بنعبد العالي.. والفلسفة كاستراتيجية للحفر في اليومي

دروبه لا تقف عند مضامين النصوص بل تفكر في شروط التفكير وتنتج أسئلة

عبد السلام بنعبد العالي
عبد السلام بنعبد العالي
TT

بنعبد العالي.. والفلسفة كاستراتيجية للحفر في اليومي

عبد السلام بنعبد العالي
عبد السلام بنعبد العالي

لقد ترددت كثيرا في الكتابة عن أحد أركان الفكر المغربي المعاصر، ألا وهو الأستاذ «المشاغب» والفيلسوف «الرحال»، عبد السلام بنعبد العالي (مواليد سنة 1945)، الذي لا يمكن أن تقرأ له أو تحضر إحدى حلقاته الدراسية، إلا وترغب في مواصلة القراءة، وأن تتمني عدم انتهائها، أو استمرار والإنصات إليه إن كنت مستمعا، بكل هواجسك، وأسئلتك، وقلقك، وتوترك، ومتعتك أيضا.
ويرجع هذا التردد في اعتقادي، إلى طبيعة نصوص بنعبد العالي ذاتها، التي لا يمكن تصنيفها أو إخضاعها لمنطق معين أو مدرسة محددة. ذلك أنها ضد كل تصنيف تحت أي لواء. ولواؤها هو ما تولده من أسئلة وفراغات وتوترات تعبر عن معيشنا اليومي ولحظتنا التاريخية وصيرورتنا الوجودية، وتتجاوز ذلك كله، لتخلق لنا إمكانات للتفكير والتساؤل، والوجود أيضا.
نصوص بنعبد العالي حينما تقرأ، تلزم قارئها بتعليق الحكم وإعادة النظر في كل ما قرأ من قبل، كما تعمل على تغيير رؤيته إلى الأشياء. إن المتتبع لمسار الإنتاج الفكري لبنعبد العالي، يكتشف أن الأمر لا يتعلق بمسار، بل بمسارات ودروب لا تقف عند مضامين النصوص، بل تفكر في شروط التفكير، وإنتاج السؤال وتوليد المفاهيم. وتتحدد إنتاجاته من خلال لحظتين أساسيتين: لحظة التأصيل الفلسفي، التي توجت بنصين أصيلين: «الفلسفة السياسية عند الفارابي» و«أسس التفكير الفلسفي المعاصر»، حيث يمكن اعتبارهما من النصوص التي تطبع الفكر الفلسفي العربي الراهن في بعديه التراثي والمعاصر، وتجعله يؤسس لحركة فلسفية عربية إلى جانب مفكرين آخرين، داخل سياق خاص ومنفتح على سياقات أخرى، عربية وغربية.
إن هذين النصين وما ارتبط بهما من دراسات وترجمات، جعل بنعبد العالي يرتحل في زمن الفكر الإنساني وفي فضاءاته المتنوعة، الأمر الذي مكنه من الإمساك بمختلف المتون الفلسفية، وقضاياها المؤسسة لها في سياقاتها الخاصة: كالهوية والاختلاف، والتراث والحداثة، التاريخ والميتافيزيقا. وجعلته يقدم حوارات مركبة ومتعددة الجوانب، عبر تأويلات تنقل من كشف إلى كشف. فإلى جانب الفارابي، والغزالي، وابن رشد، وابن خلدون، والجابري، والعروي، والخطيبي، وكيليطو وغيرهم، نجد هيغل، ونيتشه، وفرويد، وماركس، وهيدغر، وفوكو، ودولوز، ودريدا وغيرهم، يستنطقهم ويفكر معهم وبهم ومن خلاله. ويطبق عليهم تقنياتهم في التأويل، وفي إنتاج المعنى، ليكشف عن شروط إمكان تحققه. فتاريخ الفلسفة عند بنعبد العالي، ليس مجرد عرض لآراء مضت وانقضت، كما أن الفلاسفة ليسوا شيوخا يروون عنهم الأفكار والأخبار والحوادث. وليسوا كذلك معلمين يوضحون لهم المعاني الفلسفية كتيارات ومدارس فكرية، بل يحيلون إلى إشكالات وتوترات وصيرورات مفهومية لامتناهية متفردة، توهم أنها تيارات ومدارس. ذلك أن قراءاته لتاريخ الفلسفة ليست تصنيفية أو استعراضية أو تأريخية، بل هي ذات طابع تركيبي كشفي، تعمل على التقاط الفروق، وتكشف التوترات من دون الاستكانة لفكرة على حساب أخرى ولموقف من دون الآخر. بل ما يحركه هو شق طرقات الفكر وتتبع مساراته المبعثرة، وربط صداه بهذا الذي يحدث الآن وهنا. وبهذا المعنى، يخرج بنعبد العالي عن الطابع النسقي لتاريخ الفلسفة، ليقدم «وصلات موسيقية فلسفية» كثيفة المعاني وذات طاقة انفجارية لهذه الوحدة الموهومة لهذا التاريخ. ولحظة التصريف الفلسفي لليومي: يجسد بنعبد العالي الفلسفة بالفعل، كممارسة ترتبط باليوم، وبالمعيش، وبمختلف القضايا والأسئلة