الشاعر السعودي محمد حبيبي: التحولات العربية كشفت الهشاشة الثقافية للنخبة

قال إن الأندية الأدبية ستكون كيانات آيلة للانقراض إذا لم تغير من توجهاتها

الشاعر السعودي محمد حبيبي: التحولات العربية كشفت الهشاشة الثقافية للنخبة
TT

الشاعر السعودي محمد حبيبي: التحولات العربية كشفت الهشاشة الثقافية للنخبة

الشاعر السعودي محمد حبيبي: التحولات العربية كشفت الهشاشة الثقافية للنخبة

* إلى حد كبير خدمت التقنية الشعراء في سهولة ويسر الانتشار، وتجدد وسائله ووسائطه، وفي المقابل وضعتهم أمام تحديات جديدة كبيرة، إذ لم يعد الشعر والشعراء والأدباء عامة نخبة لهم الأولوية في المتابعة والقراءة فهناك عوالم متع جديدة تسرق القراء والمتابعين منهم.
* لن يصمد بعد حين سوى ما يستحق الاستمرار والخلود في عوالم الكتابة وفق تغير معطيات النشر والتداول والتلقي، قد يملأ إنسان ما عوالم التواصل بكتاباته، بينما يستحضر القراء والمتابعون كتابات خالدة لم يدرك أصحابها عوالم النشر والتواصل الجديدة.

