الشاعر السعودي محمد حبيبي: التحولات العربية كشفت الهشاشة الثقافية للنخبة

قال إن الأندية الأدبية ستكون كيانات آيلة للانقراض إذا لم تغير من توجهاتها

الشاعر السعودي محمد حبيبي: التحولات العربية كشفت الهشاشة الثقافية للنخبة
TT

الشاعر السعودي محمد حبيبي: التحولات العربية كشفت الهشاشة الثقافية للنخبة

الشاعر السعودي محمد حبيبي: التحولات العربية كشفت الهشاشة الثقافية للنخبة

* إلى حد كبير خدمت التقنية الشعراء في سهولة ويسر الانتشار، وتجدد وسائله ووسائطه، وفي المقابل وضعتهم أمام تحديات جديدة كبيرة، إذ لم يعد الشعر والشعراء والأدباء عامة نخبة لهم الأولوية في المتابعة والقراءة فهناك عوالم متع جديدة تسرق القراء والمتابعين منهم.
* لن يصمد بعد حين سوى ما يستحق الاستمرار والخلود في عوالم الكتابة وفق تغير معطيات النشر والتداول والتلقي، قد يملأ إنسان ما عوالم التواصل بكتاباته، بينما يستحضر القراء والمتابعون كتابات خالدة لم يدرك أصحابها عوالم النشر والتواصل الجديدة.

