك وعود دودا المذكورة أعلاه لا تكفي، من وجهة نظر الخبير بنغن، للحديث عن لا تأثر العلاقات البولندية الأوروبية سلبًا في المستقبل. ويضيف أن بولندا ستكون على خلاف أكثر مما هي على وفاق مع قرارات الاتحاد الأوروبي. ثم إن القرارات في بولندا لا يتخذها دودا أو شيدوو.. بل كاتشينسكي.
البروفسور إيرينيوس كاروليفسكي، الأكاديمي البولندي المحاضر في جامعة بوتسدام الألمانية، أيضًا يرى أن حزب كاتشينسكي ليس معاديًا لأوروبا. ويضيف أن إجمالي الإنتاج الوطني في بولندا تضاعف خلال العقدين الماضيين، ويدرك كاتشينسكي تعذّر فصل هذا الازدهار الاقتصادي عن العلاقة بالاتحاد الأوروبي. وحسب كاروليفسكي لا يمكن الحديث عن عداء «القانون والعدالة» للاتحاد الأوروبي فقط، لأن هناك عداء أوروبيًا لهذا الحزب أيضًا.
* ألمانيا تنتظر
الرئيس دودا دعا خلال زيارته إلى العاصمة برلين في أغسطس (آب) الماضي إلى تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، وإلى تبديد أجواء اللاثقة بين الطرفين. وينتظر أن تحذو شيدوو حذو دودا، لكن الحكومة الألمانية ما زالت بانتظار «تقاسم الأدوار» الذي سيضطلع به كاتشينيسكي.
وهنا يقول الخبير بنغن إن «بولندا مدت يد التعاون إلى ألمانيا، وبسطت ألمانيا يدها باتجاه بولندا، لكنها تنتظر بهدوء تشكيل الحكومة البولندية المقبلة. وليس من مصلحة بولندا أن تسيء إلى العلاقات الاقتصادية والسياسية مع جارتها ألمانيا، ولهذا لن نشهد في المستقبل القريب (صراع قطط) بين سيدتين متشابهتين، إلى هذا الحد أو ذاك، تحكمان في البلدين».
قبل فترة قصيرة ذكّرت أنجيلا ميركل، بالعلاقة مع استيعاب نحو مليون لأجيء، أن ألمانيا ستتغير. وكتبت صحيفة Rzeczpolita البولندية، وعينها على أزمة اللجوء «إن ألمانيا التي نعرف قد انتهت». كذلك كتبت صحيفة «دي فيلت» الألمانية المعروفة، وعينها على فوز اليمين المحافظ في وارسو «إن بولندا التي نعرف منذ عقود قد انتهت».
في أي حال، يتفق جميع الخبراء في الشأن البولندي على أن سياسة بولندا الخارجية المقبلة يستحيل فصلها عن التطورات الداخلية التي تجنح بقوة نحو اليمين. وثمة من يعتقد بعصر جليدي جديد في العلاقات الثنائية بين البلدين، منهم الناقد السياسي البولندي آدام مينشيك الذي كتب في صحيفة Gazeta Wyborcza أن وارسو ستشهد نشوء نظام سلطوي شبيه بنظام فلاديمير بوتين في موسكو.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.