نقد العلم عند «الإبستيمولوجي» بول فيراباند

خرق النماذج المنهجية وأسس لرؤية فوضوية متحررة من كل تقعيد

بول فيراباند
بول فيراباند
TT

نقد العلم عند «الإبستيمولوجي» بول فيراباند

بول فيراباند
بول فيراباند

يلاحظ الناظر في صيرورة الثقافة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، شيوع تثمين مبالغ فيه لنمط المعرفة العلمية، وللنموذج المعرفي التقني الذي تغلغل في أدق تفاصيل الحياة الإنسانية، حتى لم يعد شيء ينفلت من قبضة الآلية العلمية. بل استحال نتاج المقياس العلمي عند البعض، هو عين الوجود، وما لم يحتمله المقياس، أو كان غير قابل للاستدخال فيه، فهو عندهم غير موجود أصلا!
وضد هذه الهيمنة الملحوظة، أخذ الفكر الناقد للمنظور العلمي يبرز، خاصة في حقلي الأبحاث الفلسفية والدينية. بيد أن نقد العلم ومنظوراته المنهجية لم ينحصر في أبحاث خارجة عن حقله، بل نجد نقدا إبستمولوجيا يصدر من داخل الحقل العلمي ذاته، نقدا يناهض اختزال الإجرائيات المعرفية في طريقة التفكير العلمي، وجعلها المنظور الوحيد لفهم العالم وتأويله. وقد برز هذا النقد عند إبستملوجيين ذوي اقتدار وتميز، مع سابق تخصص في أدق حقول المعرفة العلمية، من بينهم كارل بوبر، ولاكاتوس، وفيراباند وآخرين. بيد أن هذا الأخير كان أكثر جذرية وثورية في نقده. بل يجوز القول إنه لم يخل في مواقفه من مبالغة في التقليل من شأن المعرفة العلمية، والمناداة برؤى موغلة في الطرافة، مثل تسويته في التقييم بين السحر والشعوذة وبين المعرفة العلمية.
فكيف يبرر بول فيراباند نقده هذا؟
يشير فيراباند في كثير من أبحاثه، إلى ضرورة إنجاز الفصل بين العلم والدولة، على نحو يشبه في ثقله، الفصل الذي حدث بين الكنيسة والدولة في التاريخ الأوروبي، حيث يؤكد وجوب تحرير المجتمع مما يسميه بالسلطة الاستبدادية للعلم. ويرى أن من بين شروط هذا التحرير الفصل بين الدولة والنشاط العلمي. يقول في معرض نقده للمؤسسة التعليمية الأميركية: «غير مسموح للأميركي اليوم بأن يطالب بأن يتعلم أطفاله في المدرسة السحر بدل العلم، حيث هناك فصل بين الكنيسة والدولة، لكن ليس هناك فصل بين الدولة والعلم».
يجب على الدولة حسب فيراباند، أن تتخذ موقف الحياد وإلا سقطت في الأدلجة والاستبداد. فلا ينبغي لها أن تتبنى العلم أو غيره من أشكال المعرفة وأنماطها. بل يجب أن تترك الحقل التعليمي والثقافي حرا تتنافس فيه النظريات وأنماط المعارف بشكل حر. إذ يقول في كتابه «ضد المنهج»: «إن العلم هو أحد أشكال المعرفة التي طورها الإنسان، لكنه ليس بالضرورة أرقاها». فليس للمعرفة العلمية أي مسوغ، لا من جهة المنهج ولا من جهة النتاج المعرفي، يسمح لها بتوكيد زعمها بتفوقها على غيرها من أنماط التفكير والمعرفة. بل يذهب في نقده للاكاتوس أبعد من ذلك، حين ينفي أي إمكانية للزعم بأفضلية العلوم على السحر. بل يضيف في دراسته «كيف ندافع عن المجتمع ضد العلم»: «إن علم الطب مدين للمشعوذات»!
وللتوكيد على موقفه يشير فيراباند، في نقده للعلماء والابستملوجيين، إلى أنهم في حكمهم بأفضلية العلم على غيره من أنماط المعرفة الإنسانية، كنمط المعرفة الدينية مثلا، يكشفون عن جهلهم بتلك الأنماط وقلة معرفتهم وإدراكهم لها. وهو جهل يؤكد أن ما يتأسس عليه من أحكام معيارية، هو أحكام مهزوزة لا تستند على أساس غير الأساس الفارغ القائم على مجرد الانبهار بالعلم ذاته.
