غسان زقطان: روايتي مبنية على ثقافة بيتية

رواية «حيث اختفى الطائر» في ندوة برام الله

غسان زقطان (يمين) وإبراهيم أبو الهشهش
غسان زقطان (يمين) وإبراهيم أبو الهشهش
TT

غسان زقطان: روايتي مبنية على ثقافة بيتية

غسان زقطان (يمين) وإبراهيم أبو الهشهش
غسان زقطان (يمين) وإبراهيم أبو الهشهش

نظمت أخيرا في متحف محمود درويش بمدينة رام الله، ندوة عن رواية «حيث اختفى الطائر»، لغسان زقطان، الصادرة عن دار «الأهلية للنشر والتوزيع» في العاصمة الأردنية عمّان، أدراها الناقد الدكتور إبراهيم أبو الهشهش، الذي وصف «حيث اختفى الطائر»، بأنها «رواية لا تتيح نفسها ولا تستسلم للقارئ من القراءة الأولى، كونها تمتاز بكثافة نصية مركبة، تحتاج إلى إعادة التأمل، وتفكيك شفرات النص، للبحث عن معنى المعنى المختزل في هذه الرواية القصيرة المكثفة، فهي إن جاز التعبير أشبه بالمركزات العطرية، حيث إنها مركزة في ست وعشرين لوحة، وبضع وتسعين صفحة».
وأضاف أبو الهشهش: «هذه الرواية المختزلة ليست سهلة على الإطلاق، فليس لها بناء كورونولوجي متصاعد، بحيث يستطيع القارئ أن يتابع هذا الخيط بشكل متسلسل، كما أن ما يسمى بالتبئير، أي تركيز السرد على حد أو شخصية هو تبئير متعدد، حيث قد يرى البعض أنه يقوم على المكان (زكريا)، وقد يرى آخرون أنه يتركز على شخص (زكريا)، وقد يتراءى للبعض أنه يتمحور حول شخص (يحيى)، الذي غاب منذ سقوط قرية زكريا عام 1948».
وشدد: «هذه الرواية وكاتبها ينتميان للسلاسة الأدبية، فهي نشأت في مختبر الأدب، وليس في مختبر محاولة الإسهام الديمقراطي للحداثة، على عكس كثير من كتاب الرواية العرب المعاصرين، الذين لهم انشغالاتهم الأخرى، على عكس غسان زقطان الذي يمتهن الأدب، إن جاز التعبير، منذ أن نشأ شاعرًا، وهو الآن شاعر وسارد وروائي ليس له ما يشغله سوى الأدب، فلغة الرواية أدبية بامتياز، وليست لغة براغماتية هدفها توصيل الفكرة، وهذا أمر استثنائي في الرواية العربية المعاصرة، التي يقترح بعض النقاد إخراجها من دائرة الأدب، حيث لم تعد جنسًا أدبيًا بقدر ما هي محاولة اجتماعية للإسهام في الحداثة يكتبها أناس ليسوا أدباء، ومن يقرأونها أو يستهلكونها ليسوا بالضرورة قراء أدب، إنما هم يقرأون الرواية فقط».
وأشار إلى أن الرواية التي تتميز بلغتها المميزة، قد تبدو سهلة للوهلة الأولى، فهي مكونة من لوحات منفصلة، قد يخال للبعض أنه لا رابط سرديًا بينها، مما قد يغري البعض لكتابة روايات على هذه الشاكلة، وكأنها قصص قصيرة منفصلة، ولكن هذا الشكل في الرواية الحديثة خطير، فهي قد تتحول إلى مجرد تراكم كمي، وهو ما تمكن زقطان من تجاوزه ببراعة لافتة في (حيث اختفى الطير)، فالحس المرهف لكاتب محترف كزقطان، وذائقته ومهارته الأدبية جعلت من الرواية ما يميزها جماليًا ولغويًا، وعلى مستويات مختلفة، خلقت عالمًا جماليًا موازيًا للواقع وللحدث التاريخي».
أما غسان زقطان، فقال عن روايته: «هذا العمل الأدبي، أو الرواية، كان يرافقني منذ سنوات، وكان يحتل حيزه داخلي، في الوقت الذي أنجزت غيره من الأعمال الأدبية شعرًا وسردًا، وبدأت فيها بعدها، لافتًا إلى أن خمسة من أصدقائه مختلفي المشارب والاتجاهات، وعرض عليهم المخطوطة، بعضهم أبدى ملاحظته على العنوان الذي تغير بالفعل، وعلى النص، وأحدهم طلب مني التخلص من الرواية برمتها.. ».
ورغم إصراره على أهمية ألا يشرح عمله الروائي، قال زقطان: «هذه الرواية مبنية على ثقافة في متناول الجميع، أي ثقافة بيتية، فالمعرفة التي تتضمنها متوفرة لدى الجميع بلا استثناء، حيث حاولت صناعة الرواية بمواد من البيئة المحلية، وعملت جاهدًا في البحث المعمق في كل فصل أو لوحة على مستوى المكان، والشخوص، والتاريخ، والوثائق، ولكن الطبقات الحضارية، أو المكونات المعرفية التي بنيت على أساسها رواية (حيث اختفى الطير) في ست وتسعين صفحة، بيتية محلية، وليس فيها ما هو خارجي بتاتًا، فـ(زكريا) هو الشخص والمكان والميثيولوجيا، وفي نفس الوقت هو ليس تمامًا كما هو في التاريخ أو المتخيل».
ولا يرى زقطان أن ثمة تخصصًا في الكتابة الأدبية، فـ«الكاتب يجرب وفي كثير من الأحيان يبدع في صنوف أدبية مختلفة، مع أنني لست مع التصنيف، فاللغة هي الأساس، واللغة تفتح مجالات أرحب من القصيدة، علاوة على أنني أرى أن الشعر ليس فقط أن تكتب قصيدة، فالشعر قد يكون في نص نثري، فالشعرية هنا أوسع بكثير من النص الشعري، فلا فظاظة أن يكتب الشاعر رواية، إلا إذا أراد أن يتخصص في كتابة القصيدة، وهذه الخيارات تعود للشاعر نفسه».