ينتهج الشاعر السعودي محمد محمود حبيبي نسقا ثقافيا جديدا في الثقافة المحلية يمزج فيه الكلمة الشعرية بالصورة. يتجلى ذلك في ثلاث تجارب بصرية أنتجها {غواية مكان}، و{حدقة تسرد}، و{بصيرة الأمل} فيما يعمل على تجربتين جديدتين هما {بيت} و{غبار}. في هذا الحوار يقول الشاعر محمد حبيبي إن الزمن الرقمي ووسائط التواصل الاجتماعي وضعت الشعراء أمام تحديات كبيرة فهذه الوسائل سحبت بساط النخبوية والمتابعة من تحت أقدامهم لكنها في المقابل ساهمت في زيادة انتشارهم.
وهو يرى أيضا في هذا الحوار الذي أجريناه معه من مقر إقامته في جازان غربي السعودية أن التحولات التي يمر بها العالم العربي عرت كثير من الثقافة الهشة، وكشفت عوار التنظيرات التي لم تتعرض قبلا لاختبارات حقيقية، خاصة في ظل ما تمر به المجتمعات العربية منذ بدء ما اصطلح له الربيع العربي حتى الآن.
* على ماذا تشتغل؟ وماذا تقرأ هذه الأيام؟
- انتهيت من قراءة عدد من الأعمال منها رواية «قواعد العشق الأربعون}، وعلى وشك الانتهاء من قراءة رواية «ضمير السيد زينو» لإيتالو سفيفو، وكلتاهما من الروايات الطويلة والمهمة التي تمثل نسقا سرديا لافتا في طريقة كتابتها. أما بالنسبة للاشتغالات الشعرية فأعمل على مجموعة من الأعمال والنصوص المؤجلة.
* ماذا بعد ثلاث تجارب بصرية مزجت فيها الكلمة بالصورة كما في أعمالك: {غواية مكان}، و{حدقة تسرد}، و{بصيرة الأمل}؟
- بعد هذه الأعمال من الطبيعي أن تتنامى التجربة وتفرز أفكارا كثيرة جديدة تمثل تطور الاشتغال الذي تقوم عليه التجربة، وابتدأت العمل في تجربتين بصريتين جديدتين هما: {بيت} و{غبار} وهي تجارب تحتاج إلى وقت ليس بالقصير لإنجازها بشكل تام.
* هل وجدت التجارب الثلاث صدى في الوسط الثقافي، أو أثمرت عن مشاريع ثقافية مشتركة؟
- حققت التجارب أصداء تفاعلية كردود فعل ونقاشات تعقب عرض كل تجربة، لدرجة أن ما كتب حولها من مواد صحافية تجاوز الثمانين مادة ما بين قراءة تحليلية وتغطية خبرية، إلى جانب أن الدعوات لعرض التجارب داخليا وخارجيا تجاوزت الاثنتي عشرة دعوة وعرضا خلال عامين فقط.
وبدأت تظهر في الوقت نفسه أعمال في سياق التجربة أو تشتغل في آفاق قريبة منها كتجربة سردية بصرية للصديقين الروائيين محمود تراوري وعبد الله التعزي، وربما بأماكن بأخرى.
* كنت تتوق أن تقدم تجاربك البصرية كآلية ونسق في الطرح الثقافي.. هل نجحت في ذلك؟
- لا أقول نجاحا، لكن إلى حد كبير كان هناك توفيق ملموس في ردود الفعل على مستوى النخبة وخارجها، وما كتب من تعليقات يجسد القبول والترحيب الكبير بهذا النسق من الاشتغال، ويكفي أن تجس نبض من هم خارج النخبة بردود أفعال المتلقين عقب العروض للتجارب وخاصة ممن لم يكن لديهم اهتمام أو تقبل للتجربة الكتابية. فمع التجارب المرئية وجدت تفاعلا واستفسارات تناقش تفاصيل الأعمال المعروضة وكيفية اشتغالها، واهتماما بمتابعة الجديد عبر الأسئلة المباشرة، أو عبر وسائل التواصل، ومجمل ردود الأفعال أعطت مؤشرات التقبل والانجذاب لهذه التجارب.
* هل ما زلت عند رأيك بأن قصيدة النثر تعاني من كثرة المتطفلين (المتشاعرين) عليها؟
- ليست قصيدة النثر وحدها من تعاني، بل كافة أجناس الإبداع والفن، ربما كان هذا الرأي رد فعل في مرحلة سابقة كانت تطرح فيها قصيدة النثر بوصفها الشكل النهائي لتطورات كتابة القصيدة، وهذا ما لا يمكن الارتهان إلى حتميته، نظرا لتناقض ذلك مع المنطق التجريبي ذاته، وأخذا بمنظور صعوبة القصيدة النثرية نفسها وتنوعها، على نحو يجعل كثيرا مما يكتب ويصنف بكل سهولة على أنه قصيدة نثر هو أبعد ما يكون عن هذه القصيدة غير السهلة أبدا على شعرائها الحقيقيين.
* ماذا بقي للشعر والشعراء في هذا الزمن الرقمي؟ هل خدمت وسائط التواصل الشعراء أم حدت من نخبويتهم؟
- بقي للشعراء كل شيء وسُلب منهم كل شيء. إلى حد كبير خدمت التقنية الشعراء في سهولة ويسر الانتشار، وتجدد وسائله ووسائطه، وفي المقابل وضعتهم أمام تحديات جديدة كبيرة، إذ لم يعد الشعر والشعراء والأدباء عامة نخبة لهم الأولوية في المتابعة والقراءة فهناك عوالم متع جديدة تسرق القراء والمتابعين منهم.
إننا باختصار في مفرزة تلق كبيرة وطاحنة، ولن يصمد بعد حين سوى ما يستحق الاستمرار والخلود في عوالم الكتابة وفق تغير معطيات النشر والتداول والتلقي، قد يملأ إنسان ما عوالم التواصل بكتاباته، لكن لو تأملت تجد أنها لا تحضر سوى بحضوره، بينما يستحضر القراء والمتابعون كتابات خالدة لم يدرك أصحابها عوالم النشر والتواصل الجديدة.
* كيف ترى حال المؤسسات الثقافية المحلية في الوقت الراهن؟ وهل نجحت في استقطاب الجيل الشاب من المثقفين أم أنها فشلت في ذلك؟
- المؤسسات الثقافية ولا سيما الأندية الأدبية إذا بقيت على آلياتها وأدواتها ذاتها، ولم يعمل لها مراجعة لهيكلة ممتزجة مغايرة مستفيدة ومنفتحة على جمعيات الثقافة والفنون في مؤسسات جديدة، فإنها ستكون كيانات آيلة للانقراض، وستصبح أقرب للمتاحف الخاملة منها للمؤسسات النابضة بالحراك والحيوية، وما لم تستفد من طاقات الشباب الجدد وقدراتهم، فإنها وليس الشباب من سيخسر الرهان على الاستمرار.
والسبب أن مؤسساتنا الثقافية أنشئت قبل ربع قرن لخدمة أدباء في ظروف مجتمعية ووسط ثقافي مختلف في حاجاته وإمكاناته عما هو عليه الوضع الآن.
* هل قدمت التحولات التي يمر بها العالم العربي خدمة للثقافة أم أنها ساهمت في دفع الوعي إلى الاصطفاف الآيديولوجي والطائفي والفكري؟
- أظن وإلى حد كبير أنها ساهمت في تعرية الكثير من الهش في مكونه الثقافي وكشفت عوار كثير من التنظيرات التي لم تتعرض لمحكات واختبارات حقيقية وفعلية جادة، كالذي تمر به المجتمعات العربية منذ بدء ما اصطلح له الربيع العربي.
ولذلك لم نعد نتفاجأ بتحولات وتناقضات مواقف كثيرين. كما أن هذه التحولات كشفت على الصعيد الثقافي العام غلبة العاطفة على العقلانية في الكثير من المواقف، والتحليلات التي يظهر أنها بحاجة إلى كثير من الوقت، لنصل إلى مرحلة نضج الوعي الفردي وأهليته ليصبح وعيا جمعيا.
كل ما نراه ونسمعه من أحداث وتحولات وانتظار نتائج تشعر معه أن الوقت الذي ستتمخض عنه نتائج الربيع العربي لا يعدو وقت فصل الربيع نفسه.

