غسان زقطان: روايتي مبنية على ثقافة بيتية

رواية «حيث اختفى الطائر» في ندوة برام الله

غسان زقطان (يمين) وإبراهيم أبو الهشهش
غسان زقطان (يمين) وإبراهيم أبو الهشهش
TT

غسان زقطان: روايتي مبنية على ثقافة بيتية

غسان زقطان (يمين) وإبراهيم أبو الهشهش
غسان زقطان (يمين) وإبراهيم أبو الهشهش

نظمت أخيرا في متحف محمود درويش بمدينة رام الله، ندوة عن رواية «حيث اختفى الطائر»، لغسان زقطان، الصادرة عن دار «الأهلية للنشر والتوزيع» في العاصمة الأردنية عمّان، أدراها الناقد الدكتور إبراهيم أبو الهشهش، الذي وصف «حيث اختفى الطائر»، بأنها «رواية لا تتيح نفسها ولا تستسلم للقارئ من القراءة الأولى، كونها تمتاز بكثافة نصية مركبة، تحتاج إلى إعادة التأمل، وتفكيك شفرات النص، للبحث عن معنى المعنى المختزل في هذه الرواية القصيرة المكثفة، فهي إن جاز التعبير أشبه بالمركزات العطرية، حيث إنها مركزة في ست وعشرين لوحة، وبضع وتسعين صفحة».
وأضاف أبو الهشهش: «هذه الرواية المختزلة ليست سهلة على الإطلاق، فليس لها بناء كورونولوجي متصاعد، بحيث يستطيع القارئ أن يتابع هذا الخيط بشكل متسلسل، كما أن ما يسمى بالتبئير، أي تركيز السرد على حد أو شخصية هو تبئير متعدد، حيث قد يرى البعض أنه يقوم على المكان (زكريا)، وقد يرى آخرون أنه يتركز على شخص (زكريا)، وقد يتراءى للبعض أنه يتمحور حول شخص (يحيى)، الذي غاب منذ سقوط قرية زكريا عام 1948».
وشدد: «هذه الرواية وكاتبها ينتميان للسلاسة الأدبية، فهي نشأت في مختبر الأدب، وليس في مختبر محاولة الإسهام الديمقراطي للحداثة، على عكس كثير من كتاب الرواية العرب المعاصرين، الذين لهم انشغالاتهم الأخرى، على عكس غسان زقطان الذي يمتهن الأدب، إن جاز التعبير، منذ أن نشأ شاعرًا، وهو الآن شاعر وسارد وروائي ليس له ما يشغله سوى الأدب، فلغة الرواية أدبية بامتياز، وليست لغة براغماتية هدفها توصيل الفكرة، وهذا أمر استثنائي في الرواية العربية المعاصرة، التي يقترح بعض النقاد إخراجها من دائرة الأدب، حيث لم تعد جنسًا أدبيًا بقدر ما هي محاولة اجتماعية للإسهام في الحداثة يكتبها أناس ليسوا أدباء، ومن يقرأونها أو يستهلكونها ليسوا بالضرورة قراء أدب، إنما هم يقرأون الرواية فقط».
وأشار إلى أن الرواية التي تتميز بلغتها المميزة، قد تبدو سهلة للوهلة الأولى، فهي مكونة من لوحات منفصلة، قد يخال للبعض أنه لا رابط سرديًا بينها، مما قد يغري البعض لكتابة روايات على هذه الشاكلة، وكأنها قصص قصيرة منفصلة، ولكن هذا الشكل في الرواية الحديثة خطير، فهي قد تتحول إلى مجرد تراكم كمي، وهو ما تمكن زقطان من تجاوزه ببراعة لافتة في (حيث اختفى الطير)، فالحس المرهف لكاتب محترف كزقطان، وذائقته ومهارته الأدبية جعلت من الرواية ما يميزها جماليًا ولغويًا، وعلى مستويات مختلفة، خلقت عالمًا جماليًا موازيًا للواقع وللحدث التاريخي».
أما غسان زقطان، فقال عن روايته: «هذا العمل الأدبي، أو الرواية، كان يرافقني منذ سنوات، وكان يحتل حيزه داخلي، في الوقت الذي أنجزت غيره من الأعمال الأدبية شعرًا وسردًا، وبدأت فيها بعدها، لافتًا إلى أن خمسة من أصدقائه مختلفي المشارب والاتجاهات، وعرض عليهم المخطوطة، بعضهم أبدى ملاحظته على العنوان الذي تغير بالفعل، وعلى النص، وأحدهم طلب مني التخلص من الرواية برمتها.. ».
ورغم إصراره على أهمية ألا يشرح عمله الروائي، قال زقطان: «هذه الرواية مبنية على ثقافة في متناول الجميع، أي ثقافة بيتية، فالمعرفة التي تتضمنها متوفرة لدى الجميع بلا استثناء، حيث حاولت صناعة الرواية بمواد من البيئة المحلية، وعملت جاهدًا في البحث المعمق في كل فصل أو لوحة على مستوى المكان، والشخوص، والتاريخ، والوثائق، ولكن الطبقات الحضارية، أو المكونات المعرفية التي بنيت على أساسها رواية (حيث اختفى الطير) في ست وتسعين صفحة، بيتية محلية، وليس فيها ما هو خارجي بتاتًا، فـ(زكريا) هو الشخص والمكان والميثيولوجيا، وفي نفس الوقت هو ليس تمامًا كما هو في التاريخ أو المتخيل».
ولا يرى زقطان أن ثمة تخصصًا في الكتابة الأدبية، فـ«الكاتب يجرب وفي كثير من الأحيان يبدع في صنوف أدبية مختلفة، مع أنني لست مع التصنيف، فاللغة هي الأساس، واللغة تفتح مجالات أرحب من القصيدة، علاوة على أنني أرى أن الشعر ليس فقط أن تكتب قصيدة، فالشعر قد يكون في نص نثري، فالشعرية هنا أوسع بكثير من النص الشعري، فلا فظاظة أن يكتب الشاعر رواية، إلا إذا أراد أن يتخصص في كتابة القصيدة، وهذه الخيارات تعود للشاعر نفسه».