إشكاليّة النصوص الأدبيّة المنشورة بعد وفاة مؤلّفيها

إشكاليّة النصوص الأدبيّة المنشورة بعد وفاة مؤلّفيها
TT

إشكاليّة النصوص الأدبيّة المنشورة بعد وفاة مؤلّفيها

إشكاليّة النصوص الأدبيّة المنشورة بعد وفاة مؤلّفيها

يناقش الكاتب الأسئلة الشائكة التي تثار حول نشر أعمال إبداعية بعد وفاة مؤلفيها، وما يصيبها من تغيير من قبل المحررين ودور النشر، الأمر الذي قد يفقدها المصداقية ويجعلها تبدو غريبة عن أسلوب وعوالم مؤلفيها، مما يشكّل صدمة أدبية للقراء المتابعين لهم.

عندما يتمّ نشر أعمال أدبيّة بعد وفاة أصحابها، تثار أسئلة عديدة عنها، من قبيل: كيف يؤثّر غياب الكاتب على عملية تحرير النصّ؟ هل يعتبر نشر الرواية بعد وفاة الكاتب محاولة لاستثمار إرثه الأدبيّ أم رغبة في تقديم رؤيته الأخيرة؟ كيف يتفاعل القارئ مع نصوص قد لا تعكس الصوت الحقيقيّ للكاتب؟ إلى أيّ حدّ يعتبر النصّ الذي لم يشرف عليه الكاتب بنفسه نصّاً أصيلاً؟

لا يخفى أنّ الروايات التي تُنشر بعد وفاة أصحابها تكون قد تعرّضت لتعديلات - كثيرة أو قليلة - من قبل المحرّرين أو الناشرين. هذه التعديلات قد تشمل تغييرات في الأسلوب، أو إضافة عناصر جديدة، أو حتّى تغيير في بناء العمل أو فكرته الرئيسة - مَن يدري! -. مثل هذه التعديلات يمكن أن تؤثّر بشكل كبير على الأصالة الفنّيّة للنصّ، وتجعل القارئ يتساءل عما إذا كان النصّ النهائيّ يعكس الرؤية التي كان الكاتب ينوي تقديمها.

وهذا بدوره متروك لأمانة المحرّر والناشر، وقد يكون هذا المفهوم نسبيّاً، وتتداخل عوامل متعدّدة فيه. ولا يمكن إغفال الجوانب التجاريّة كذلك. ففي عالم النشر، تُعتبر أمانة المحرّر والناشر إحدى القيم الجوهريّة التي تعزّز مصداقية الدار وتوجّهاتها، غير أنّ هذا المفهوم، رغم أهمّيّته، لا يمكن فصله عن جوانب تجاريّة قد تؤثّر عليه بطرق متعددة.