وبناء على تحليله للصيرورة التاريخية للعلم، ينتهي إلى القول بأنه ليس هناك قطيعة - كتلك التي سيقول بها غاستون باشلار - بين نمط المعرفة العلمية وأنماط المعرفة الأخرى. بل حتى بين العلم والشعوذة ثمة صلات ووشائج وثيقة! حيث يرى، مثلا، أن الرؤية الفيزيائية الجديدة التي جاء بها كوبرنيك، تلك التي تنعت على سبيل التقريظ في تاريخ الفيزياء بالثورة الكوبرنيكية، لم يرتكز صاحبها في بنائها على العلماء، بل على فيثاغوري أحمق يسمى فيلولاوس، حين تبنى كوبرنيك أفكاره ضاربا عرض الحائط بكل القواعد المنهجية المتعارف عليها في الوسط العلمي.
إن كلامه هذا على الرغم مما فيه من مبالغة واضحة، له بعض المصداقية. فالأنساق العلمية رغم الملامح التي تتبدى بها بوصفها مبنية على استقراءات وتجارب وفرضيات موضوعية، هي في عمقها، مسكونة بأساطير ومسبقات ميتافزيقية. فليس العلم أفضل من غيره من أنماط المعرفة التي يزعم أنه تخطاها وقطع معها. بل إن هذا التثمين والتقدير المبالغين، مجرد نتاج لنظرة قيمية ترتكز على تحيز واضح. وهذا حسب فيراباند، سقوط في مزلق المقايسة بين المختلفات. بينما لا مرتكز للمقايسة بين أنماط المعرفة، ولا مجال للمفاضلة بين نسقين أو أنساق معرفية مختلفة. فهذا الاختلاف لا يمنع المفاضلة فحسب، بل حتى المقايسة ذاتها كيفما كانت نتيجتها. ومشكلة العلماء، وكذا المنبهرين بالعلم، أنهم يحاكمون أنساقا معرفية غير علمية لمنطق العلم وقواعده في التفكير والاستدلال. والحال أن الأنساق تختلف من حيث القواعد المعرفية والاستدلالية اختلافا بينا، الأمر الذي لا يجوز القيام بمثل هذه المقايسات السطحية الجاهزة في عقول بعض دارسي الابستملوجيا. بل حتى داخل أنساق العلم ذاته، من الخطأ معايرة نسق وفق قواعد الاستدلال والمنطق المشتغل بها داخل نسق أو أنساق علمية أخرى. ويعطي فيراباند مثالا على ذلك بفيزياء الكوانطا. وهذا ما لا نملك إلا موافقته عليه، فالمنطق الكلاسيكي بقواعده الاستدلالية القائمة على مبادئ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع والسببية، لا يمكن الاشتغال به داخل المجال ما تحت الذري.
لكن مع هذا نقول، إن نقض المنهج والاستهزاء بالعقلنة من قبل فيراباند، قد أسقطه في مواقف فوضوية وتصورات لا ناظم لها. بل إنه هو نفسه كان يحرص، بقصدية واضحة، على استبعاد الناظم وخرق النماذج المنهجية والتأسيس لرؤية فوضوية متحررة من كل تنهيج وتقعيد. وفي هذا تكمن فرادته، كما تكمن أيضا مزالقه. لكن رغم هذه المزالق، أرى أن ثمة قيمة منهجية هامة لنظرية اللامقايسة تتمثل في التقليل من إمبريالية العلم التي أسستها الفلسفة الوضعية في القرن 19. واستمرت في بعض المواقع العلمية إلى اليوم. حتى إن التأسيس المنهجي للعلوم الإنسانية خضع لمنطق جاهز يركن لمبدأ منهجي قاصر، وهو أن أي حقل معرفي من الحقول الدارسة للكائن الإنساني - نفسيا كان أو سوسيولوجيا - لا بد أن يمتثل للنموذج المنهجي والتجريبي المشتغل به في العلوم الطبيعية.
وأكيد أن النظر إلى النموذج المنهجي لعلوم الطبيعة بوصفه نموذج المعقولية الوحيد، الذي ينبغي الخضوع له في مختلف أنماط وحقول المعرفة مهما كانت اختلافاتها الموضوعية، لهو إفقار للثقافة الإنسانية لا إثراء لها! ومبدأ اللامقايسة الذي بلوره فيراباند مبدأ ابستملوجي حصيف، لكنه للأسف أساء إليه بركام من الأقوال والرؤى النزقة التي تمتلئ بها كتبه.



مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
TT

مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة يناقش «النقد الفلسفي» وتشكيل المستقبل

الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)
الدكتور أحمد البرقاوي والدكتور عبد الله الغذامي في الجلسة الأولى لمؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة... وأدار الجلسة الدكتور سليمان الهتلان (تصوير: ميرزا الخويلدي)

تحت عنوان «النقد الفلسفي» انطلقت صباح اليوم، فعاليات مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة بدورته الرابعة، الذي يقام بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، وذلك بمقر بيت الفلسفة بالإمارة، برعاية الشيخ محمد بن حمد الشرقي، ولي عهد الفجيرة.

ومؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة، هو أول مؤتمر من نوعه في العالم العربي ويشارك فيه سنوياً نخبة من الفلاسفة البارزين من مختلف أنحاء العالم، ويحمل المؤتمر هذا العام عنوان «النقد الفلسفي».

وتهدف دورة هذا العام إلى دراسة مفهوم «النقد الفلسفي»، من خلال طرح مجموعة من التساؤلات والإشكاليات حوله، بدءاً من تعريف هذا النوع من النقد، وسبل تطبيقه في مجالات متنوعة مثل الفلسفة والأدب والعلوم.

ويتناول المؤتمر العلاقة بين النقد الفلسفي وواقعنا المعيش في عصر الثورة «التكنوإلكترونية»، وأثر هذا النقد في تطور الفكر المعاصر.

الدكتور عبد الله الغذامي (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويسعى المتحدثون من خلال هذا الحدث إلى تقديم رؤى نقدية بناءة جديدة حول دور الفلسفة في العصر الحديث ومناقشة مجموعة من الموضوعات المتنوعة، تشمل علاقة النقد الفلسفي بالتاريخ الفلسفي وتأثيره في النقد الأدبي والمعرفي والعلمي والتاريخي ومفاهيم مثل «نقد النقد» وتعليم التفكير النقدي، إلى جانب استكشاف جذور هذا النقد وربطه ببدايات التفلسف.

وتسعى دورة المؤتمر لهذا العام لأن تصبح منصة غنية للمفكرين والفلاسفة لتبادل الأفكار، وتوسيع آفاق النقاش، حول دور الفلسفة في تشكيل المستقبل.

ويأتي المؤتمر في ظل الاحتفال بـ«اليوم العالمي للفلسفة» الذي يصادف الخميس 21 نوفمبر (تشرين الثاني) من كل عام، والذي أعلن من قبل «اليونيسكو»، ويحتفل به كل ثالث يوم خميس من شهر نوفمبر، وتم الاحتفال به لأول مرة في 21 نوفمبر 2002.

أجندة المؤتمر

وعلى مدى ثلاثة أيام، تضم أجندة مؤتمر الفجيرة الدولي للفلسفة؛ عدداً من الندوات والمحاضرات وجلسات الحوار؛ حيث افتتح اليوم بكلمة للدكتور أحمد البرقاوي، عميد بيت الفلسفة، وكلمة لأمين عام الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية.

وتتضمن أجندة اليوم الأول 4 جلسات: ضمت «الجلسة الأولى» محاضرة للدكتور أحمد البرقاوي، بعنوان: «ماهيّة النّقد الفلسفيّ»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الغذامي، بعنوان: «النقد الثقافي»، وترأس الجلسة الدكتور سليمان الهتلان.

كما ضمت الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور فتحي التريكي، بعنوان: «النقد في الفلسفة الشريدة»، ومحاضرة للدكتور محمد محجوب، بعنوان: «ماذا يُمكنني أن أنقد؟»، ومحاضرة ثالثة للدكتور أحمد ماضي، بعنوان: «الفلسفة العربية المعاصرة: قراءة نقدية»، وترأس الجلسة الدكتور حسن حماد.

أمّا الجلسة الثالثة، فضمت محاضرة للدكتور مشهد العلّاف، بعنوان: «الإبستيمولوجيا ونقد المعرفة العلميّة»، ومحاضرة للدكتورة كريستينا بوساكوفا، بعنوان: «الخطاب النقدي لهاريس - نقد النقد»، ومحاضرة للدكتورة ستيلا فيلارميا، بعنوان: «فلسفة الولادة - محاولة نقدية»، وترأس الجلسة: الدكتور فيليب دورستيويتز.

كما تضم الجلسة الرابعة، محاضرة للدكتور علي الحسن، بعنوان: «نقد البنيوية للتاريخانيّة»، ومحاضرة للدكتور علي الكعبي، بعنوان: «تعليم الوعي النقدي»، ويرأس الجلسة: الدكتور أنور مغيث.

كما تضم أجندة اليوم الأول جلسات للنقاش وتوقيع كتاب «تجليات الفلسفة الكانطية في فكر نيتشه» للدكتور باسل الزين، وتوقيع كتاب «الفلسفة كما تتصورها اليونيسكو» للدكتور المهدي مستقيم.

الدكتور أحمد البرقاوي عميد بيت الفلسفة (تصوير: ميرزا الخويلدي)

ويتكون برنامج اليوم الثاني للمؤتمر (الجمعة 22 نوفمبر 2024) من ثلاث جلسات، تضم الجلسة الأولى محاضرة للدكتورة مريم الهاشمي، بعنوان: «الأساس الفلسفي للنقد الأدبيّ»، ومحاضرة للدكتور سليمان الضاهر، بعنوان: «النقد وبداية التفلسف»، ويرأس الجلسة: الدكتورة دعاء خليل.

وتضم الجلسة الثانية، محاضرة للدكتور عبد الله المطيري، بعنوان: «الإنصات بوصفه شرطاً أوّلياً للنّقد»، ومحاضرة للدكتور عبد الله الجسمي، بعنوان: «النقد والسؤال»، ويرأس الجلسة الدكتور سليمان الضاهر.

وتضم الجلسة الثالثة، محاضرة الدكتور إدوين إيتييبو، بعنوان: «الخطاب الفلسفي العربي والأفريقي ودوره في تجاوز المركزية الأوروبية»، ومحاضرة الدكتور جيم إي أوناه، بعنوان: «الوعي الغربي بفلسفة ابن رشد - مدخل فيمونولوجي»، ويرأس الجلسة: الدكتور مشهد العلاف.

ويتكون برنامج اليوم الثالث والأخير للمؤتمر (السبت 23 نوفمبر 2024) من جلستين: تتناول الجلسة الأولى عرض نتائج دراسة حالة «أثر تعليم التفكير الفلسفي على طلاب الصف الخامس» تشارك فيها شيخة الشرقي، وداليا التونسي، والدكتور عماد الزهراني.

وتشهد الجلسة الثانية، اجتماع حلقة الفجيرة الفلسفية ورؤساء الجمعيات الفلسفية العربية.