ماذا يحدث عندما نفكر؟

حنه آرندنت
حنه آرندنت
TT

ماذا يحدث عندما نفكر؟

حنه آرندنت
حنه آرندنت

في عالمنا اليوم، يبدو أن ظواهر مثل الحقيقة والواقع تغمرنا باستمرار في سياق الحياة اليومية. لكن لا بأس إذا تداخلا، تماماً، في بعضهما بعضاً. يبدو أنه لا يوجد تعارض أو التباس أو أي سوء فهم بينهما. فما نسمعه ونراه ليس أكثر ولا أقل مما هو موجود. ولا يوجد شيء سوى ما ندركه. لكن هل كل ما نلاحظه، هو فعلاً واقع أو حقيقة أو كليهما؟ حسب الفيلسوفة الألمانية حنه آرندت، لا حقيقة ولا واقع، وأن كليهما لم يظهرا كما هما. إن الفكر، حسبها، يدعو إلى عدم اللجوء للتأمل فقط، بل إلى العمل على تغيير الحياة العامة والأحداث، مؤكدة على ضرورة أن يكون الفكر حراً ومسؤولاً في الوقت نفسه. وبهذا فهي تحث الفلاسفة على العمل. وتثمن مقولة كارل ماركس الشهيرة، التي جاءت في الأطروحات الإحدى عشرة، رداً على فيورباخ، والتي تقول: «لقد اكتفى الفلاسفة حتى الآن بتفسير العالم بطرق مختلفة، لكن المهم هو تغييره».