إنّ مفهوم الأمانة التحريريّة ليس ثابتاً؛ إذ تختلف القيم والمبادئ التحريرية من ناشر إلى آخر، ومن محرّر إلى آخر. قد يجد البعض أنّ الحرّية الأدبيّة والتعبيريّة تتطلّب بعض المرونة، بينما يرى آخرون أنّ القواعد الصارمة هي السبيل الوحيد لضمان الجودة والأمانة. في هذا السياق، يصبح من الضروريّ التذكير بأنّ الأمانة، بالإضافة إلى كونها مسألة أخلاقية، هي عملية تتأثّر بتوازن دقيق بين المبادئ والقيم والمصالح التجارية.

ومن الطبيعيّ أن تلعب الجوانب التجاريّة دوراً في عالم النشر، ولكن علينا أن ندرك كيف يمكن أن تؤثّر على جودة العمل الأدبيّ. قد تكون هناك محاولات لتعديل النصوص بما يتماشى مع التوجّهات الرائجة أو المبيعات المتوقّعة، ما يطرح تساؤلات حول مدى تعارض هذه التعديلات مع رؤية الكاتب والرسالة التي يحملها نصّه. وهذه المعادلة تتطلّب إدراكاً مسؤولاً لطبيعة الأدب وتقديراً لمبادئه الأساسيّة، جنباً إلى جنب مع القدرة على الاستجابة للعوامل الأخرى دون المساس بسلامة النصوص وقيمتها الأدبيّة.

ومن البديهيّ أنّ الكاتب، أثناء حياته، يراجع نصّه ويقدّم موافقته النهائية على الشكل الذي سيصدر به، ولكن عندما يُنشر عمل له بعد وفاته، فإنّ غياب توقيعه وغياب موافقته النهائيّة يثيران تساؤلات حول مدى تطابق النصّ المنشور مع ما كان سيقدّمه لو كان حيّاً. هذا النقص في التحقّق النهائيّ يمكن أن يؤثّر على كيفية تلقّيه من قبل القرّاء والنقّاد ودارسي الأدب.

من الممكن أنّ غياب الكاتب قد يسمح للمحرّرين بإجراء تغييرات على النصّ، ممّا قد يؤدّي إلى تباين بين النصّ النهائيّ وما كان الكاتب ينوي تقديمه. ومن الممكن أن يكون نشر المسوّدات والنصوص غير المكتملة محاولة للاستثمار التجاريّ أكثر من كونه تقديراً حقيقيّاً لإرث الكاتب. وقد يشعر القارئ بخيبة أمل إذا اكتشف أنّ النصّ الذي يقرأه لا يعكس الرؤية الأدبيّة الحقيقيّة للكاتب بسبب التعديلات التي أجريت عليه.

يمكن أن نستشهد على نشر أعمال لمؤلّفين راحلين، مثلاً، رواية «نلتقي في أغسطس» التي صدرت بعد عشر سنوات من وفاة الكولومبيّ غابرييل غارسيا ماركيز (1927 - 2014) تثير تساؤلات حول مدى توافقها مع رؤية الكاتب لمشروعه الروائيّ. ماركيز، الذي يُعرف بإبداعه الساحر وصوته الأدبيّ المميّز، لم يكن موجوداً ليشرف على عملية تحرير الرواية أو يضع توقيعه النهائيّ عليها، وقد تكون الرواية قد خضعت لتعديلات أو تصحيحات من قبل المحرّرين أو الناشرين، ما يثير السؤال: هل كانت الرواية ستبدو كما هي عليه الآن لو كان ماركيز حيّاً؟

الرواية التي جاءت مخيّبة لآمال وتوقّعات قرّاء ماركيز يمكن أن تكون قد شهدت تغييرات لا يمكننا الجزم بأنها تتماشى مع رؤية ماركيز كما يعهدها قرّاؤه ودارسوه في أعماله السابقة، ما قد يكون تسبّب بخلق تباين بين النصّ المنشور وما كان يطمح الكاتب لتقديمه.

وكذلك الحال مع رواية «سمك ميّت يتنفّس قشور الليمون» للسوريّ خالد خليفة (1964 - 2023)، التي صدرت بعد وفاته بعام عن دار نوفل، ومثل حالة ماركيز، لم يتمكّن خليفة من مراجعة نصّه النهائيّ أو تقديم موافقته الشخصيّة على الشكل الذي نُشر به، والتعديلات التي قد تكون أجريت على الرواية قبل نشرها يمكن أن تؤثّر على التجربة الروائيّة التي كان ينوي تقديمها، ولا سيما أنّه لم يعلن عنها قبل رحيله، وهو الذي كان معروفاً بأنّه يعرض مسوّداته على عدّة أشخاص قبل دفعها للنشر.