داخل إطار

السيرة الذاتية
شاعر وناقد سعودي، ولد عام 1968.
- ماجستير في الأدب العربي من جامعة أم القرى.
- دكتوراه الفلسفة في اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب جامعة الملك سعود.
صدر له: (أعمال شعرية مطبوعة): «انكسرتُ وحيدا}، 1996، دار الجديد بيروت لبنان. «أطفئُ فانوس قلبي}، 2003، نادي جازان الأدبي، «الموجدة المكية}، 2007، دار طوى، السعودية، بالاشتراك مع دار الانتشار العربي بيروت، لبنان، «جالسا مع وحدك}، 2011، دار مسعى الكويت.
- له أعمال شعرية أخرى مخطوطة.
- صدر له في الدراسات النقدية دراسة بعنوان {الاتجاه الابتداعي في الشعر السعودي الحديث}. وله أيضا من التجارب الشعرية المرئية: «غواية المكان}، و«حدقة تسرد»، و«بصيرة الأمل».



سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية
TT

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

سبعةُ أنماطٍ من المتعة الروائية

حين نشر الناقد البريطاني ويليام إمبسون William Empson كتابه المرجعي في النقد الأدبي سبعة أنماط من الغموض Seven Types of Ambiguity عام 1930، كان في الرابعة والعشرين من عمره؛ لكنّه مع ذلك وضع واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في النقد الأدبي الحديث. لم يكن إمبسون يتعامل مع الغموض بوصفه عيباً في التعبير بل بعدّه قلب الشعر النابض. رأى أنّ اللغة حين تبلغ أقصى درجاتها الفنية لا توضّح بقدر ما تلمّح، ولا تفسّر بقدر ما تُثير، وأنّ الجمال يكمن في المسافة بين ما يُقال وما يمكن أن يُقال. من هنا جاءت فكرته الجريئة: يمكن تصنيفُ الغموض ذاته في سبعة أنماط، تتدرّج من البسيط إلى المركّب، ومن الغموض اللغوي إلى الغموض الوجودي. جعل إمبسون من الغموض (أو التعقيد بلغة الأدب التقنية) متعة جمالية في ذاته؛ فالقصيدة عنده ليست معادلة لغوية تقود إلى استجابة موحّدة لدى القرّاء بل كائن متعدد الطبقات، وكلُّ قراءة تكشف عن جانب من نسيج ذلك الكائن.

منذ أن قرأتُ كتاب إمبسون لم أُبْطِل التفكير بالكيفية التي نستلهم بها أفكاره وننقلها من الشعر إلى الرواية: اذا كان للغموض الشعري أنماطُهُ السبعة؛ فلماذا لا تكون للمتعة الروائية أيضاً أنماطُها؟ لماذا نظنُّ أنّ مُتعة القراءة حالةٌ واحدة موحّدة في وقتٍ تدلُّنا فيه خبرتُنا على أنّ هذه المتعة طيفٌ واسعٌ من تجارب التلقّي والانفعالات الشخصية؟

لا بأس من مثال تطبيقي حقيقي. أفكّرُ كثيراً في روايات عديدة من أمثال رواية قوس قزح الجاذبية Gravity’s Rainbow التي كتبها الروائي الأميركي توماس بينتشون Thomas Pynchon. هذه الرواية تدور وقائعها في أواخر الحرب العالمية الثانية، وتستكشف موضوعات معقدة مثل جنون العظمة والفساد والتقنية، وتركّز على تصميم صواريخ V-2 الألمانية وتأثيرها. الرواية مشبعة بالغموض؛ لكنّه غموض إبداعي من درجة رفيعة يبدأ من عنوان الرواية ذاتها حيث إنّ مسار الصاروخ يشبه قوس قزح. هذه الرواية غير مترجمة إلى العربية، وكثيراً ما تساءلت: لماذا الإحجامُ عن ترجمتها؟ هل يستشعر المترجمون أنّها تفتقرُ إلى المتعة المفترضة في القراءة الروائية؟ سيكون تعسّفاً خطيراً أن نفترض متعة جمعية في هذه الرواية كما يحصل مثلاً مع روايات دوستويفسكي؛ لكن مع هذا سيجد قليلون ربما متعة عظيمة فيها. سيقودنا الحدسُ إلى أنّ تلك القلّة المخصوصة هي لقرّاء لهم شيء من معرفة بالرياضيات والفيزياء وتواريخ الحروب وتداخلات السلطة وضغوطها. لا يمكن في النهاية التصريحُ بمتعة شاملة مطلقة للعمل الروائي. هذا مدخل يوضّحُ التمايز الحتمي بين أنماط المتعة الروائية بين القرّاء.

