المجلات الثقافية العربية تصارع من أجل البقاء

تواجه مشكلات في النفقات والتوزيع

المجلات الثقافية إلى زوال
المجلات الثقافية إلى زوال
TT

المجلات الثقافية العربية تصارع من أجل البقاء

المجلات الثقافية إلى زوال
المجلات الثقافية إلى زوال

المطبوعات مثلها مثل بقية الكائنات التي إن لم تتطور وتتأقلم مع محيطها العصري فسوف تنقرض.. لذلك فإن الكثير من المجلات الثقافية التي ظهرت قوية منذ الستينات من القرن الماضي، تلاشت اليوم، ولم يعد لها وجود. مجلات كانت يومًا هي المرجع الأهم للمثقفين، ينتظرون صدورها بشغف، وفي البلاد البعيدة عن مصدر هذه المجلات كان القراء يحجزون نسخهم سلفًا في المكتبة، ولكن هذه المجلات تراجعت أمام هجمة التطور التي أصابت المطبوعات، وشيئًا فشيئًا توقفت عن الصدور أو بعضها لا يزال يصدر ولكن في نطاق ضيق.
دول الخليج مجتمعة، يصدر فيها أكثر عدد من المجلات الثقافية الشهرية والفصلية والمحكمة قياسًا إلى الوطن العربي، والغالبية العظمى - إن لم نقل كل - هذه المجلات تصدر إما عن اتحادات وروابط الكتاب والأدباء، وإما عن مؤسسات ثقافية رسمية أو عن الجامعات.
نتناول في السطور المقبلة المجلات الثقافية الشهرية ذات الطابع الأدبي ونظيرتها المحكمة التي أيضًا معنية بالدراسات الأدبية والنقدية، وما تواجهه من إشكاليات في أعباء الصدور وتباطؤ الانتشار عن السابق، وحاجة نوعين من الناس إليها، إما الأدباء والنقاد في ما يخص المجلات الثقافية، وإما طلبة الدراسات العليا في ما يخص المجلات المحكمة، وخصوصًا مجلات العلوم الإنسانية المعنية في موضوعنا، ثم أتطرق إلى شح العائد المادي لبعض هذه المجلات، ووفرة العائد المادي لبعضها الآخر، وما أسباب استمرار الأولى بالصدور رغم قلة المردود الذي لا يغطي أحيانًا تكاليف الطباعة وأجور المحررين والفنيين والطباعة فيها.
* التجربة الخليجية
نبدأ بالمجلات الأدبية المحكمة في الخليج، كنموذج، وندع رئيسة تحرير «المجلة العربية للعلوم الإنسانية» الصادرة عن مجلس النشر العلمي في جامعة الكويت الدكتورة نسيمة الغيث تتحدث عنها. تقول: «يصدر مجلس النشر العلمي 11 مجلة أحيانًا تتضمن دراسات تخصصية لا يقدر عليها الطلاب العاديون، لذلك فغالبًا ما ينشر فيها طلبة الماجستير والدكتوراه، كون الجامعة تشترط النشر في هذه المجلات الأدبية المحكمة لأجل الترقية والترفع».
وشروط النشر في هذه المجلة ليست سهلة، لذلك فالبحث الذي تتم الموافقة عليه يأخذ زمنًا طويلاً في النشر. وتصف الدكتورة نسيمة الغيث ذلك بقولها: «هناك طوابير بالدور على النشر». وتشرح ذلك بأن شروط المجلة في النشر تتمثل في أن تُسند الدراسات الأدبية المقدمة إلى لجنة تحكيم وتتكون اللجنة من شخصين، وفي حال تعارضا في الرأي، فيتم اللجوء إلى شخص ثالث هو الفيصل، ثم يعاد البحث إلى الراغب في النشر ليجري التعديلات التي طلبها المحكمون، ويعاد مرة أخرى إلى اللجنة.. وهكذا إلى أن يتم التوصل إلى الصيغة النهائية. وقد تستغرق هذه العملية مدة طويلة. وتستدرك الدكتورة نسيمة الغيث: «إلا في حالة واحدة إذا كان البحث آنيا وملحا يتعلق بقضية مطروحة فيسرع عندئذ في النشر».
* المجلات المحكمة
وعلى عكس المجلات الثقافية الشهرية، فإن المجلات المحكمة - حسب قول الدكتورة نسيمة الغيث - تباع في الوطن العربي وحتى في خارجه. وتشارك بالمعارض من خلال أجنحة خاصة، ولها مردود مادي كبير والأعداد المبيعة بالآلاف. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في كون هذه المجلات فصلية فهي تحتاج إلى تحكيم وهذا يؤخر عملية النشر.. وهذا الازدحام أدى إلى إلغاء مكافأة النشر التي كان يتقاضاها صاحب البحث في السابق، حيث أصبح النشر اليوم مجانًا، والمقابل يتمثل في منحه وثيقة نشر تفيده في الترقية: «في السابق كان الذي ينشر يتقاضى مكافأة أما اليوم فلا لأن الأعداد هائلة».