اليوم، ونحن نعيش في عالم الخوارزميات، نتساءل؛ هل تسونامي المعلومات الذي يتجاوزنا وبشكل وفير ومباشر، يغنينا عن التفكير والتفكر؟ يبدو أن كتاب حنّة آرندت «حياة العقل» (1978)، مازال آنياً. وفيه تتناول «ماذا يحدث عندما نفكر؟» وهو السؤال الذي ركزت عليه في كتابها المنشور بعد ثلاث سنوات من وفاتها، والذي نستكشف فيه ماهية التفكير، وأين ومتى بالفعل، يحدث ذلك.

بدايةً، فالتفكير يختلف عن المعرفة، إذ تُركز المعرفة على الحقائق أو الظواهر التي سبقت مواجهتها في الواقع، بينما يُركز التفكير على ما لم يُكتشف أو يُبرهن عليه بعد. في اللوحة الشهيرة لرودان المسماة «المفكر»، يبدو لنا فيها، في وضعية نموذجية، يده تحت ذقنه، وهو يحدق في المشهد الضبابي غير المحدد بعد، إذ يبدو لنا أن المشهد المُفكَّر به مغطى، دائماً، بطبقة من الثلج. ونلاحظ أن شيئاً يبرز هنا وهناك؛ تماماً كما بعض الكلمات أو بعض الذكريات التي تقفز إلى الذاكرة على شكل شظايا.

يوحي هذا التمثال أنه من دون التحلي بالصبر وسعة الخيال والمسح البديهي لأفق الفكر، لا يمكن القبض على أي فكرة، وإن التفكير يتطلب عقلاً ترابطياً منفتحاً وحيوياً.

ثم تطرح آرندت السؤال المحير حول «أين» و«متى» نكون عندما نفكر. ولكن هل للتفكير زمن محدد؟

تلاحظ آرندت أن التفكير «يبقى دائماً مشوشاً، خارج النظام. وذلك، لأنه يقاطع جميع الأنشطة العادية». التفكير ينقلنا إلى مكان آخر، يمكن فهمه كنوع من «العالم الوسيط» - بين العالَم والشخص المُفكر - حيث تتوقف عقارب الساعة، التي تعدّ تحسب الزمن وترتب الأحداث ترتيباً زمنياً.

بينما ونحن نفكر، نجد أنفسنا في «زمنٍ بيْني»، كما كتبت آرندت، «يُنشئ فجوةً بين الماضي والمستقبل». هذه الفجوة، كما في زرادشت نيتشه، تُخلق تحت البوابة التي كُتبت عليها «اللحظة»، والتي تتصادم تحتها مسارات المستقبل والماضي. من هذا التصادم تنشأ «اللحظة الدائمة»، أو الآن الدائم، الذي كان يُطلق عليه في فلسفة أواخر العصور الوسطى اسم «nunc stans نونك ستانس».

من الناحية اللغوية، يُعدّ المصطلح اللاتيني «نونك ستانس» تناقضاً لفظياً لأنه يجمع بين مفهومين متعارضين - طبيعة اللحظة العابرة وديمومة الوقوف - مما يخلق معنى جديداً. ويشير هذا «الوقوف الآن» - من بين أمور أخرى - إلى مصطلح «nunc aeternitates نونك أتيرنيتيس» أي (الآن وإلى الأبد)، الذي كان يُعتبر «استعارة للزمن المقدس أو الإلهي والأبدي» في فلسفة العصور الوسطى. ويمكن فهمه على أنه التقاء محورين زمنيين متعارضين في لحظة «أبدية». تصف آرندت الخرق الذي يُحدثه الفكر في الزمن الكرونولوجي بأنه «الأثر الصغير غير الملحوظ للَّازمن». وتتابع: «فقط في خرق (نونك ستانس) يمكن للوجود الإنساني المراوغ أن يكشف عن نفسه كاستمرارية خالصة لـ(أنا)».

كما أنها توضح حالة غامضة إلى حد ما، من خلال مثل معروف عن كافكا: يدخل شخص مفكر في معركة مع خصمين خائفين، أحدهما «يدفعه من الخلف والثاني يمنعه من التقدم إلى الأمام». وكان على المفكر أن يقاتل مع كليهما مراراً وتكراراً، لكن حلمه هو أن «يتمكن، في يوم من الأيام، وفي لحظة غفلة، من القفز من خط المعركة، لكي يصبح حكَما على خصميه المتقاتلين مع بعضهما البعض».