*****

منطلقةً من كتاب إمبسون أعلاه، سأحاولُ الإشارة إلى سبعة أنماط من المتعة الروائية، لا بوصفها تصنيفاً نهائياً بل بوصفها خريطة أولى في جغرافيا اللذة السردية.

أولى المتع السردية هي متعة الانغماس. إنّها المتعة الأولى التي يتذوقها القارئ منذ طفولته، حين يفتح كتاباً ويجد نفسه فجأة في مكان آخر.

إنها متعة الغياب الطوعي عن الواقع: أن نذوب في العالم الروائي حتى ننسى أننا نقرأ. في هذه اللحظات لا نكون خارج النص بل داخله، نعيش مع شخصياته ونتنفس هواءه. نقرأ موبي ديك فنشعر برائحة البحر، أو آنا كارينينا فنرتجف أمام قطارها القادم. الانغماس هو نوع من الحلم الواعي، تجربة بين الخيال والوجود، فيها يتحوّل القارئ من متلقٍ إلى مشارك. إنها متعة لا تبحث عن المعنى بقدر ما تبحث عن الإقامة المؤقتة في عالم آخر، موازٍ، بحثاً عن ذلك النسيان الجميل الذي يُعيد إلينا براءة الخيال.

المتعة الثانية هي متعة التركيب. في هذا النمط، القارئ لا يستسلم للنص بل يتحدّاه. إنه القارئ الذي يتعامل مع الرواية كما يتعامل عالم الآثار مع نقش قديم: يحلّلُهُ، يربط بين أجزائه، يبحث عن رموزه ومفاتيحه. هنا تتحوّل اللذة إلى فعل فكري، إلى شغف ببنية السرد لا بوقائعه فقط. روايات مثل اسم الوردة لأومبرتو إيكو، أو قوس قزح الجاذبية لتوماس بينتشون تُجسّد هذا النمط: أعمال تُبنى كإنشاءات فكرية رفيعة يشارك القارئ في رسم خريطتها. المتعة هنا لا تأتي من الحكاية بل من الذكاء البنائي، ومِنْ شعور القارئ أنه شريك في صناعة المعنى، لا مستهلك له فحسب.

النمط الثالث من المتعة الروائية هو متعة الاعتراف. ليست كل الروايات مرآة للعالم؛ فبعضها مرآة للذات. حين نقرأ عملاً مثل الغريب لألبير كامو أو البحث عن الزمن المفقود لبروست، فإننا لا نبحث عن حكاية بقدر ما نبحث عن أنفسنا. الرواية هنا مساحة اعتراف مؤجلة، نرى فيها ما لا نجرؤ على قوله في الحياة اليومية. القارئ في هذا النمط يجد لذّته في التعرّف إلى ذاته عبر الآخر. كل سطر يذكّره بجراحه الصغيرة، وكلُّ شخصية تعيد إليه ظلّه المفقود. إنها المتعة التي تولد من الحميمية، ومن الإحساس بأن النصّ يعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا.

النمط الرابع هو متعة اللغة. في هذا النمط تتراجع الحكاية إلى الخلف وتتقدّم اللغة إلى المقدمة. هنا لا تتجسّدُ المتعة في (ماذا يحدث؟) بل في (كيف يُقال؟). الكاتب لا يسرد فقط بل يعزف بالكلمات. يحوّل الجمل إلى موسيقى. المتعة هنا جمالية خالصة، متعة الإصغاء إلى اللغة وهي تُعيدُ اكتشاف نفسها، وحيث تصبح القراءة نوعاً من الإصغاء اللذيذ لصوت داخلي يحدّثك من غير وسيط.

