رحيل عبد الرزاق عبد الواحد في باريس

عدّه الجواهري «تلميذه» ولقب في عهد صدام بـ«شاعر القادسية»

الشاعر العراقي الراحل عبد الرزاق عبد الواحد
الشاعر العراقي الراحل عبد الرزاق عبد الواحد
TT

رحيل عبد الرزاق عبد الواحد في باريس

الشاعر العراقي الراحل عبد الرزاق عبد الواحد
الشاعر العراقي الراحل عبد الرزاق عبد الواحد

في ظل صمت وزارة الثقافة العراقية واتحاد الأدباء والكتاب، ضجت وكالات الأنباء ومواقع التواصل الاجتماعي، أمس، بخبر وفاة الشاعر العراقي عبد الرزاق عبد الواحد، في باريس، عن 85 عاما. وكان الراحل يعاني منذ فترة من مرض عضال، وغربة أعقبت سقوط النظام السابق عام 2003، تنقل خلالها، بين كل من سوريا والأردن، حيث استقر أخيرا في باريس حيث تقيم إحدى بناته.
ويعد عبد الرزاق عبد الواحد، المولود في مدينة العمارة (400 كم جنوب العراق)، لعائلة تنتمي إلى الطائفة الصابئية المندائية، واحدا من أهم شعراء العمود في العراق والوطن العراقي، بالإضافة إلى كتابته الشعر الحر، حيث أصدر العديد من الدواوين، حتى عده الكثير من النقاد امتدادا لمدرسة بدر شاكر السياب، رائد هذا النمط من الشعر، الذي ارتبط عبد الواحد معه بصداقة عميقة. لكن عبد الواحد تحول منذ اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، عام 1980، إلى كتابة الشعر العمودي حتى لقب بـ«شاعر القادسية»، وهو التعبير الذي أطلق على تلك الحرب التي استمرت 8 أعوام، وسميت «قادسية صدام». ومع انتهاء الحرب ودخول العراق مواجهة جديدة مع الغرب، بعد احتلال صدام حسين الكويت عام 1990، واصل عبد الواحد كتابة قصائد موالية للنظام السابق ورئيسه صدام حسين تحديدا، ولقب، بعدها، بـ«شاعر أم المعارك». لكنه كان قد حصل أيضا على العديد من الجوائز، منها «وسام بوشكين»، في مهرجان الشعر العالمي في بطرسبرغ عام 1976، وعلى «درع جامعة كمبردج»، ونال شهادة الاستحقاق منها عام 1979. كما نال «ميدالية القصيدة الذهبية» في مهرجان ستروكا الشعري العالمي في يوغوسلافيا عام 1986. وحصل على الجائزة الأولى في مهرجان الشعر العالمي في يوغوسلافيا 1999، ووسام «الآس»، وهو أعلى وسام تمنحه طائفة الصابئة المندائيين للمتميزين من أبنائها 2001.
وفي موقف لافت، نعى زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد. ونقل بيان عن الصدر قوله إنه «ينعى شاعر العراق الكبير عبد الرزاق عبد الواحد، الذي وافته المنية بعد صراع مع المرض هذا اليوم (أمس)». وأضاف البيان: «بهذه المناسبة نتقدم لأبناء شعبنا العزيز والأسرة الأدبية والنخب الثقافية والأكاديمية بأحر التعازي، داعين الله عز وجل أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، وإنا لله وإنا إليه راجعون».
وكان عبد الواحد قد نشر مسرحية شعرية عن «الحر الرياحي»، كما كتب قصيدة مشهورة عن الإمام الحسين بن علي (رضي الله عنه).