ينتهج الشاعر السعودي محمد محمود حبيبي نسقا ثقافيا جديدا في الثقافة المحلية يمزج فيه الكلمة الشعرية بالصورة. يتجلى ذلك في ثلاث تجارب بصرية أنتجها {غواية مكان}، و{حدقة تسرد}، و{بصيرة الأمل} فيما يعمل على تجربتين جديدتين هما {بيت} و{غبار}. في هذا الحوار يقول الشاعر محمد حبيبي إن الزمن الرقمي ووسائط التواصل الاجتماعي وضعت الشعراء أمام تحديات كبيرة فهذه الوسائل سحبت بساط النخبوية والمتابعة من تحت أقدامهم لكنها في المقابل ساهمت في زيادة انتشارهم.
وهو يرى أيضا في هذا الحوار الذي أجريناه معه من مقر إقامته في جازان غربي السعودية أن التحولات التي يمر بها العالم العربي عرت كثير من الثقافة الهشة، وكشفت عوار التنظيرات التي لم تتعرض قبلا لاختبارات حقيقية، خاصة في ظل ما تمر به المجتمعات العربية منذ بدء ما اصطلح له الربيع العربي حتى الآن.
* على ماذا تشتغل؟ وماذا تقرأ هذه الأيام؟
- انتهيت من قراءة عدد من الأعمال منها رواية «قواعد العشق الأربعون}، وعلى وشك الانتهاء من قراءة رواية «ضمير السيد زينو» لإيتالو سفيفو، وكلتاهما من الروايات الطويلة والمهمة التي تمثل نسقا سرديا لافتا في طريقة كتابتها. أما بالنسبة للاشتغالات الشعرية فأعمل على مجموعة من الأعمال والنصوص المؤجلة.
* ماذا بعد ثلاث تجارب بصرية مزجت فيها الكلمة بالصورة كما في أعمالك: {غواية مكان}، و{حدقة تسرد}، و{بصيرة الأمل}؟
- بعد هذه الأعمال من الطبيعي أن تتنامى التجربة وتفرز أفكارا كثيرة جديدة تمثل تطور الاشتغال الذي تقوم عليه التجربة، وابتدأت العمل في تجربتين بصريتين جديدتين هما: {بيت} و{غبار} وهي تجارب تحتاج إلى وقت ليس بالقصير لإنجازها بشكل تام.
* هل وجدت التجارب الثلاث صدى في الوسط الثقافي، أو أثمرت عن مشاريع ثقافية مشتركة؟
- حققت التجارب أصداء تفاعلية كردود فعل ونقاشات تعقب عرض كل تجربة، لدرجة أن ما كتب حولها من مواد صحافية تجاوز الثمانين مادة ما بين قراءة تحليلية وتغطية خبرية، إلى جانب أن الدعوات لعرض التجارب داخليا وخارجيا تجاوزت الاثنتي عشرة دعوة وعرضا خلال عامين فقط.
وبدأت تظهر في الوقت نفسه أعمال في سياق التجربة أو تشتغل في آفاق قريبة منها كتجربة سردية بصرية للصديقين الروائيين محمود تراوري وعبد الله التعزي، وربما بأماكن بأخرى.
* كنت تتوق أن تقدم تجاربك البصرية كآلية ونسق في الطرح الثقافي.. هل نجحت في ذلك؟
- لا أقول نجاحا، لكن إلى حد كبير كان هناك توفيق ملموس في ردود الفعل على مستوى النخبة وخارجها، وما كتب من تعليقات يجسد القبول والترحيب الكبير بهذا النسق من الاشتغال، ويكفي أن تجس نبض من هم خارج النخبة بردود أفعال المتلقين عقب العروض للتجارب وخاصة ممن لم يكن لديهم اهتمام أو تقبل للتجربة الكتابية. فمع التجارب المرئية وجدت تفاعلا واستفسارات تناقش تفاصيل الأعمال المعروضة وكيفية اشتغالها، واهتماما بمتابعة الجديد عبر الأسئلة المباشرة، أو عبر وسائل التواصل، ومجمل ردود الأفعال أعطت مؤشرات التقبل والانجذاب لهذه التجارب.
* هل ما زلت عند رأيك بأن قصيدة النثر تعاني من كثرة المتطفلين (المتشاعرين) عليها؟
- ليست قصيدة النثر وحدها من تعاني، بل كافة أجناس الإبداع والفن، ربما كان هذا الرأي رد فعل في مرحلة سابقة كانت تطرح فيها قصيدة النثر بوصفها الشكل النهائي لتطورات كتابة القصيدة، وهذا ما لا يمكن الارتهان إلى حتميته، نظرا لتناقض ذلك مع المنطق التجريبي ذاته، وأخذا بمنظور صعوبة القصيدة النثرية نفسها وتنوعها، على نحو يجعل كثيرا مما يكتب ويصنف بكل سهولة على أنه قصيدة نثر هو أبعد ما يكون عن هذه القصيدة غير السهلة أبدا على شعرائها الحقيقيين.
* ماذا بقي للشعر والشعراء في هذا الزمن الرقمي؟ هل خدمت وسائط التواصل الشعراء أم حدت من نخبويتهم؟
- بقي للشعراء كل شيء وسُلب منهم كل شيء. إلى حد كبير خدمت التقنية الشعراء في سهولة ويسر الانتشار، وتجدد وسائله ووسائطه، وفي المقابل وضعتهم أمام تحديات جديدة كبيرة، إذ لم يعد الشعر والشعراء والأدباء عامة نخبة لهم الأولوية في المتابعة والقراءة فهناك عوالم متع جديدة تسرق القراء والمتابعين منهم.
إننا باختصار في مفرزة تلق كبيرة وطاحنة، ولن يصمد بعد حين سوى ما يستحق الاستمرار والخلود في عوالم الكتابة وفق تغير معطيات النشر والتداول والتلقي، قد يملأ إنسان ما عوالم التواصل بكتاباته، لكن لو تأملت تجد أنها لا تحضر سوى بحضوره، بينما يستحضر القراء والمتابعون كتابات خالدة لم يدرك أصحابها عوالم النشر والتواصل الجديدة.
* كيف ترى حال المؤسسات الثقافية المحلية في الوقت الراهن؟ وهل نجحت في استقطاب الجيل الشاب من المثقفين أم أنها فشلت في ذلك؟
- المؤسسات الثقافية ولا سيما الأندية الأدبية إذا بقيت على آلياتها وأدواتها ذاتها، ولم يعمل لها مراجعة لهيكلة ممتزجة مغايرة مستفيدة ومنفتحة على جمعيات الثقافة والفنون في مؤسسات جديدة، فإنها ستكون كيانات آيلة للانقراض، وستصبح أقرب للمتاحف الخاملة منها للمؤسسات النابضة بالحراك والحيوية، وما لم تستفد من طاقات الشباب الجدد وقدراتهم، فإنها وليس الشباب من سيخسر الرهان على الاستمرار.
والسبب أن مؤسساتنا الثقافية أنشئت قبل ربع قرن لخدمة أدباء في ظروف مجتمعية ووسط ثقافي مختلف في حاجاته وإمكاناته عما هو عليه الوضع الآن.
* هل قدمت التحولات التي يمر بها العالم العربي خدمة للثقافة أم أنها ساهمت في دفع الوعي إلى الاصطفاف الآيديولوجي والطائفي والفكري؟
- أظن وإلى حد كبير أنها ساهمت في تعرية الكثير من الهش في مكونه الثقافي وكشفت عوار كثير من التنظيرات التي لم تتعرض لمحكات واختبارات حقيقية وفعلية جادة، كالذي تمر به المجتمعات العربية منذ بدء ما اصطلح له الربيع العربي.
ولذلك لم نعد نتفاجأ بتحولات وتناقضات مواقف كثيرين. كما أن هذه التحولات كشفت على الصعيد الثقافي العام غلبة العاطفة على العقلانية في الكثير من المواقف، والتحليلات التي يظهر أنها بحاجة إلى كثير من الوقت، لنصل إلى مرحلة نضج الوعي الفردي وأهليته ليصبح وعيا جمعيا.
كل ما نراه ونسمعه من أحداث وتحولات وانتظار نتائج تشعر معه أن الوقت الذي ستتمخض عنه نتائج الربيع العربي لا يعدو وقت فصل الربيع نفسه.