التي تؤسسه وتنبثق عنه. فيحلل المظاهر الحياتية بنفس فلسفي عميق ومرح. تشهد على ذلك كل نصوصه التالية: «ثقافة الأذن وثقافة العين»، و«بين بين»، و«ميثولوجيا الواقع»، و«ضد الراهن»، و«لعقلانية ساخرة»، و«منطق الخلل». هذه النصوص لا تقل أهمية عن النصوص السابقة، بل هي صدى لها، وتصريف لقضاياها في ارتباطها بالحدث التاريخي وبمختلف تمظهراته الواقعية الهامشية. فهي ليست إجابات نهائية، بل تشخيص وتوليد لأسئلة ما يفتأ الواقع اليومي يطرحها، فتثقل كاهله، ويصبح معتما هلاميا، لكن بفضل استراتيجية الحفر التي تنصب على اليومي من خلال الاهتمام بالملبس، والمأكل، والإعلام، والسينما، والإشهار، والتسامح، والإرهاب، والاستهلاك. عبر هذه الموضوعات وغيرها، يسعى بنعبد العالي إلى الانفصال عن الدوكسا، أي العامة والغوغاء، والوقوف ضد الراهن، واستعادة الزمن التاريخي للأحداث والوقائع، ومتابعتها كسيرورات لامتناهية، لا كوقائع جامدة وجاثمة تطبق على عقولنا ونفوسنا، فتجعلنا مفعولات لها، ندور في فلكها، تقذفنا خارج الزمن وخارج التاريخ. فكتابات بنعبد العالي جاءت بنغمة جديدة في الفكر العربي تمثلت في غسل البلاهة في شتى مظاهرها ومقاومتها عن طريق ترياق السؤال اللامتناهي المخلخل لكل أشكال التنميط والتخشيب التي تطبع عالمنا الراهن. لقد جاءت ساخرة بروح نيتشوية تعري المفارقات التي تسكن معيشنا وثقافتنا، متمردة على نفسها وعلى كل سلطة مطمئنة ثابتة تدعي امتلاك الحقيقة وفرضها وفرض مفعولاتها تحت أي غطاء. إذ إن كل الأحداث والخطابات، تكشف، حسب بنعبد العالي، عن ما نسميه بمنطق الخلل الذي يخترق كل تفاصيل وجودنا، ويقدم نماذج تعبر عن هذا المنطق. فمثلا «إعصار كاترينا» في الولايات المتحدة الأميركية، أظهر في نظره أن الولايات المتحدة، ليست، فقط، النظام والثراء والقوة والتمكن والتضامن، بل هي، كذلك، الفوضى والعوز والضعف والتمييز العنصري. وحسب تعبيره، فالطبيعة فضحت ما أخفته السياسة. كما أن «أحداث الضواحي في فرنسا»، لم ترق، في نظره، إلى أن تصبح حركة ثورية، بل بقيت شغبا شبيها بثقافة الغيتوهات الأميركية، لتكشف عن عمق أزمة الهوية. وحتى كرة القدم لم تسلم من تحليله، حيث لم يعتبرها مجرد لعبة، فهي أيضا، بنية تحتية تحدد العلاقات الدولية، وترسم السياسات، وتمرر آيديولوجيات، وتكرس أوضاعا. إنها عالم المال والأعمال. إن ارتماء بنعبد العالي في أحضان اليومي وتتبع خيوطه، لم يقذف به خارج دائرة القول الفلسفي، وإنما جعل الفلسفة تتحرك، بالفعل، بين متاهات اليومي، لتميط اللثام عن محركاته، قصد إعادة ترتيب مختلف علاقاته البينية، وذلك للانفلات منه وتقويته. إن هاتين اللحظتين، تجسدان الفلسفة بالفعل، فلسفة جديدة وأصيلة وممتعة لا تقدم خلاصات ومضامين، بل فقط أسئلة ما تفتأ تتوالد، وما تنفك تخلق أزمات بين الفكر وما يواجهه. إنها سلسلة انفجارات ترمي إلى خلق عوالم وإمكانات للتفكير، وشروط إنجازه. إذ لا يتعلق الأمر هنا بإنتاج معان محددة، بقدر ما يتعلق بتحديد كيفيات إنتاج المعاني وتدفقها عبر استراتيجية خاصة في الكتابة، باعتبار أن الأخيرة هذه، عملية مركبة متعددة الطبقات والأبعاد والوجوه، والسياقات. فطبيعة الكتابة ذاتها عند بنعبد العالي، تتميز بإيقاعها الخاص على مستوى اللغة، والتركيب، وحركة الكلمات، والأسلوب، والكثافة والتكثيف الدلالي، وحتى زمنية الكتابة، حيث لا تعتبر تقنيات فقط، بل هي الفكر في سعيه لإنتاج شروط تفكيره وكيفيات القول، فكل مفهوم يعتبر بؤرة مولدة للمعاني وللفوارق.
إن تجربة بنعبد العالي الفلسفية، هي مغامرة فكرية، تدفعنا لأن نفكر مع الفلاسفة وضدهم وبرفقتهم، ونشتغل على نصوصهم وننشغل بها، على حد تعبيره. وهذا ما يفسر ترددي في الكتابة حوله!