وفي هذا السياق، قال الشاعر عارف الساعدي، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إن «وفاة عبد الرزاق عبد الواحد خسارة كبرى لا تعوض، لأننا فقدنا آخر عمالقة الشعر العربي الكبار، ممن حافظوا على بناء القصيدة العربية، سواء كانت كلاسيكية أم حديثة»، مشيرا إلى أنه «في الوقت الذي يطول فيه الحديث عن أبي خالد، فإن ما أذكره عنه أنني دخلت عليه يوما في مكتبه بوزارة الإعلام، في تسعينات القرن الماضي، وكان في أشد حالاته فرحا، حيث أخبرني بأن المرجع الشيعي الكبير آنذاك، محمد صادق الصدر (اغتيل عام 1999) كتب عنه فصلا كاملا في كتابه (أضواء على ثورة الحسين)، حيث رشحه كأفضل من كتب عن الحسين من غير المسلمين، متجاوزا بذلك الجواهري». وتابع الساعدي قائلا إن «عبد الرزاق ظلم نقديا، حيث لم تجر دراسة شعره بطريقة صحيحة، إذ امتدت السياسة كثيرا إلى شعره، وهو أمر أضر به، مع أنه يستحق الكثير على المستوى النقدي، على الرغم من قوله لي إن 20 في المائة من شعره هو ما سيبقى وتتداوله الألسن، بينما يهذب نحو 80 في المائة من دون أن يحس بأهميته». وعبر الساعدي عن «الحزن من أن كبار مبدعي العراق، سواء في العهد السابق ممن كانوا معارضين له، أو العهد الحالي ممن يعارضونه، دفنوا كلهم في كلا العهدين في مقابر الغرباء خارج الوطن». وقال عضو البرلمان العراقي عن طائفة الصابئة المندائيين، خالد الرومي، لـ«الشرق الأوسط»، إن «عبد الرزاق عبد الواحد، وإن كان ينتمي إلى طائفة الصابئة المندائيين التي تفخر به، لكنه لا ينتمي إلى طائفة أو قومية أو مذهب، بل هو ملك العراق. وهو شاعر كبير قدم الكثير إلى وطنه. وهو ما يجعلنا نشعر، ونحن الطائفة الصغيرة، بالفخر أن تكون لنا رموز بهذه الأهمية مثل عبد الرزاق، ولميعة عباس عمارة، وعبد الجبار عبد الله». وأشار الرومي إلى أن «عبد الرزاق عبد الواحد، وعلى الرغم من وقوفه إلى جانب النظام السابق، وتحديدا رئيسه (صدام حسين)، فإنه بقي ينظر إليه في الأوساط السياسية والثقافية على أنه قامة عراقية كبيرة لا جدال على أهميتها، حيث لم تؤخذ عليه كثيرا مواقفه السياسية».
وقال الناقد باسم عبد الحميد حمودي، لـ«الشرق الأوسط»، إن «وفاة عبد الرزاق عبد الواحد خسارة كبرى لشاعر عملاق لا يمكن تعويضه، حيث عبر بصدق عن هموم الجماهير وعواطفها، وعده الجواهري بمثابة تلميذه الأساسي، إن لم يكن خليفته»، مشيرا إلى أن «عبد الرزاق بقي محافظا على القصيدة العربية بكل تحولاتها. وكان كبيرا سواء حين كتب شعرا عموديا أو حين كتب الشعر الحر، حيث بقيت شاعريته متدفقة حتى آخر أيام حياته».
وفي السياق نفسه، قال الشاعر جواد الحطاب، إن «عبد الرزاق آخر عمالقة الشعر العربي الأصولي إذا صح التعبير، الممتد من المعلقات وحتى اليوم، حيث إننا نستطيع القول إنه امتداد حي لكبار شعراء العربية من المتنبي إلى الجواهري. وبالتالي فإنه برحيله تكون قد انطوت صفحة مهمة من صفحات الشعر العربي».
ويستذكر الروائي علي خيون لقاءاته بالشاعر عبد الواحد في كل من عمان ودمشق، قائلا إن «عبد الرزاق عبد الواحد يمثل خلاصة التجربة الإبداعية العربية، حيث إنه لا يمكن تصنيفه ضمن أطر ضيقة، ويمثل رمزية كبيرة على كل المستويات»، مؤكدا أنه «كان من المنطقي أن يتم التواصل معه من قبل الجهات الرسمية، حيث كنا نتمنى أن يتم الاتصال به أو دعوته إلى العراق لكي يموت في وطنه، حيث من المؤسف أن يموت كل مبدعينا الكبار خارج العراق، من منطلق كونهم معارضين في العهدين السابق والحالي».



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.