داخل إطار

السيرة الذاتية
شاعر وناقد سعودي، ولد عام 1968.
- ماجستير في الأدب العربي من جامعة أم القرى.
- دكتوراه الفلسفة في اللغة العربية وآدابها، كلية الآداب جامعة الملك سعود.
صدر له: (أعمال شعرية مطبوعة): «انكسرتُ وحيدا}، 1996، دار الجديد بيروت لبنان. «أطفئُ فانوس قلبي}، 2003، نادي جازان الأدبي، «الموجدة المكية}، 2007، دار طوى، السعودية، بالاشتراك مع دار الانتشار العربي بيروت، لبنان، «جالسا مع وحدك}، 2011، دار مسعى الكويت.
- له أعمال شعرية أخرى مخطوطة.
- صدر له في الدراسات النقدية دراسة بعنوان {الاتجاه الابتداعي في الشعر السعودي الحديث}. وله أيضا من التجارب الشعرية المرئية: «غواية المكان}، و«حدقة تسرد»، و«بصيرة الأمل».



وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان
TT

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

وجوه مجرّدة من موقع سمهرم الأثري بسلطنة عُمان

يحتلّ موقع سمهرم مكانة مميزة في خريطة «طريق اللبان» العُمانية التي دخلت عام 2000 في قائمة اليونيسكو الخاصة بمواقع التراث العالمي، وهي طريق البخور التي شكّلت في الماضي معبراً تجارياً دولياً ازدهر على مدى قرون من الزمن. بدأ استكشاف هذا الموقع في مطلع الخمسينات، وأدت أعمال التنقيب المتواصلة فيه إلى العثور على مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية، منها بضعة أنصاب حجرية مسطّحة تحمل نقشاً غائراً يمثّل وجهاً آدمياً مختزلاً، تقتصر ملامحه على عينين واسعتين وأنف مستطيل.

يضمّ موقع سمهرم مستوطنة أثرية تجاور خوراً من أخوار ساحل محافظة ظفار يقع في الجهة الشرقية من ولاية طاقة، يُعرف محليّاً باسم «خور روري». يعود الفضل في اكتشاف هذا الموقع إلى بعثة أميركية، أسّسها عام 1949 في واشنطن عالم الآثار وينديل فيليبس الذي لُقّب بـ«لورنس العرب الأميركي». شرعت هذه البعثة في إجراء أول حفريّة في «خور روري» خلال عام 1950، وواصلت عملها على مدى 3 سنوات، وكشفت عن مدينة لعبت دور ميناء دولي، عُرفت باسم سمهرم، كما تؤكد النقوش الكتابية المدونة بخط المُسنَد العربي الجنوبي. من بين أطلال هذه المدينة المندثرة، خرجت مجموعة من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة زُيّن كلٌّ منها بنقش تصويري غائر طفيف يمثّل وجهاً آدمياً ذكورياً، كما يؤكّد الكشف العلمي الخاص بهذه البعثة.