التفكير ينقلنا إلى مكان آخر، يمكن فهمه كنوع من «العالم الوسيط»

بمعنى آخر، من يقف في «اللحظة» يواجه كلا الزمنين في آنٍ واحد. وهكذا، من خلال الوقوف بانتباه في «المنتصف»، يمكن لـ«الجديد»، الجديد غير المتوقع، أن يأتي إلينا من الماضي. لذا، لا يمكن لأي شخص يقف في اللحظة الراهنة أن يتجنب أي شيء أو يختبئ وراء أي عذر. لهذا السبب، يرى نيتشه أن الإنسان الشجاع المُتشبث بالحياة هو وحده من يُدرك الخلود في هذه اللحظة. إنها مقولة رائعة، خلدها العديد من الفلاسفة، ويدركها كل من فكر أو أبدع في تلك الأثناء. نقول إن الزمن توقف للحظة، لأننا لا نملك كلمات لوصف هذه اللحظة، لكن الزمن، بالطبع، استمر ببساطة. لقد حررنا أنفسنا إلى أجل غير مسمى من التجربة التي، عادة، يسجننا فيها الزمن - تجربة المحدودية والاضطراب والزوال - ودخلنا في اتصال مع بُعد زمني أغنى وأوسع وأكثر خصوبة بكثير.

ولهذا السبب فإن «الذات المفكرة لا عمر لها»، كما لاحظت آرندت، وهي في سن السبعين تقريباً؛ لأنه كم يجب أن يكون عمرك إذا كنت خارج الزمن أثناء اللحظة غير المحروسة؟

ليس للتفكير مكان إقامة ثابت.

الآن بعد أن تعرفنا على الإجابة التي تخص «متى» نفكر، تحاول آرندت أيضاً الإجابة على سؤال «أين». حسب قولها، فإن مساحة الفكر هي في الواقع «لا مكان» أو «يتوبيا». وذلك «لأن التفكير لا يملك وطناً؛ فهو يتمثل على شكل غياب وينسحب من وجود الأشياء».

وفقاً لمبدأ «المايوتك maieutic» السقراطي، ينشأ التفكير هنا. هذا المصطلح اليوناني الذي يشير إلى «قابلة - مولدة» - وصف به سقراط طريقته، التي كانت تهدف إلى مساعدة العقل على «ولادة» الأفكار.

إنه حوار يجري بين الناس وداخل الموضوع نفسه، ويحرك كل ما هو ثابت في داخلنا. إن الذات المفكرة هي متجولة أو «بدوية»، لا تتجه نحو معتقدات أو أفكار ثابتة، بل «تتجه نحو ما لم يتم التفكير فيه بعد».

ليس للتفكير مسكن ثابت؛ ولأنه بلا مأوى، يمكنك ممارسته في أي مكان في العالم، ويُفضل أن تكون متجولاً مغترباً. هذا ما كتبته آرندت عندما كانت تعيش في باريس: «طوبى لأولئك الذين ليس لديهم وطن، لأنهم ما زالوا يرونه في أحلامهم».

إنها نسختها لمقولة بول فاليري الشهيرة: «Je pense donc je ne suis pas» «أنا أفكر، إذن أنا لستُ موجوداً». في التفكير، لا بدّ من اختراق حضور الأشياء والذات من أجل إلقاء الضوء على شيء ما، في طي الغياب. فمن دون ساعة على معصمه وسقف دائم فوق رأسه، يحاول المُفكِّر مراراً وتكراراً الدخول في حوار داخلي مع نفسه ومع العالم.

