«تكاد تضيء».. أسئلة فلسطينية لا تنتهي

رواية تقيم جسرًا بين الجغرافيا وحلم العودة

غلاف الرواية
غلاف الرواية
TT

«تكاد تضيء».. أسئلة فلسطينية لا تنتهي

غلاف الرواية
غلاف الرواية

تلعب رواية «تكاد تضيء» للكاتبة الفلسطينية سامية مصطفى عياش، الصادرة حديثا عن دار «كيان» بالقاهرة على حبال الذاكرة والعتمة والأمنيات، والصخب والضجيج، وتجسد عبر فصولها الخمسة، المأساة الفلسطينية، في عمقها التاريخي، وواقعها الراهن الحي، وذلك عبر مقومين سرديين، يشدان أفق الصراع في الرواية صعودا وهبوطا، ويلونان مصائر أبطالها، ويصنعان جسرا شفيفا يصل الماضي بالحاضر، الجغرافيا بالحلم الفلسطيني في الوطن والعودة، والتخلص من مكابدة العيش تحت وطأة الاحتلال الصهيوني.
تحفر الرواية خطين متوازيين، عبر حياتين وبين زمنين مختلفين، الزمن الأول تشقه حنان العائدة من الأردن تجرجر فشل زواجها، والآخر تقرأه من خلال مذكرات تيماء التي وجدتها على الجسر الواصل بين شرق الضفة وغربها.
ويلعب فعل التذكر دورا مهما في حركة الشخوص واستجلاء صراعاتها المتنوعة، من أجل العيش في واقع معتم، فبألم وحسرة تراجع حنان خيباتها، فيما تذكر أغاني عرسها الفلسطيني، ورقصات الجارات وزغاريدهن. وفي مشاهد سردية متوازية تطلعنا حنان عبر مونولوج داخلي على الشخصيات التي شكلت ماضيها وأحاطت بها وأثرت في قراراتها: الدكتور سميح، ابن عمها وطليقها الذي كان النسوة يتفاخرن بأنها ستصبح حَرَمَه، ذلك الزواج المحكوم بالوطن، والمدبوغ بالأرض.. كما تقدم لنا ليلى صديقتها التي زجرتها حين سألت عن قصي ليلة سفرها إلى الأردن، وعن والدها السجين القديم في سجون الاحتلال، وعن أمها بهداياها المشبعة بالدم، عن زغرتة أم أحمد لتعوضها بأمومتها، عن قصي ونظرته المتسللة المحفوظة في جراب القلب. وعبر دفقات ولطشات سردية لاذعة مفعمة بالشجن، تتساءل الرواية عن ماذا عن الوطن؟ عن عتبة الدار؟ عن الشرفات؟ عن شجرة الليمون ودالية العنب؟ عن والدها؟ عن السجن؟ عن ألم الطفلة التي يُختطف منها والدها خلف القضبان؟ ثم ماذا عن سجنه الثاني؟ ماذا عن كل ذلك حين تعود حنان بورقة طلاق؟ حين تدخل في وِحدة، فارغة من وطن يعني أيضًا من نحب، من نفتقد، من لم تجدهم حنان في طريق عودتها، ووجدتهم في مذكرات تيماء، حيث لؤي الذي يطفئ وِحدة مفرطة، وتساؤلات وجودية لا تنتهي.