عُثر على حجرين من هذه الحجارة على مقربة من أرضية مبنى من معالم سمهرم، وعُثر على ثالث على مقربة من المعبد الخاص بهذه المستوطنة، ممّا يوحي بأنه شكّل في الأصل جزءاً من أثاث هذا المعبد على الأرجح، كما رأى العالِم فرانك فيدياس أولبرايت في تقرير نُشر في عام 1953. استمرّت أعمال المسح والتنقيب في سمهرم، وتولّتها منذ عام 1997 بعثة إيطالية تابعة لجامعة بيزا، ومع هذه الأعمال، تمّ الكشف عن مجموعة أخرى من اللقى المتنوعة، منها 3 أنصاب حجرية مسطّحة مشابهة لتلك التي عثرت عليها البعثة الأميركية.

يتكرّر النقش التصويري على هذه الأنصاب التي احتار أهل الاختصاص في تحديد وظيفتها، ويتمثّل بوجه آدمي مجرّد هندسياً إلى أقصى حد. اختُزلت ملامح هذا الوجه بعينين لوزيّتين واسعتين، وأنف مستطيل رفيع. خلت هاتان العينان الفارغتان من حدقتيهما، كما غابت عنهما الرموش والحواجب، فظهرتا على شكل مساحتين بيضاويتين حُدّدتا بخط ناتئ رفيع وبسيط في وضعية المواجهة. كذلك، ظهر الأنف على شكل مثلّث عمودي طويل يحدّده خط مماثل. يعود هذا الوجه ويظهر على واجهة مجمّرة مخصّصة لحرق البخور، عثرت عليها البعثة الإيطالية خلال عام 2014، إلى جانب مجمّرتين تتبعان الطراز المألوف المجرّد من النقوش. ويتميّز هذا الوجه بظهور حاجبين مقوّسين يمتدان ويلتصقان عند أعلى مساحة الأنف المستطيلة.

خرجت من موقع سمهرم مجموعة كبيرة من المجامر والمباخر، غير أن هذا الوجه المجرّد لا يظهر على أي منها، كما أنه لا يظهر على أي من عشرات المجامر التي عُثر عليها في نواحٍ عدة من جزيرة العرب الشاسعة. في الواقع، يتبع هذا الوجه طرازاً ارتبط على نحوٍ واسع بشواهد القبور، وعُرف باسم «المسلّة ذات العينين». خرج العدد الأكبر من هذه المسلّات من محافظة الجوف التي تقع في الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء، وخرج عدد آخر منها من وادي بهيان في محافظة حضرموت. تجاوز هذا الطراز حدود جنوب الجزيرة العربية، وبلغ شمالها حيث ظهر في واحة تيماء في منطقة تبوك، وقرية الفاو في الجنوب الغربي من الرياض، كما تؤكّد شواهده التي كشفت أعمال التنقيب عنها خلال العقود الماضية.

حمل هذا الطراز طابعاً جنائزياً لا لبس فيه، وتمثّلت خصوصيّته بهذا الوجه التجريدي الهندسي الذي ظهر على شواهد قبور فردية، كما تشير الكتابات المنقوشة التي تسمّي أصحاب تلك القبور. يصعب تأريخ هذه المسلّات بدقة، نظراً إلى غياب أي إشارة إلى تاريخها في الكتابات المرفقة، والأكيد أن هذا الطراز الجنائزي ظهر في القرن الثامن قبل الميلاد، وشاع على مدى 5 قرون. يحضر هذا الوجه في سمهرم، ويشهد هذا الحضور لدخوله إقليم عُمان في مرحلة تلت فترة انتشاره في جنوب الجزيرة وفي شمالها، فالدراسات المعاصرة تؤكد أن ميناء سمهرم شُيّد في نهاية القرن الثالث قبل الميلاد، وارتبط بمملكة حضرموت في زمن نشوء التجارة البحرية وازدهارها في المحيط الهندي، وظلّ ناشطاً حتى القرن الخامس للميلاد، حيث تضاءل دوره وتلاشى تدريجياً نتيجة اندحار مملكة حضرموت.

حضر هذا الوجه التجريدي في سمهرم حيث ظهر على عدد من المسلّات، وانطبع بشكل استثنائي على مجمرة تبدو نتيجة لذلك فريدة من نوعها إلى يومنا هذا. خرج هذا الوجه في هذا الموقع العُماني عن السياق الجنائزي الذي شكّل أساساً في جنوب جزيرة العرب، وحمل هُويّة وظائفية جديدة، وتحديد هذه الهوية بشكل جليّ لا يزال يمثّل لغزاً وتحدّياً للباحثين في ميدان الآثار العُمانية.