* كاتبة مغربية


الجسد... الوعي والحرية واللغة والآخر

الطاهر وطار
الطاهر وطار
TT

الجسد... الوعي والحرية واللغة والآخر

الطاهر وطار
الطاهر وطار

قد تبدو الكتابة عن الجسد مثيرة للجدل، لكنها ستبدو أكثر إثارة حين تتحول إلى سردية تتجاوز الممنوع، وتستفز المخفي من السيرة، ولما يمكن أن تحمله من الهواجس والمكبوتات، لا سيما تلك التي تتحدث عن علاقة الجسد بالوعي والحرية واللغة والآخر، إذ لا يحضر هذا الآخر بوصفه شبحاً، بل جسدٌ له إغواءاته وشهواته، وربما عدوانيته في تمثيل الانتهاك والاغتصاب والمراقبة والحبس.

الجسد في هذا السياق ليس غامضاً، وليس إيروسا مجرداً، بقدر ما هو رهان وجودي، وتمثيل للذات في صراعها التاريخي والجندري، وأن ما يكتنفه من الغموض والاختباء لن يكون بعيداً عن علاقة ذلك بالسلطة والهوية والخطاب، وهذا ما يدفعه إلى توظيف الحكي بوصفها حافظاً للزمن كما يقول بول ريكور، لمواجهة سرديات الحذو والتابو، ولما يتداعى منهما عبر السيرة والمقدس والاعترافات.

علوية صبح

توظيف سردية جنوسة الجسد تدخل في خيار تشكيل تاريخ مضاد أو سري، أو في تحويل موضوع الجسد إلى نصٍ عيادي كما في الروايات النفسية، أو إلى نص مراقَب كما في الروايات البوليسية، أو إلى نص شهواني يعمد إلى خرق المألوف، كما في روايات ألبرتو مورافيا، أو فلاديمير نابوكوف، أو حتى في روايات فرانسو ساغان وسيمون دي بوفوار وغيرهم. في معظم أعمال هؤلاء الكتاب، يتحول الجسد إلى رهان متعال لتمثيل التمرد والشهوة، والى نص وجودي وفلسفي، تؤسطره الأساطير والأسفار والمغازي والحكايات، أو تؤطره المفاهيم، حيث يتبدى حضوره السردي عبر الصراع ومستوياته وأقنعته المتعددة، وعبر التمثيل الجنسوي والطبقي والجندري. هنا، يستدعيه الكتّاب والمؤرخون والحكواتيون، الجسد وكأنه رافعة سيميائية تنكشف من خلالها أوهامه في البطولة أو في الحب، أو تحولاته في الاغتراب والخيانة والانسحاق، والى ما يجعل منه عنواناً لتمثلات رمزية في القص، حيث الجسد الحكواتي، أو في الصراع السياسي حيث الجسد الآيديولوجي الثوري، أو في الجندر حيث الجسد الشهواني المتمرد، الذي لا يفصل علاقته بالجنس عن علاقته بالوجود، ولا يفصل وعيه بالحرية عن تمرده وشغفه بالبحث عن الإشباع الداخلي، بوصفه تعويضاً عن العجز والعطب والخواء، أو بوصفه تمثيلاً لمواجهة الفقد والانتهاك، أو تمثيلاً للرفض والاحتجاج إزاء الخارج المتوحش، الصانع للسجن والرقابة والشر والحرب والاغتصاب.