النمط الخامس هو متعة القلق. ليست كل المتع الروائية مقترنة بطمأنينة راسخة. أحياناً يهبنا الأدب لذة مقلقة كمن ينظر في مرآة تكشف له عما لا يريد أن يراه. روايات مثل 1984 لجورج أورويل أو الطاعون لكامو تمنحنا هذا النمط: متعة القلق المفضي إلى المواجهة، لا الهروب. القلق هنا ليس سلبياً بل لحظة وعي. إنه الارتجاف الجميل أمام الحقيقة، والمتعة التي تنبع من الخطر المعرفي حينما يفتح النص باباً نحو المجهول الأخلاقي أو السياسي أو الوجودي. إنها المتعة التي تُشبه المأساة الإغريقية: الألم الذي يطهّر؛ لأنّ القارئ يخرج منها أكثر معرفة وإن كان أقل راحة.

النمط السادس هو متعة الدهشة. كل قارئ يحمل في داخله توقاً إلى الدهشة، إلى تلك اللحظة التي تتجاوز فيها الرواية كل توقّع. الدهشة ليست مجرد مفاجأة في الحبكة بل توافقٌ خفيٌّ بين ما لم نتوقّعه وما يبدو، رغم ذلك، منطقياً إلى حد الجمال. حين نقرأ رواية المسخ لكافكا ونجد إنساناً يستيقظ ليجد نفسه حشرة، أو ندلف أجواء رواية مائة عام من العزلة لماركيز فنرى الواقع يمتزج بالسحر، ندرك أننا أمام متعة من نوع نادر: متعة أن يُعاد ترتيب العالم في وعينا. الدهشة هي لحظة تولد فيها لغةٌ جديدةٌ للحياة، تجعل القارئ يشعر أنه يرى العالم الذي طال عهده به بعيون جديدة.

النمط السابع هو متعة الغياب. هذه هي المتعة الوحيدة التي لا تحدث في أثناء القراءة بل بعدها. تتحقق هذه المتعة حين نغلق الكتاب، ونكتشف أن شيئاً منه ما زال يعمل فينا بصمت. إنها المتعة التي تنبع من النقص، من الإحساس بأنّ الرواية لم تُغلق العالم بل فتحته على احتمالاته. روايات كثيرة تعيش فينا بهذه الطريقة، وعندما نغادرها في المحطّة الأخيرة، فكلها تترك فينا شيئاً ناقصاً، فراغاً صغيراً يواصل التمدّد فينا ويترك بصمة شاخصة في ذاكرتنا. الغياب هو ذروة المتعة الناضجة: حين نكتشف أنّ القراءة ليست لحظة بل أثر طويل الأمد، وأنّ النص العظيم لا يُقرأ مرة واحدة بل يسكن الذاكرة كوشم لا فكاك من مفاعيله المستقبلية.

*****

ما أودُّ التأكيد عليه أن ليست المتعة الروائية واحدة؛ بل هي مُتعٌ عديدة تتخالف شكلاً وآلية مع تبدّل القارئ والزمن والمزاج. في العادة المتواترة يجد القارئ الشاب لذّته في الانغماس، والمفكّر يجدها في التركيب، والمكلومُ في الاعتراف، والعاشق للجمال في اللغة، والمتوتّر في القلق، والمغامرُ في الدهشة، والحكيم في الغياب. إنها ليست طبقات متنافسة بل مستويات متداخلة. قد نبدأ بالانغماس وننتهي بالغياب، أو نمرّ من بوّابة الدهشة إلى القلق ثم نعود إلى الاعتراف. الرواية الحقيقية لا تُشبِعُنا من الخارج؛ بل تُوقظ فينا القارئ من الداخل. وحين ندرك ذلك نفهم أنّ إمبسون كان محقاً: الجمال يكمن في التعدّد، في الغموض، في أن تكون التجربة الأدبية قابلة لأن تُقرأ بسبعة أنماط على الأقل.

إذا كان الغموض في الشعر هو تعدّد المعنى؛ فإنّ المتعة في الرواية هي تعدّد سبل التلقي. كلاهما دعوة غير مقيّدة للحرية؛ حرية الكاتب في أن يكتب، وحرية القارئ في أن يجد لذّته الخاصة، لا تلك التي أعدّها له المؤلف.

أعظمُ خواص الرواية الحقيقية هي أنها تمنحنا هذا الحق الجميل: أنْ يحبّها كلٌّ منّا بطريقته ووسائله ومقاربته الفكرية الخاصة.


الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»
TT

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

الصور النمطية المُتبادَلة بين «الأنا والآخر»

يتناول كتاب «إدراك العالم... الصور النمطية المتبادلة بين الأنا والآخر» للدكتور زهير توفيق، التصورات المتبادلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الحديثة والوسطى، لا سيما الشرق الفارسي والغرب الكنسي. وقد صدر الكتاب عن «الآن ناشرون وموزعون» بالأردن في 420 صفحة.