وفي مرآتها الخاصة المليئة بشروخ النفس والأحلام المقموعة، تقف حنان أمام تساؤلات الآخرين، وصدى صوتها يرتد إليها ويتكسر: كيف؟ كيف قبلتِ أن تكوني مطلقة بهذه البساطة؟ ماذا سيقول الناس؟ كيف ستمشين في الشوارع؟ أليس عليك أن تستري نفسك وتتزوجي بالرجل الخمسيني أبو محمد الذي طلبك منذ أيام؟
وبربكة الشهوة الأولى للحب، تطارد حنان واقعها المر وهو يحاصرها في جسدها وأحلامها، وذاكرتها، لكنها لا تعرف كيف تهرب منه، إنه وطنها القريب البعيد، رغم الألم يقفز عبر الخدود المحمّرة، ويختبئ داخل الحكايات القديمة التي تتناقلها الأجيال، وينمو في الشعر والكلام الموارب على كل الاحتمالات.. حيث أدونيس، وكافكا، ومحمود درويش، والبياتي، وإلياس خوري، وباولو كويلهو، وأغنيات موضوعة على جروح مفتوحة.
تنفتح الرواية على زمنها الخاص، وتضيئه بالخوف تارة، والتشبث بإرادة الحياة والحب، في كل تلك النصوص المتنوعة بين الشعر والرواية والأغنية يتبادلها لؤي وتيماء محمولين في دفتر أسود عبر رسائل بريدية ويوميات تشفّ مشاعر إنسانية صادقة، تصبح تلك النصوص والمشاعر دليلا تهتدي به حنان في طريقها.. فأين الطريق؟
وفي طوايا السرد وصراعات الشخوص، تشارف الرواية الحالة السياسية الفلسطينية، بكل ما في حياة الفلسطيني العادي من تضارب وأفكار وأحداث، دون أن يحوّل ذلك الرواية إلى منبر أو بوق سياسي، إذ تُكتب مذكرات تيماء ما بين 2005 وحتى 2006، فيما تعيش حنان بين 2007 وحتى 2008.
كما تبرز أسئلة وهواجس خاصة ورسائل شخصية للذات، فتتساءل الرواية على لسان «الرواية»: أين تذهب صفحات تيماء اللاحقة؟ كلماتها تختفي عند تاريخ بعينه، نهاية مبتورة تريد أن تعرف حنان مصيرها.. فهل تبعث لتيماء ببريد إلكتروني؟ هل تلتقي الأزمنة والطرقات أخيرا؟ وهل يعود الدفتر الأسود لصاحبته؟ ثمة رسائل طويلة بين تيماء وحنان توطد ما حدث بعد الكلمات المختفية، تحاول أن تسدّ الألم المتسرب خلف الكلمات، وتنساب كشلال من الحسرة، والذكرى.. فتكون جزءا من حياة لا يمكن تناسيها أو حذفها.. هذه الرسائل ضوء شمعة لحنان كي تسير في طريق قصي دونما تراجع.
تنتهي الرواية بوفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وكأن هذه الوفاة مخاض أنجب الحب، فالأمل لم يمت بوفاة محمود درويش، إنه يعشعش في كلماته، ومن ثم تسدل الرواية الستار على فصولها باعتراف كامل في الحياة والاستمرارية، مجسدا في هذه الصرخة الشعرية:
«كُنتني وقد صرتكِ
صرتني وقد كنتكِ
إنه الجوهر،
الجوهر،
الجوهر!»



سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم
TT

سوريا الماضي والمستقبل في عيون مثقفيها

هاني نديم
هاني نديم

بالكثير من التفاؤل والأمل والقليل من الحذر يتحدث أدباء وشعراء سوريون عن صورة سوريا الجديدة، بعد الإطاحة بنظام الأسد الديكتاتوري، مشبهين سقوطه بالمعجزة التي طال انتظارها... قراءة من زاوية خاصة يمتزج فيها الماضي بالحاضر، وتتشوف المستقبل بعين بصيرة بدروس التاريخ، لأحد أجمل البلدان العربية الضاربة بعمق في جذور الحضارة الإنسانية، وها هي تنهض من كابوس طويل.

«حدوث ما لم يكن حدوثه ممكناً»

خليل النعيمي

بهذه العبارة يصف الكاتب الروائي خليل النعيمي المشهد الحالي ببلاده، مشيراً إلى أن هذه العبارة تلخص وتكشف عن سر السعادة العظمى التي أحس بها معظم السوريين الذين كانوا ضحية الاستبداد والعَسْف والطغيان منذ عقود، فما حدث كان تمرّداً شجاعاً انبثق كالريح العاصفة في وجه الطغاة الذين لم يكونوا يتوقعونه، وهو ما حطّم أركان النظام المستبد بشكل مباشر وفوري، وأزاح جُثومه المزمن فوق القلوب منذ عشرات السنين. ونحن ننتظر المعجزة، ننتظر حدوث ما لم نعد نأمل في حدوثه وهو قلب صفحة الطغيان: «كان انتظارنا طويلاً، طويلاً جداً، حتى إن الكثيرين منا صاروا يشُكّون في أنهم سيكونون أحياءً عندما تحين الساعة المنتظرة، والآن قَلْب الطغيان لا يكفي، والمهم ماذا سنفعل بعد سقوط الاستبداد المقيت؟ وكيف ستُدار البلاد؟ الطغيان فَتّت سوريا، وشَتّت أهلها، وأفْقرها، وأهان شعبها، هذا كله عرفناه وعشناه. ولكن، ما ستفعله الثورة المنتصرة هو الذي يملأ قلوبنا، اليوم بالقلَق، ويشغل أفكارنا بالتساؤلات».

ويشير إلى أن مهمة الثورة ثقيلة، وأساسية، مضيفاً: «نتمنّى لها أن تنجح في ممارستها الثورية ونريد أن تكون سوريا لكل السوريين الآن، وليس فيما بعد، نريد أن تكون سوريا جمهورية ديمقراطية حرة عادلة متعددة الأعراق والإثنيّات، بلا تفريق أو تمزيق. لا فرق فيها بين المرأة والرجل، ولا بين سوري وسوري تحت أي سبب أو بيان. شعارها: حرية، عدالة، مساواة».

مشاركة المثقفين

رشا عمران

وترى الشاعرة رشا عمران أن المثقفين لا بد أن يشاركوا بفاعلية في رسم ملامح سوريا المستقبل، مشيرة إلى أن معجزة حدثت بسقوط النظام وخلاص السوريين جميعاً منه، حتى لو كان قد حدث ذلك نتيجة توافقات دولية ولكن لا بأس، فهذه التوافقات جاءت في مصلحة الشعب.

وتشير إلى أن السوريين سيتعاملون مع السلطة الحالية بوصفها مرحلة انتقالية ريثما يتم ضبط الوضع الأمني ويستقر البلد قليلاً، فما حدث كان بمثابة الزلزال، مع الهروب لرأس النظام حيث انهارت دولته تماماً، مؤسساته العسكرية والأمنية والحزبية كل شيء انهار، وحصل الفراغ المخيف.

وتشدد رشا عمران على أن النظام قد سقط لكن الثورة الحقيقية تبدأ الآن لإنقاذ سوريا ومستقبلها من الضياع ولا سبيل لهذا سوى اتحاد شعبها بكل فئاته وأديانه وإثنياته، فنحن بلد متعدد ومتنوع والسوريون جميعاً يريدون بناء دولة تتناسب مع هذا التنوع والاختلاف، ولن يتحقق هذا إلا بالمزيد من النضال المدني، بالمبادرات المدنية وبتشكيل أحزاب ومنتديات سياسية وفكرية، بتنشيط المجتمع سياسياً وفكرياً وثقافياً.

وتوضح الشاعرة السورية أن هذا يتطلب أيضاً عودة كل الكفاءات السورية من الخارج لمن تسمح له ظروفه بهذا، المطلوب الآن هو عقد مؤتمر وطني تنبثق منه هيئة لصياغة الدستور الذي يتحدد فيه شكل الدولة السورية القادمة، وهذا أيضاً يتطلب وجود مشاركة المثقفين السوريين الذين ينتشرون حول العالم، ينبغي توحيد الجهود اليوم والاتفاق على مواعيد للعودة والبدء في عملية التحول نحو الدولة الديمقراطية التي ننشدها جميعاً.

وداعاً «نظام الخوف»

مروان علي

من جانبه، بدا الشاعر مروان علي وكأنه على يقين بأن مهمة السوريين ليست سهلة أبداً، وأن «نستعيد علاقتنا ببلدنا ووطننا الذي عاد إلينا بعد أكثر من خمسة عقود لم نتنفس فيها هواء الحرية»، لافتاً إلى أنه كان كلما سأله أحد من خارج سوريا حيث يقيم، ماذا تريد من بلادك التي تكتب عنها كثيراً، يرد قائلاً: «أن تعود بلاداً لكل السوريين، أن نفرح ونضحك ونكتب الشعر ونختلف ونغني بالكردية والعربية والسريانية والأرمنية والآشورية».