سلوى النعيمي

في الرواية العربية

عدد كبير من الروايات العربية استغرقها هذا التحول الفارق، فوجدت في الجسد مجالاً لتمثيل مستويات بنائها السردي، أو للكشف عن صراع شخصياتها في تمثيل وجودها، وفي التعبير عن هوسها بالحرية والاعتراف واللذة الغائبة، أو لتعرية علاقتها بمحنة «الواقع العربي» عبر لا وعيها النكوصي المسكون بسايكوباثيا القمع والاغتصاب والتغييب، والتي كثيراً ما تحضر بوصفها كناية عن التغريب الطبقي والفشل الثوري، أو عن القمع والإخصاء السياسي، كما في روايات عبد الرحمن منيف أو عبد الرحمن مجيد الربيعي أو حيدر حيدر أو الطاهر وطار، أو بوصفها تمثيلاً لفحولة تعويضية كما في روايات جبرا إبراهيم جبرا أو علي بدر مثلاً. لكن حضور الجسد بوصفه الإيروسي هو ما يُثير الجدل حول علاقة هذا الجسد بالوعي والرغبة، وبالتمرد على التاريخ والتابوات الاجتماعية والدينية، إذ يتحول الجسد إلى رهان سيميائي للذات الباحثة عن وجودها وهويتها وإشباعاتها الرمزية، وللتورية بها مع الشبهات السياسية، مثل روايات أيمن الدبوسي، سلوى النعيمي، علوية صبح، إبراهيم بادي، علي المقري، أمل الجراح، أمين الزاوي، فضيلة الفاروق، حزامة حبايب، منى برنس، علية ممدوح، حنان الشيخ وغيرهم.

عبد الرحمن منيف

تحولات هذا الجسد المُراقَب، والمقموع، والمخصي لم تكن بعيدة عما تصنعه السرديات، تلك التي تجعله فضاءً لتمثيل وقائع الصراع السياسي والاجتماعي والطبقي، ولإيقاظ ما هو مخفي من مكبوتها النفسي والشهواني والعدواني، حتى بدت الكتابة عنه وكأنها خزّان «مونودراميا» للذات التي تجعل من اعترافها التطهيري، ومن صوتها الداخلي وكأنهما أقنعة لتورية المعارضة والرفض، وعلى نحوٍ دفع بعض الروائيين والروائيات إلى استمراء لعبة الكتابة عن الجسد، بوصفها كتابة ساحرة وغاوية عن «سر الأسرار» وبيت الحكي والجنيات، الذي يستدعي إثارة الأسئلة التي تخص الغامض والمستور من علاقته بالتاريخ والمثيولوجيا، مثلما هو المخفي من علاقته المضطربة بالآيديولوجيا، والهوية، والجندر، والنضال الاجتماعي، وبالانتهاك الذي تتمثله السلطة، عبر خطابها ومراقبتها وقمعها.

ما يحضر من تلك السرديات يتحول إلى سرديات موازية تجسّ أزمة الذات المحبطة، حيث يُستدعى «الجنس» بوصفه تمثيلاً تفريغاً، أو كناية عن العقد النفسية والمراضة الاجتماعية، وأزمة إحباط البطل في الرواية العربية، حيث يتبدى هذا الإحباط عبر استيهامات الذات والهوية واللغة، أو عبر استيهامات مضادة للذات المعلولة، حيث شهوة «الافتراس» الجنسي، افتراس «السجين» أو افتراس المُختطف، أو افتراس القاصر، كتعويض رمزي عن غياب الإشباع الطفولي، كما في رواية «لوليتا» مثلاً، وفي سيرة «الاعتراف بلا اعتذار» للروائي الروسي إدوارد ليمنوف، وحتى رواية مثل «برهان العسل» للكاتبة سلوى النعيمي، التي تجد في علاقة الجسد بالأفكار نوعاً من تعويض الغائب، من خلال المواجهة مع المكبوت في كتب التاريخ.

مثل هذه الروايات العربية لا تحكي عن سيرة خذلان الجسد، ولا عن اغترابه الجنسي والسياسي، بل تكشف عن تاريخ تحولاته، وعن المخفي من علاقته بـ«النسق المضمر» الذي يتوارى خلف لغة متوترة، وحكايات تستعيد أنموذج الليالي، أو أنموذج الحكواتي الشاطر.


تحولات البشر والمكان في رواية لبنانية

تحولات البشر والمكان في رواية لبنانية
TT

تحولات البشر والمكان في رواية لبنانية

تحولات البشر والمكان في رواية لبنانية

عن دار «الشروق» بالقاهرة، صدرت الطبعة المصرية من رواية «ميكروفون كاتم صوت» للكاتب اللبناني محمد طرزي التي سبق لها الفوز بجائزتي «نجيب محفوظ» و«كتارا» للرواية العربية.