يقول المؤلف في المقدمة معرِّفاً بالكتاب: «يُمثِّل هذا الكتاب دراسة استقصائية تاريخية وتحليلية لجدل الأنا والآخر، من خلال رصد التصورات المُتبادَلة بين العرب المسلمين والآخرين في العصور الوسطى والحديثة، كون العرب المسلمين مثَّلوا ذاتاً لتعيين الآخر، وتخيُّله على المستوى الديني والإثني والسياسي؛ خاصةً الفرس والأسود واليهودي والمسيحي، بفرعيه اللاتيني والبيزنطي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كونهم موضوعاً للآخرين؛ أي صورتهم في المخيال الفارسي الشرقي (الشعوبية) والغربي الأوروبي؛ الرومي البيزنطي واللاتيني في القرون الوسطى، وتحولات تلك الصورة في أوروبا العصور الحديثة».

ويرى المؤلف في المقدمة أن نظرة كلا الطرفين للآخر هي ثابتة، فلم «يخرج لا الشرق العربي الإسلامي، ولا الآخر في الشرق والغرب قديماً وحديثاً، عن مُسلَّماته وطرائق تفكيره في فَهْمِ الآخر، فقد بقيت ثوابتُه الحضارية والدينية والإثنية سُلطةً مرجعيةً في فهم الذات والآخر، وتمييز الأنا عن الآخرين من فُرسٍ ويهود وبيزنطيين ولاتين، ومهما تغيَّرت الصورة وتحوَّلت لأسباب داخلية وخارجية، فإن الثابت البنيوي فيها هو الآخرية وعُمق الغيرية؛ أي تصعيد الخلاف والاختلاف، فالذات هي المركز الذي تدور حوله الأطراف، والأفضل والمعيار الأمثل، والآخر أو الآخرون مجرد أطراف، هوامش وبرابرة وكفاراً ومنحرفين، ولا يستحقون أكثر مما تمنحه لهم الذات المتعالية».

ويأتي المدخل التمهيدي للكتاب مستشهداً بالعلاقة بين الأنا والآخر (الشرق والغرب)، على اعتبار أن الشرق حين يُذكر يتبادر إلى الذهن الشرق المسلم على وجه الخصوص، والغرب يُراد به الغرب الأوروبي بالأساس قديماً وحديثاً.

يقول: «تفترض قراءتنا للموضوع استمرار الصور النمطية للعرب والمسلمين، وهي الصور التي تشكَّلت في العصور الوسطى، ودخلت معجم الغرب بشكل نهائي كما هو في الاستشراق السياسي والأنثروبولوجي الحديث (الواعي لذاته) الذي نشأ في نهاية القرن الثامن عشر مع حملة نابليون بونابرت على المشرق العربي سنة 1798م».

وعن وضوح رغائب الغرب من الشرق (المسلم)، يقول: «لم ولن يتلطّف الغرب مع الشرق إلا إذا تواطَأ معه على ذاته، وتماهى في خطاب الغرب ومسيرته ورطانته من خلال نُخبةٍ فكرية وسياسية وكيلة، نجح الغرب في خَلْقِها ورفعها إلى سدَّة السُّلطة، واستمدت مشروعيتها ومرجعية وجودها مِن دعمه المطلق على جميع المستويات، ومقابِل ذاك الدعم سوَّقت خطابه في ثقافتها العالمة والشعبية على حدٍّ سواء، وهذا دليل نجاح الغرب في اختراق الشرق الذي وصل إلى طاعة الوكلاء، وامتثالية التابعين».

ويفصِّل المؤلف القول حول أعلام الغرب البارزين الذين تبنوا أفكاراً تنويرية، ومنهم جيبون: «يبدو جيبون منسجماً مع التنوير، ويقدم رؤية مستقلة نقدية خاصة لأحكام الغرب المتحاملة والسلبية عن الإسلام حتى ذلك الوقت، ففي عرضه لأخلاق العرب ودياناتهم قبل الإسلام يقول: (غير أنه في الدولة العربية، وهي أكثر بساطة [من الرومان واليونان] فإن الأمة حرة لأن كل فرد من أبنائها يستنكف أن يُطأطئ الرأس في خضوع وذلة لإرادة سيد ما، ولقد حصَّن العربي نفسه بفضائل صارمة من الشجاعة والصبر والاعتدال، ودفعه حبه للاستقلال إلى ممارسة عادة ضبط النفس، وحفظته خشية العار من أن يذل بالخوف من الألم والخطر والموت، وإن رجاحة عقل العربي وضبط نفسه واضحان في مظهره الخارجي)».


رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية
TT

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحيل محمد هاشم مؤسس دار «ميريت» بعد رحلة عطاء استثنائية

رحل في الساعات الأولى من صباح اليوم الجمعة الناشر المصري محمد هاشم، مؤسس ومدير دار «ميريت للنشر»، عن عمر يناهز 68 عاماً، بعد رحلة كبيرة مع صناعة الكتاب، فقد كان نموذجاً للناشر المثقف، صاحب الموقف الطليعي ثقافياً وسياسياً، وجعل من «ميريت» أحد أهم المنافذ الثقافية في القاهرة، وأحدث طفرة في صناعة النشر، وفتح من خلالها نافذة كبيرة للعديد من الأجيال ليروا إبداعاتهم منشورة بين دفتي كتاب، بعد أن كان النشر عقبةً كبيرةً تواجه كل مبدع مصري، ويضطر للوقوف سنواتٍ على أبواب دور النشر الحكومية.

أسس الراحل «دار ميريت» في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، لتشكل هي و«دار شرقيات»، التي تأسست في الفترة نفسها تقريباً، رئة ثقافية أسهمت في احتضان جيل التسعينات في الرواية والشعر والنقد، وتقديمهم للحياة الثقافية والأدبية، ودشنت كثيراً من التجارب الطليعية التي لم تكن حصلت على الاعتراف الأدبي بعد، فكانت فضاءً للاحتفاء بكل إبداع جديد ومختلف، وظلت تمارس الدور نفسه في العقدين الأولين من الألفية الجديدة، فكثير من الأجيال الراهنة الذين أصبحوا نجوماً في الشعر والرواية والقصة، بدأوا مشوارهم الإبداعي من «ميريت» أو من «شرقيات».

لم تكن «ميريت» مجرد دار نشر، فقد تحول مقرها الأول الشهير في شارع قصر النيل بوسط العاصمة المصرية إلى منتدى ثقافي دائم، وكان له رواد من مشاهير الثقافة المصرية والعربية، فعندما كنت تدخل تجد الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم جالساً بأريحية وكأنه في بيته، وكان من ضمن رواد الدار أيضاً الروائيان الراحلان خيري شلبي و إبراهيم أصلان، والناقد محمد بدوي، والروائي الراحل حمدي أبو جليل، والشاعر الراحل أسامة الديناصوري، وغيرهم كثيرون من رموز الحركة الثقافية المصرية، وكان كل شاب يريد أن يبدأ مشواره الإبداعي لا بد له أن يمر يوماً على «ميريت»، ليتعرف على «مطبخ» الثقافة المصرية، ويتقرب من رموزها، يسمعهم، ويتعلم منهم، ويحصل على فرصة أن يسمعوه ويتعرفوا إلى إبداعه، فيُمنح صك الاعتراف.

فازت «ميريت» بجائزة نادي القلم الدولي «هيرمان كيستن» (kesten PEN الفرع الألماني)، وتمنحها وزارة «هسه» للعلوم والفنون، وقدرها 10.000 يورو، وتمنح لكتاب المقالات والروائيين فى جميع أنحاء العالم لمن يتصدون للاضطهاد والقمع ويدافعون عن الحق والحرية، كما تمنح للناشرين لتقديمهم الدعم والرعاية للكتاب المضطهدين في نشر فكرهم ويؤمنون بالحق فى الحرية والتعبير عن الرأي.

لم يتوقف دور محمد هاشم عند حدود العمل الثقافي وصناعة الكتاب، فقد كان ناشطاً سياسياً، حتى أصبح مقر الدار ربما أكثر صخباً وحيويةً من مقرات بعض الأحزاب السياسية. وأثناء ثورة 25 يناير، وبسبب قرب الدار من ميدان التحرير، مركز الحراك الثوري آنذاك، كانت ملاذاً لكثير من أبناء الثورة، خصوصاً من المثقفين، سواء لالتقاط الأنفاس، أو متابعة الأخبار، أو حتى المبيت في الدار التي فتحت أبوابها على مصاريعها. كما كان هاشم ناشطاً في ثورة 30 يونيو ضد جماعة الإخوان، وشارك في الوقفات الاحتجاجية والاعتصامات التي أقيمت ضدهم، بل إن لافتات كثير من الوقفات ضدهم كانت تخرج من مقر الدار.