«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد
TT

«سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد

هدى حمد
هدى حمد

صدرت حديثاً عن «منشورات تكوين» في الكويت متوالية قصصية بعنوان «سأقتل كل عصافير الدوري» للكاتبة العُمانيّة هدى حمد. وتأتي هذه المتوالية بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية، منها: «نميمة مالحة» (قصص)، و«ليس بالضبط كما أريد» (قصص)، و«الأشياء ليست في أماكنها» (رواية)، و«الإشارة برتقاليّة الآن» (قصص)، «التي تعدّ السلالم» (رواية)، «سندريلات في مسقط» (رواية)، «أسامينا» (رواية)، و«لا يُذكَرون في مَجاز» (رواية).

في أجواء المجموعة نقرأ:

لم يكن ثمّة ما يُبهجُ قلبي أكثر من الذهاب إلى المصنع المهجور الذي يتوسطُ حلّتنا. هنالك حيث يمكن للخِرق البالية أن تكون حشوة للدُّمى، ولقطع القماش التي خلّفها الخياط «أريان» أن تكون فساتين، وللفتية المُتسخين بالطين أن يكونوا أمراء.

في المصنع المهجور، ينعدمُ إحساسنا بالزمن تماماً، نذوب، إلا أنّ وصول أسرابٍ من عصافير الدوري بشكلٍ متواترٍ لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقبُ عودتها صوتُ جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلطُ لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلنُ انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظُلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفولٍ حزين.

في أيامٍ كثيرة لم أعد أحصيها، تحتدُّ أمّي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر: «الغروبُ علامة كافية للعودة إلى البيت»، فأحبسُ نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر: «ينبغي قتل كلّ عصافير الدوري بدمٍ بارد».

وهدى حمد كاتبة وروائيّة عُمانيّة، وتعمل حالياً رئيسة تحرير مجلة «نزوى» الثقافية.