في حالات النشر بعد رحيل المؤلّفين تحضر إشكالية أخرى تتمثّل في أنّه إذا كان هناك اختلاف بين النصّ المنشور وتجارب الكاتب السابقة، فقد يشعر القرّاء بخيبة أمل إذا اكتشفوا أن العمل قد لا يعكس تماماً ما كان الكاتب ينوي تقديمه. وهنا من الضروريّ أن يُشار إلى أنّ العمل المنشور لم يكن مكتملاً وليس عليه توقيع الكاتب بصورته النهائيّة المحرّرة؛ لأنّ هذا يعزّز من نزاهة العمليّة الأدبيّة ويضمن الحفاظ على سمعة الكاتب وتقدير إرثه الأدبيّ بشكل صحيح، ويوفّر للقرّاء فهماً واضحاً للطبيعة غير المكتملة للعمل.

وعلى الرغم من الجدل حول التعديلات، تبقى أهمّيّة نشر النصوص التي كتبها الأدباء بعد وفاتهم في كونها تعبيراً عن جزء من إبداعهم. ولا شكّ أنّ هناك أهمية أدبيّة وتاريخيّة في نشر المخطوطات الأصلية بجانب النصوص المحرّرة، وذلك في سياق نشر أعمال الراحلين بعد وفاتهم، وذلك لتوفير نظرة شاملة حول تطوّر العمل الأدبيّ، وتوفير موادّ قيّمة للدارسين والباحثين لمقارنة النسخ المختلفة.

ولعلّ نشر المخطوطات/المسوّدات يمكن أن يساهم في تمكين القراء والباحثين من الاطلاع على النصوص كما اقترحها صاحبها قبل أن يتدخّل المحرّرون أو الناشرون. وهذا يمكن أن يكشف عن العناصر الأدبيّة التي قد تكون قد أزيلت أو عدّلت، ممّا يساعد في فهم أعمق للعمل الأدبيّ، ولعملية التحرير والتعديل نفسها، وقد يمنح فرصة لفتح مجال لدراسات أدبيّة جديدة في ميدان لا يزال مغلّفاً بالتكتّم والتعتيم، كما قد يمنح فرصة تحليل وتقييم تطوّر النصوص الأدبية عبر مراحل زمنية مختلفة، بحيث يمكن تتبع التغييرات التي أجريت على النصوص وكيفية تأثيرها على التجربة الأدبية والقيم الفنّيّة للعمل.

ويمكن أن يساهم نشر المخطوطات بصيغتها المسوّدة المكتوبة من قبل الكاتب بجانب النصوص المحرّرة من قبل دار النشر في الحفاظ على سجلّ أدبيّ دقيق. هذا يضمن الحفاظ على إرث الكاتب كما هو من جهة، ويتيح أيضاً للدارسين وللأجيال القادمة الاطّلاع على النصوص غير المكتملة والنسخ المبكّرة التي تعكس تطوّر البناء الهندسيّ والفكريّ للعمل.

وهنا سيكون من الضروريّ أن يتضمّن النشر إشارة واضحة إلى أن النصوص المقدّمة هي مسوّدة أو غير مكتملة ولم تخضع لتعديلات من الكاتب نفسه. هذا يعزز من الشفافية ويوفّر للقراء فهماً أدقّ عن طبيعة النصوص التي يدرسونها، ويحافظ على النزاهة الأدبية ويوفّر قيمة علمية وتاريخية. وبتوضيح حالة النصوص كمسوّدة، يتمكّن الباحثون من تقييم النصوص في سياق تاريخيّ وأدبيّ صحيح.

يمكن اعتبار النصوص المنشورة بعد وفاة مؤلّفيها انعكاساً غير مكتمل لصوت الكاتب ورؤيته، لكنّها تفتح كذلك نافذة للتأمّل في العلاقة بين النصّ وخلوده، لأنّها تحثّ القرّاء على طرح تساؤلات تتجاوز الاعتبارات الفنّيّة والتجارية، ويتجدّد السؤال عن قدرة الأدب على الاستمرار والتحوّل في غياب صاحبه. كما يمكن النظر إليها كنوع من الحوار الصامت بين ما كتبه الكاتب وما قدّمه المحرّرون أو الناشرون. ورغم أنّ هذا الحوار قد يفتقد لصوت المؤلّف بالصيغة التي ألفها قرّاؤه، فإنّه يظلّ مجالاً مفتوحاً للتأويلات والتفسيرات المتجدّدة؛ لأنّ أيّ نصّ، بقدر ما هو عمل فنيّ، فهو كائن حيٌّ يتأثّر بتغيّرات الزمن وأعين القرّاء المختلفة، ويعيد إنتاج نفسه بصور وأشكال قد تتجاوز ما كان يسعى إليه المؤلّف أصلاً.

ناقد وروائيّ سوري مقيم في لندن