شكل التدخل العسكري الروسي المباشر في الأزمة السورية منعطفا مهما خلال الأسابيع الفائتة، وكان لا بد أن ينعكس هذا التدخل الذي يزعم أنه يستهدف «التنظيمات الإرهابية» - حسب زعم المصادر الرسمية في موسكو - على الأرض في معظم أنحاء سوريا. وفي ما يلي نعرض إلى ما يتعلق بمناطق سيطرة تنظيم داعش المتطرف، مع العلم بأن المعارضة السورية، ومعها معظم العواصم الغربية، أكدت أن العمليات العسكرية الروسية ركزت على مناطق لا وجود لـ«داعش» فيها، وأن غاية موسكو تعزيز قدرات نظام بشار الأسد في وجه قوى المعارضة.
في أعقاب التدخل الروسي في سوريا الذي وُضع في خانة «الحرب على الإرهاب»، وبالأخص، على تنظيم داعش.. ما هو وضع التنظيم الإرهابي في بلاد الشام؟.. وما هي التغييرات التي شهدها؟
لقد أظهر تقرير صدر الأسبوع الماضي من قبل الباحث كريس كوزاك، من «معهد دراسة الحرب» في العاصمة الأميركية واشنطن، توسع سيطرة «داعش» في المناطق السورية منذ بدء الغارات الروسية في نهاية شهر سبتمبر (أيلول) الماضي. إذ استطاع التنظيم المتطرف، وفقا لكوزاك، شن عدد من الهجمات المضادة ضد النظام السوري وحلفائه في محافظة حلب مهددا بذلك «خط الاتصال الرئيسي للنظام بمدينة حلب». وخلال هذه الهجمات تمكن مسلحو «داعش» من السيطرة على العديد من نقاط التفتيش على طول الطريق السريع بين بلدتي خناصر وإثريا يوم 23 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأدت هذه المكاسب الميدانية إلى قطع الطرق التي يستخدمها النظام السوري لنشر تعزيزاته إلى حلب من محافظتي حماه وحمص.
وبعد ذلك، بدأ «داعش» هجوما كبيرا استهدف بلدة السفيرة، وهي البلدة الرئيسية التي يسيطر عليها النظام إلى جنوب شرق مدينة حلب، والتي تعتبر بمثابة الحلقة الأساسية للنشاط العسكري الإيراني في سوريا. وللعلم، فإن هذه البلدة تضم أيضا مصانع الدفاع الاستراتيجي الخاصة بإنتاج الأسلحة الكيماوية والبراميل المتفجرة التي يُتهم النظام السوري باستخدامها. وبحسب المعلومات التي جرى تناقلها، حقق مسلحو «داعش» تقدما في الضواحي الشمالية البعيدة من السفيرة رغم الانتشار الأولي لتعزيزات النظام في المنطقة.
على الرغم من ذلك اعتمدت الإدارة الأميركية موقفا أكثر إيجابية في ما يتعلق بمكافحة «داعش»، فأعلن وزير خارجية الولايات المتحدة جون كيري، في خطابه الأخير بالعاصمة واشنطن في مركز كارنيغي للأبحاث، أن الائتلاف وشركاءه «نجحوا في شمال سوريا في دفع (داعش) خارج أكثر من 17 ألف كيلومتر مربع من الأراضي السورية، وفي تحصين الحدود التركية - السورية شرق نهر الفرات التي تخضع اليوم بصفة عامة تحت سيطرة ميليشيات الأكراد».
من ناحية ثانية، ووفقا لمصادر محلية، ما زال التنظيم يضم في سوريا ما بين 20 إلى 30 ألف مقاتل. وفي مقابلة مع «الشرق الأوسط»، ذكر الباحث أيمن جواد التميمي، من «منتدى الشرق الأوسط»، أن نحو 30 – 40 في المائة من مسلحي «داعش» في سوريا هم من المقاتلين الأجانب.
مع ذلك، وقبل أن يتمكن من التوسع في منطقة حلب في أعقاب الضربات الروسية، يواجه التنظيم ضغوطات كبيرة، لا سيما مقتل بعض القيادات المهمة فيه. فقد قتل في أوائل أكتوبر الماضي 8 من قياديه خلال غارة استهدفت مدينة كربلاء العراقية. غير أن التميمي يزعم أن هذه الضربات لم تكن قاضية للمنظمة، مضيفا أن: «المعلومات قليلة عن الشخصيات القيادية في (داعش)، وهي غير المعروفة علانية، وبالتالي يمكن استبدالها بكل سهولة. كذلك ترددت معلومات عن تغييرات حصلت أخيرا على مستوى القيادة في محافظة دير الزور (التي سماها التنظيم ولاية الخير)، وكان سببها أساسا الضربات الروسية».
أما الناشط السوري جلال الحمد، مدير «مرصد العدالة من أجل الحياة» في دير الزور، الذي قابلته «الشرق الأوسط» أخيرا، فقال: «إن تأثير الضربات على المدينة العراقية على قيادة (داعش) لم يكن كبيرا، نظرا لإمكانية استعاضة التنظيم عن العناصر الذين قتلوا بطريقة سريعة». واعتبر أن «ترشيح القادة الجدد يعتمد في المقام الأول على الولاء والفكر». كذلك أشار الحمد إلى أن افتقار دير الزور للكفاءات العسكرية المتخصصة على مستوى «داعش»، وأوضح: «كانت لهذا الأمر تداعيات كبيرة على الأرض بحيث اضطر التنظيم إلى استقدام قياديين من العراق للتخطيط للمعارك»، مضيفا أنه تم إرسال نحو 100 سيارة ومقاتلين من العراق أثناء المعارك التي وقعت في أكتوبر للسيطرة على مطار دير الزور.