تعكس الرواية سمات السرد عند المؤلف من حيث التركيز على أصوات المهمشين وتوظيف تقنيات الكوميديا السوداء.

وتتميز كذلك بعناصر استعارية ومجاز عميق وشخصيات قوية وأسلوب سردي يعتمد على السهل الممتنع، وبرغم أنها تتحدث عن لبنان اليوم فإنها خرجت من محدودية المكان والزمان المفترض لتكتشف واقعاً إنسانياً عاماً عن أزمة الإنسان المعاصر في مدن تدفن الروح وتقتل الحلم.

يقدم محمد طرزي تشريحاً للبنان الصغير جغرافياً، صاحب الجراح الكبيرة على مستوى الروح، في الفترة من 2018 إلى 2022، أي الحقبة التي تحيط بانهيار العملة اللبنانية والانفجار في المرفأ حيث نتعرف على شخصيات متنوعة ومهمشة تكافح لفهم الحياة والبقاء على قيدها في ظل ظروف تزداد صعوبة.

ومن أجواء الرواية نقرأ:

«ألقى سلطان نظرة هادئة على شواهد القبور المغسولة بالمطر المتلألئة كالمروج البيض في أولى ساعات الصباح، لم تكن الشمس قد أشرقت بعد لكن الأفق مضاء وفوق البحر سحابة طويلة بلون البنفسج. نزل درجات ثلاثاً ومضى يسير ببطء بين القبور ممسكاً بكوبه الساخن المزين بالأزهار، استقر عند شجرة فيكوس معمرة جلس تحت أغصانها الفضية مستسلماً للدقائق السحرية الأولى من النهار.

رنت في الجو ضربات الحفار فرفع الشاب رأسه وتطلع نحو الرجل الذي يدك الأرض دكا مخرجاً من جوفها رملاً رطباً يكدسه بمحاذاة عربة يد صغيرة، نهض بعدها واقفاً ومشي بهدوء نحو مصدر الصوت متلمساً القبور وماسحاً عن شواهدها الندى.

رفع الحفار الواقف في الحفرة الغائرة عينيه مصلحاً قبعة القش فوق رأسه، رد التحية بوجه عابس يُعرف به ويعطي تفسيراً لتسميته بـ«أبو الغضب»، ارتطم رفشه بنتوء صخري فمتخط بقوة ماسحاً أنفه بظاهر كفه قبل أن يثبت الرفش تحت الجسم الصلب ويشده بنفس مقطوع: (أوه...أوه...)

تأمل سلطان الحفرة السوداء، بدت مثل فم نهم لا يميز بين روح كبيرة وأخرى صغيرة فيما الحفار بدا وهو يعض لسانه مثل طبيب أسنان أبله يجاهد لاقتلاع ضرس الأرض المسوس حتى يستبدل به جثة إنسان (أوه...أوه).

زفر الحفار، شد ظهره للخلف واضعاً يديه عند مستوى كليتيه ورد مكلماً نفسه: (صعبة) ثم توجه إلى سلطان طالباً إليه مناولته المعول الملقى بجانب الحفرة. انزلقت قبعة القش على عيني الحفار فأصلحها وشرع يضرب بقوة الكتلة الصخرية، نبح كلب وصاح ديك وغزت المقبرة رائحة المطر بينما الضربات تواصل دويها في هدأة الصباح.

بعد عشر ضربات تقريباً تفتت النتوء الصخري، صارت الحفرة ممهدة الآن، وأصبح بوسع الوافد الجديد وضع رأسه مطمئناً فوق الرمل عله ينعم بنومه الأبدي. مع إشراقة الشمس استيقظت المقبرة شيئاً فشيئاً، ارتفعت أصوات الذين ينظفون القبور وعلت جلبة المتسولات الملفعات بالأسمال وهن يتوزعن عند الأضرحة الفاخرة».