عن الراحل يقول الروائي والقاص محمد محمد مستجاب: «رغم أنني لم أكن من (شلة دار ميريت) التي اشتهرت في بداية الألفية، حيث كان يحضرها والدي رحمه الله (الروائي الراحل محمد مستجاب)، فإن علاقتي بعمنا محمد هاشم كانت بعد رحيل والدي في 2005، خصوصاً في إرسال أعمالي لإبداء الرأي فيها، ثم طلبه عملًا لي ليصدر عن (ميريت) لكن هذا لم يتحقق. لكن (ميريت) التي تنقلت من شارع قصر النيل ثم شارع صبري أبو علم ثم باب اللوق ظلت ظهراً حامياً للثقافة المصرية، وليس لي على المستوى الشخصي، وقد خرجت منها عدة مظاهرات تحمي مكتسبات ثورة يناير».

يضيف مستجاب: «محمد هاشم كان يرعى كثيراً من المواهب، ويحزن عندما يجدها انحرفت عن مسارها، واتجهت لشيء آخر بعيداً عن الكتابة. وسيظل اسمه غالياً على جميع الكتاب المصريين والعرب، ومنبراً طالما أحببناه وتعاركنا واختلفنا معه، لكنه كان دائماً مثل آبائنا؛ يعلم أننا سنعود كي نجد في حضرته الابتسامة، وفي جيبه النقود التي تدفئ أيامنا، والكتب التي تشعل خيالنا بالإبداع. برحيل (أبو ميريت)، خسرنا صرحاً ثقافياً حقيقياً في زمن العبث الثقافي».

ويقول الروائي سامح الجباس: «قدم محمد هاشم للثقافة المصرية والعربية أهم الأسماء التي تملأ الساحة الأدبية المصرية الآن، كلهم كانوا مجرد كتاب شبان هواة خرجوا من عباءة (ميريت)، وانطلقوا بعدها نجوماً في ساحة الأدب، وأنا منهم. ففي عام 2005 حملت في يدي أول مخطوط لكتاب أرغب في نشره، وذهبت مباشرة إلى (ميريت)، أهم وأشهر دار نشر خاصة وقتها، واستقبلني صاحب الدار محمد هاشم بحفاوة كأنني كاتب معروف. وحتى نهاية 2010 كنت زائراً شهرياً للدار، ومنها قرأت لكل هذا الجيل من الكتاب، فقد كانت ملتقى الكتاب، فيها كنت تقابل أحمد فؤاد نجم وخيري شلبي وحمدي أبو جليل وعلاء الأسواني والسيد ياسين وغيرهم من الصحافيين والفنانين. وكانت أبوابها مفتوحة دائماً للشباب روائيين، وشعراء، ومطربين، وموسيقيين. وفيها ندوات يومية تقريباً».

ويكمل الجباس: «مرت السنوات، وتعرضت (ميريت) لهزات زلزالية حتى أوشكت الدار على التوقف. وانتقلت الدار من مكان إلى آخر في نطاق وسط البلد. وكنت حتى بداية هذا العام حريصاً على أن أزورها كلما انتقلت من مكان إلى آخر ولو مرة واحدة في العام، تقديراً لموقف هاشم معي في بداياتي، فقد نشرت في الدار عام 2006، ثم انتقلت للنشر بعدها في أكثر من دار نشر، لكني كنت أدين بالفضل والامتنان لهذا الرجل. فتح محمد هاشم الباب لعشرات الكتاب ونسي نفسه، نسي أنه نشر رواية وحيدة بعنوان (ملاعب مفتوحة)، وقلت له في آخر زيارة منذ شهور إنه يجب أن يعيد طباعتها. سيظل اسم محمد هاشم، وتجربة (دار ميريت)، وستظل أفضاله تحيط بالكثيرين، مهما تنكروا له، وقد حان دور اتحاد الناشرين لتكريم اسم هذا الرجل. الكلام والذكريات عن محمد هاشم ودار ميريت يحتاج إلى صفحات وصفحات من الحب والامتنان، والكثير من الحزن والأسف».

ويروي الشاعر سمير درويش، رئيس تحرير مجلة «ميريت» التي كانت تصدر عن الدار، تجربته مع الناشر الراحل، قائلاً: «كان رجلاً جريئاً كريماً، طيِّباً بشوشاً محبّاً للحياة والناس. ذهبت له بمشروعي لإصدار مجلة ثقافية تنويرية، فوافق دون قيد أو شرط، وطوال خمس سنوات لم يتدخل ولا مرة، رغم أنه كان يصدُّ عنَّا ويحمينا».

محمد هاشم في «ميريت»، مع حسني سليمان في «شرقيات»، صنعا طفرة كبيرة في عالم النشر الثقافي منذ منتصف التسعينيات، سارا الخطوة الأولى التي فتحت طريق التحديث حتى اليوم.