وحول معاناة الراغبين بالنشر اطلعنا على تجربة شخصية من الدكتور مهنا الرشيد الذي يقول: «يشكّل النّشر في المجلّات والدّوريّات المحكّمة هاجسًا كبيرًا لدى معظم طلّاب الدّراسات العليا وكثير من الأكاديميّين والأساتذة الجامعيّين، وإن كان الأستاذ أو المدرّس الجامعي يعاني بعض الشّيء خلال مسيرة نشر البحث العلمي إلا أن معاناة طالب الدّراسات العليا أدهى وأمرّ؛ حيث تشكّل شروط النشر المنسدلة في قائمة طويلة في مستهلّ المجلّة المحكّمة صدمة كبيرة لطالب الدّراسات العليا، وقد يتحايل الطَّالِب على المجلّة، أو قد يستعين بأحد الأساتذة - ممّن يرضون ذلك - فيضع اسم الأستاذ أو الدّكتور مع اسمه بوصفه باحثًا مشاركًا معه، وقد يكون اسم الدّكتور شرفيًّا دون أن يكتب في البحث حرفًا واحدًا». ويضيف الدكتور مهنا الرشيد: «ليت هذه مشكلة النّشر الوحيدة في المجلّات المحكّمة، بل لهذه المشكلة أخواتها وصديقاتها من المشكلات الجمّة، التي تعترض الباحث قبل أن يرى بحثه النّور بين جانبي غلاف المجلّة الموقّرة؛ فللمجلّة مُمثّلة بمجلس التحرير أو رئاسته الصّلاحيّة المطلقة في تحديد قابليّة البحث للنّشر أو عدمها دون التزامها بتقديم أي تفسير للباحث عن سبب رفض البحث أو عدم صلاحيّته، وإذا ما وافق مجلس التحرير أو رئاسته على نشر البحث فهذا لا يعني أن البحث سينشر، بل يعني أن الباحث وبحثه قد بدآ مشوارهما الطّويل منذ هذه اللّحظة. لقد رفضت إحدى المجلّات المحكّمة أن تعرض لي بحثًا على المحكّمين بدعوى أنّها تطرّقت لهذا الموضوع في عدد سابق، وبدعوى أنّ هذا البحث وإن عُرض سيُرفض بعد أخذ وردّ، ومثل هذا حدث مع أحد أصدقائي ممن حصلوا على المركز الأول في دفعة الخرّيجين، وتعب كثيرًا في اختيار موضوع فريد، وتحديد مصطلح علمي والتّأصيل له، ثمّ تفاجأ برفض البحث بعد انتظار طويل. وقد تكون المأساة المريرة أن يأتيك ردّان متناقضان من محكّمين في مجلّة واحد: الأول يثني على بحثك، ويثمّنه، ويوافق على نشر البحث دون تعديل، في حين يوافق الثّاني على نشر البحث بعد إجراء قائمة التّعديلات المطلوبة».
* خدمة مجانية للمجتمع
أما عن المجلات الثقافية، فإن اللافت في الأمر أنه على الرغم من أن هذه المجلات الشهرية في الخليج أقل توزيعًا من الصحف وأطول في مدة الصدور، فإن الإقبال عليها من قبل الأدباء وخصوصًا الشعراء وكتاب القصة يكون بشغف أكبر، وهناك سببان رئيسيان لذلك، الأول أن الأديب يحظى بتقدير مادي عن جهده الإبداعي في المجلات، وهو ما لا تقوم به معظم الصحف اليومية اليوم، والتي تعتبر أن القصيدة أو القصة بمثابة إكسسوار لتزيين الصفحة، هذا إن لم تعتبرها تحصيل حاصل للمادة المنشورة في الصفحة كونها ذات طابع خبري.
أما السبب الثاني للإقبال على هذه المجلات، فيتمثل في أن المادة الأدبية المنشورة في المجلات هي أبقى وأكثر ديمومة كون القراء والمهتمين بشكل عام يحتفظون بهذه المجلات في مكتباتهم، إلى جانب أنه يتم الاحتفاظ فيها بالمكتبات العامة ومكتبات الجامعات ليستفيد منها الباحثون والطلبة والدارسون للإبداع. وهذا ما لا تتميز به الصحف اليومية عادة.
ولكن هذه الامتيازات التي يحصل عليها الأديب من المجلة أصبحت تشكل عبئًا على الجهات التي تصدر هذه المجلات، فالعوائد من التوزيع ليست بالقدر الذي تغطي تكاليف الأجور والطباعة، خصوصًا بعد أمرين، الأول ظهور الإنترنت، بحيث أصبح لمعظم هذه المجلات مواقع يتاح للقارئ قراءتها مجانًا، وإن كانت بعض المجلات تعمد إلى نشر العدد قبل الأخير، أي الذي تم توزيعه وانتهى، ولكن حتى هذه الطريقة ليست مجدية، وهذا مرهون بالأمر الثاني الذي أتحدث عنه في هذا الصدد، فمعظم شركات التوزيع لم يعد الأمر مغريًا لها لأنها في النهاية شركات ربحية تنظر إلى النسبة التي سوف تتقاضاها من التوزيع، وفي السابق كان العائد مجزيًا أكثر لكثرة الإقبال عليها، فكانت مجلات الخليج تصل إلى أبعد نقطة ممكنة من أقصى المشرق العربي لأنأى مغربه، بل وحتى إلى القرى البعيدة، أما اليوم فتحجم معظم شركات التوزيع عن القيام بذلك مما يحدد المساحة الجغرافية التي تنتشر فيها هذه المجلات، وحتى الشخص الذي نشر فيها قد لا يحصل عليها إن لم ترسل له الجهة المصدرة لهذه المجلة نسخة، أو يتبرع أحد أصدقائه المقيمين في الخليج لإرسال نسخة له، وفي أضعف الحالات يصور له الصفحات التي نشرت فيها مادته الإبداعية ويرسلها له على «الواتس» أو مواقع التواصل الاجتماعي.
ولكن مع ذلك فهذه المجلات عنيدة، ومستمرة في الصدور، فهي تعد «ماء الوجه» لاتحادات الكتاب والروابط الأدبية والجمعيات الثقافية، ومن الصعب على هذه الجهات أن تخسر ماء وجهها، كما أن معظم هذه الجهات في الخليج تتلقى دعمًا من الوزارات التابعة لها كونها جمعيات نفع عام، ومن ضمن أهدافها تقديم خدمات للمجتمع.



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.