ويضيف مروان: «قبل سنوات كتبت عن (بلاد الخوف الأخير)، الخوف الذي لا بد أن يغادر سماء سوريا الجميلة كي نرى الزرقة في السماء نهاراً والنجوم ليلاً، أن نحكي دون خوف في البيت وفي المقهى وفي الشارع. سقط نظام الخوف وعلينا أن نعمل على إسقاط الخوف في دواخلنا ونحب هذه البلاد لأنها تستحق».

المساواة والعدل

ويشير الكاتب والشاعر هاني نديم إلى أن المشهد في سوريا اليوم ضبابي، ولم يستقر الأمر لنعرف بأي اتجاه نحن ذاهبون وأي أدوات سنستخدم، القلق اليوم ناتج عن الفراغ الدستوري والحكومي ولكن إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يوجد هرج ومرج، وهذا مبشر جداً، لافتاً إلى أن سوريا بلد خاص جداً بمكوناته البشرية، هناك تعدد هائل، إثني وديني ومذهبي وآيديولوجي، وبالتالي علينا أن نحفظ «المساواة والعدل» لكل هؤلاء، فهي أول بنود المواطنة.

ويضيف نديم: «دائماً ما أقول إن سوريا رأسمالها الوحيد هم السوريون، أبناؤها هم الخزينة المركزية للبلاد، مبدعون وأدباء، وأطباء، وحرفيون، أتمنى أن يتم تفعيل أدوار أبنائها كل في اختصاصه وضبط البلاد بإطار قانوني حكيم. أحلم أن أرى سوريا في مكانها الصحيح، في المقدمة».

خالد حسين

العبور إلى بر الأمان

ومن جانبه، يرصد الأكاديمي والناقد خالد حسين بعض المؤشرات المقلقة من وجهة نظره مثل تغذية أطراف خارجية للعداء بين العرب والأكراد داخل سوريا، فضلاً عن الجامعات التي فقدت استقلالها العلمي وحيادها الأكاديمي في عهد النظام السابق بوصفها مكاناً لتلقي العلم وإنتاج الفكر، والآن هناك من يريد أن يجعلها ساحة لنشر أفكاره ومعتقداته الشخصية وفرضها على الجميع.

ويرى حسين أن العبور إلى بر الأمان مرهونٌ في الوقت الحاضر بتوفير ضروريات الحياة للسوريين قبل كلّ شيء: الكهرباء، والخبز، والتدفئة والسلام الأهلي، بعد انتهاء هذه المرحلة الانتقالية يمكن للسوريين الانطلاق نحو عقد مؤتمر وطني، والاتفاق على دستور مدني ديمقراطي ينطوي بصورة حاسمة وقاطعة على الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة، وحقوق المكوّنات الاجتماعية المذهبية والعرقية، وحريات التعبير وحقوق المرأة والاعتراف باللغات الوطنية.

ويشير إلى أنه بهذا الدستور المدني المؤسَّس على الشرعية الدولية لحقوق الإنسان يمكن أن تتبلور أحلامه في سوريا القادمة، حينما يرى العدالة الاجتماعية، فهذا هو الوطن الذي يتمناه دون تشبيح أو أبواق، أو طائفية، أو سجون، موضحاً أن الفرصة مواتية لاختراع سوريا جديدة ومختلفة دون كوابيس.

ويختتم قائلاً: «يمكن القول أخيراً إنّ مهام المثقف السوري الآن الدعوة إلى الوئام والسلام بين المكوّنات وتقويض أي شكل من أشكال خطاب الهيمنة والغلواء الطائفي وإرادة القوة في المستقبل لكي تتبوّأ سوريا مكانتها الحضارية والثقافية في الشرق الأوسط».