وقد وضع «داعش» هيكلة خاصة به قوامها تأسيس «إمارة» في سوريا تضم ولايات عدة منها ولايات حمص وحماه وحلب ودمشق، بجانب «ولاية البركة» (منطقة الحسكة) و«ولاية الخير» (دير الزور) و«ولاية الفرات» (البوكمال)، وكذلك ولاية الرقة، كما شرح التميمي، الذي ذكر بعض القيادات التي تدير هذه «الولايات»، ومنهم «أبو أنس السامرائي» وهو أمير «ولاية الفرات» و«أبو صالح الجبلاوي» (السوري الجنسية) وهو أمير «ولاية الخير».
ومن ناحية أخرى، تتخذ «وزارات» التنظيم في سوريا «شكل منظمات الحكومة التقليدية، التي لا ينبغي أن تختلف بين العراق وسوريا»، وفق التميمي. وهكذا تتكون «الوزارات» من: ديوان التعليم، وديوان الركاز، وديوان الزكاة، وديوان العلم، وديوان العشائر، وديوان مكتب الخدمات، وديوان الدعوة والمساجد، وديوان الجنود، وديوان الحسبة، وديوان بيت المال، وديوان الصحة، وديوان العلاقات العامة، وديوان الأمن، وديوان الإفتاء، وديوان البحوث، وديوان الزراعة.
وبالعودة إلى الضربات الروسية، فإنها أنتجت حتى الآن تطورات عدة. وهنا يشرح الباحث كولن كلارك، من مؤسسة «راند»، وهي مركز أبحاث مقره في واشنطن، لـ«الشرق الأوسط» مفصّلا «كيف أنه، منذ بداية التدخل الروسي وتكثيف الغارات الجوية، اضطر (داعش) إلى التحرّك بحذر أكبر عند تنفيذ عمليات في العراء، واضطر مقاتلوه إلى زيادة مستوى الأمن، وهذا ما يعني أنهم بات لديهم وقت أقل للتدريب والتخطيط والهجوم. كما أنه وفي بعض من أجزاء البلاد، دفعت الضربات الروسية مقاتلي (داعش) إلى الدخول في مواجهات في الأحياء الضيقة مع مجموعات المتمردين. وهذا الأمر أبعد التنظيم عن هدفه الأساسي وهو الحكم وجمع المال وتجنيد الشباب وغيرها من المهام اللوجيستية الأخرى الأساسية لبقاء المجموعة على قيد الحياة».
ويعتقد التميمي أن الضربة الروسية «أسفرت عن دعوة تعبئة في ريف محافظة حلب الشرقي ردا على الهجوم على مناطق جنوب مدينة حلب بقيادة قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، بدعم جوي روسي. ويبدو أن الهدف من دعوة التعبئة هذه هو منع قوات النظام وحلفائه من فك الحصار المفروض قاعدة كويرس الجوية». لكن على الرغم من استفادة «داعش» من التدخل الروسي، فإن التنظيم المتطرف لا يزال يتخبط في مشاكل هيكلية نتيجة الخسائر المتتالية التي تكبدها بعد معارك عين العرب (كوباني) وتل أبيض، إذ يقول الحمد: «لوحظ أن التنظيم عمد إلى نقل بعض من المدنيين في صفوفه من إدارة المنظمة إلى خط المواجهة بعد فترة قصيرة فقط من التدريب العسكري بسبب الحاجة إلى مزيد من المقاتلين».
ويوافق كلارك الحمد رأيه فيقول شارحا: «إن (داعش) يتكبد خسائر كبيرة في صفوفه، مما يؤثر بشكل مدمر على معنويات التنظيم، الذي تكافح من أجل استقطاب المهارات المؤهلة لنصب الكمائن وشن الغارات والهجمات للتعويض عن قادة العمليات التكتيكية والعناصر الأساسية التي خسرها». ويضيف الحمد أن «التنظيم يشهد مزيدا من الانشقاقات، وبعض الأجانب يستخدمون هويات السوريين للمغادرة». أضف إلى ذلك الإجراءات المتشددة التي اتخذتها تركيا على الحدود، التي أدت إلى خفض عدد المقاتلين الأجانب في سوريا.
بناءً عليه، تتجه الأمور إلى مزيد من التعقيد بالنسبة إلى التنظيم الإرهابي المتطرف مع انخراط مزيد من اللاعبين الإقليميين في اللعبة السورية الذين يحمل كل منهم أجندته الخاصة، مما يؤثر بالإجمال على المشهد العسكري السوري الذي لا تزال معالمه غامضة ومبهمة حتى الآن.
خارطة تحرك «داعش» على الأرض السورية إتسعت منذ التدخل الروسي
التنظيم لا يزال يضم ما بين 20 إلى 30 ألف مقاتل في سوريا
خارطة تحرك «داعش» على الأرض السورية إتسعت منذ التدخل الروسي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة