باحثون عرب يتحدثون عن الأثر المتبادل بين قصيدة الفصحى والأغنية العربية

مؤتمر «الأغنية العربية.. جدلية الموسيقى والشعر» في القاهرة

من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق  -  شعار المهرجان
من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق - شعار المهرجان
TT

باحثون عرب يتحدثون عن الأثر المتبادل بين قصيدة الفصحى والأغنية العربية

من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق  -  شعار المهرجان
من ندوات المهرجان: من اليسار إلي اليمين الباحث السعودي أحمد الواصل والسوداني كمال يوسف ود. كفاح فاخوري من لبنان (في المنتصف) ود. حسين العظمي من العراق - شعار المهرجان

التذكير بأصالة الغناء العربي وارتباطه بالقصائد المغناة وشعر الفصحى، كان هو هدف المحور الأول من محاور مؤتمر «الأغنية العربية.. جدلية الموسيقى والشعر»، المقام ضمن فعاليات مهرجان الموسيقية العربية بدار الأوبرا المصرية بالقاهرة في دورته الرابعة والعشرين، في الفترة من 1 إلى 9 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، بمشاركة 8 دول، الذي أهديت دورته تكريما لـ«الخال»، شاعر العامية المصري الشهير عبد الرحمن الأبنودي، الذي رحل عن عالمنا أبريل (نيسان) الماضي، عن عمر يناهز 77 عامًا.
في الجلسة الأولى حول الموسيقى وشعر الفصحى التي أدارها د. كفاح فاخوري من لبنان، اعتبر د. حسين الأعظمي من العراق، أن الموسيقى هي المعبر الأصدق عن المعاني اللغوية للقصيدة، وذلك في بحثه المعنون «التوافق التعبيري بين الموسيقى العربية والشعر المغنى.. غناء المقام العراقي أنموذجًا»، مؤكدا أنه على الفنان الموسيقي أن يراعي المعاني اللغوية ويتذوقها قبيل وضع الجمل اللحنية.
وأوضح أن موسيقى وغناء المقام العراقي يمكن أن يطولهما بعض الانحسار في فترة ما، لكنهما لن يندثرا، ولن يحتضرا أو يموتا، مشيرا إلى أن التراث والموروث وبكل ظواهره لا ينشأ ولا يموت، لأن التراث وليد الجماعة والمجتمع والبيئة، فهو ملك لهم. وتطرق إلى تجارب المؤدين العراقيين خلال القرن العشرين: محمد القبانجي، وناظم الغزالي، مؤكدا أن الواقع الفني العراقي تشوبه بعض السلبيات الفنية في الأداء والتعبير بشكل عام، لأن المقام العراقي يحتاج إلى أهم عرض يمتاز بالجمالية، وأن تتوافق تعبيراته الأدبية في الشعر المغنى مع مساراته اللحنية التاريخية العريقة.
وقال: «السلالم الموسيقية تلحن من خزائن الأفراد الإبداعية، التي تتعلق بمحيطه الخارجي، وموسيقى الشعوب والأجيال التي عاصرها»، مشددا على أهمية تنمية إحساس الفنان، وأن يستجمع أحاسيسه بالكلمات لتخرج في إطار إبداعي متكامل.
بينما أفاد الباحث السعودي الشاب أحمد الواصل، بأن فرق «الأندرغراوند»، تحت الأرض، والموسيقى الشبابية كسرت قوالب الموسيقى والأغنية العربية الأصيلة، وما نسمعه حاليا ما هو إلا شذرات لا قيمة فنية لها مقارنة بتراث الأغنية العربية، مضيفًا: «علينا أن نعلم أن القادم أسوأ». واستعرض الواصل من خلال ورقته البحثية «القصيدة العربية من فن الصوت إلى الأغنية: المدينة والخليج والعروبة»، توارث قالب أداء القصيدة العربية لمئات السنين من تاريخ الغناء العربي، عبر عرض تقديمي يوضح تلك المراحل التي مرت بها الأغنية العربية في مختبر الغناء العربي في القرن العشرين، وقيام الغناء العربي على ركائز فنون أدائية أخرى: كالقصيدة والموال والزجل والموشح وغيرها، مع منح النص الشعري تشكيلات إيقاعية ونغمية أتاحت للملحن الإيحاء بالنغم والجملة الغنائية وتنوع موازين الإيقاع.
وعدد الواصل مدارس الغناء العربي، التي أشار إلى تنوعها عبر تنوع الحواضر العربية، كمدارس القراءات القرآنية، معرجا على اشتباك الكلمة والنغمة عبر الفنون السبعة: الشعر القريض، والموشح، والدوبيت (المروبع)، والزجل، والكان وكان (المويلي)، والقوما (المويلي)، وأخيرًا: المواليا.
وأكد على أن الكتابة الشعرية لها منطق التعدد الذي تحكمه الحالة الإبداعية عند الشاعر في مقابل أن حياة وموات القوالب الغنائية، تفرضه حاجة المجتمع وقدرة المنتج على استيعاب تلك الاحتياجات في التعبير والتفاعل، والتداول والتواصل.
وذهب الواصل إلى أن القصيدة تتمزق بين الفنون الأدائية والأغنية، قائلا: «القصيدة كأحد الأشكال الشعرية تحولت إلى أكثر من قالب غنائي انتهت إلى أن تكون مادة من مواد قالب الأغنية، وهو ما يؤكد ميزة التشاركية في المجتمعات العربية، والجذر الخصب في فنون الأداء والقول والحركة، والعنصر الأدبي الأدائي في مدارس الغناء العربي، والأساس الثقافي الاجتماعي في الهوية الحضارية العربية. ولفت الواصل إلى أن القصيدة استطاعت التكيف، إلا أن التطورات المتلاحقة للتقنيات وطرق التعبير، ووسائل التسجيل والتداول، هي التي تتحكم في دورها عبر الصوت البشري».
يذكر أن المؤتمر يتضمن 5 محاور مقسمة على عدة حلقات نقاشية بمشاركة 35 باحثا، تتناول أبرز القضايا في عالم الفن والموسيقى والأغنية العربية، إذ سيناقش تحت عنوان «عبد الرحمن الأبنودي والأغنية المصرية»، قضايا محورية، هي: «الموسيقى وشعر الفصحى وشعر العامية»، و«الموسيقى والشعر في أغنية الطفل العربي»، و«المأثورات الشعبية والأغنية في البلاد العربية»، و«المسرح الغنائي العربي».
وعن المقامات الخماسية في السودان وانتقالها بين دول العالم وامتزاجها مع الموسيقى العربية لفت الباحث السوداني د. كمال يوسف، في بحثه «شعر الفصحى والموسيقى والغناء في السودان» إلى أن اختلاف وتعدد الأعراق واللغات في السودان كان له أعظم الأثر في صياغة الأغنية السودانية على نصوص من العربية الفصحى التي تغنى بها أعلام الأغنية السودانية الحديثة لتشكل واحدا من مصادر التعامل مع هذه اللغة على نحو واسع.
ولمح إلى أن أغنيات الشعر الفصيح صار يرددها بعض المطربين الأفارقة ويترجمونها إلى لغاتهم، ضاربا مثالا بأغنية المطرب السوداني سيد خليفة «غيرة» التي وضع كلماتها الشاعر إدريس جماع وتغنى بها مطرب إثيوبي أيضا، تلك الكلمات التي أثارت حفيظة عباس العقاد قائلا: «من المجنون الذي كتب تلك الكلمات؟!».
وعرج يوسف على ألوان الشعر العربي الفصيح في الأغنية السودانية الحديثة، قائلا: «الموسيقار والملحن السوداني طافت ذائقته على مختلف عصور الشعر العربي وألوانه، مما أشبع رغبته في خلق وإيجاد نص موسيقي موازٍ لما ارتسم في مضامين هذه النصوص من قيم وصور، وضرب مثلا بقصيدة (أعبدة ما ينسى مودتك القلب) للشاعر العربي عمرو بن أبي ربيعة، التي تناولها الشاعر والموسيقى السوداني خليل فرح عام 1932، وقام بتسجيلها في مصر لشركة (ميشان)، كما تغنى المطرب عبد الكريم الكابلي بقصيدة (أراك عصي الدمع) لأبي فراس الحمداني، أحد أمراء العصر العباسي، عام 1967». وجد الباحث أن تناول الموسيقيين لنصوص من الشعر الفصيح قد أسهم في فتح آفاق نوعية اختبرت قرائح المبدعين الموسيقيين في مجال يضاف إلى ما ألفوه من لغة عامية دارجة، وهم لم يجانبوا خصائصهم السودانية من حيث الإيقاع والنغم وأساليب التصويت والأداء، كذلك أسهم شعر الفصحى في تطوير القوالب الموسيقية، فعملوا على ترجمتها بلغة التنغيم والتوقيع، وإعادة عرضها بوسيط مختلف غير لغة الكلام الفصيح.
وتناول د. أحمد يوسف الطويل، قصيدة «ليت للبراق عينا» بين القصبجي وأحمد صدقي، حيث لحنها محمد القصبجي في فيلم «ليلى بنت الصحراء» عام 1937، بينما لحنها صدقي عام 1985، موضحا أوجه التشابه والاختلاف بينهما في الحفاظ على نظم أبيات القصيدة، قائلا «إنهما اتفقا في بداية تلحين الأبيات بعد ضغط المازورة الموسيقية، وأن القصبجي استخدم تيمة واحدة في التمهيد لغناء كل كوبليه، عبر مقام الراست، والوار والبياتي، كما اتفق الملحنان في استخدام فرقة موسيقية شرقية مكونة من التخت، مضافا إليها الآلات الوترية ذات القوس، وكذلك في التعامل مع الشعر بإبدال شكل تلحين بعض المقاطع وتغييرها بأشكال أخرى للتوافق وتتواءم مع خصائص الحروف اللغوية العربية، واستخدما خاصية (التحايل)، وهو ما يعكس ثقافتهما واطلاعهما على الكثير من القصائد العربية حيث تعاملا مع العروض الشعري بالطريقة نفسها، واستخدما القيم الزمنية الإيقاعية ذاتها في التعامل مع التفعيلات الشعرية، وأعاد كل منهما غناء البيت الأول من القصيدة».
وذهب د. عبد الجليل خالد، من ليبيا، في بحثه المعنون «الموسيقى وشعر الفصحى» للتأكيد على ارتباطهما الأزلي، فالشعر العربي هو شعر غنائي، فالقصيدة العربية في الجاهلية كانت بمثابة أغنية شعبية. أما في العصر الحديث فقد ثبت أن للموسيقى دورًا كبيرًا في نشر شعر الفصحى بين عامة الناس، كما ساهمت في انتشار الموشحات والمدائح والقصائد الدينية. وشدد على أهمية ثقافة الملحن والمغني ومعرفتهم بقواعد اللغة العربية حتى لا يتغير المعنى اللفظي بسبب الجمل اللحنية.
وأكد الباحث الأردني د. محمد الطشلي، في بحثه «مدى تأثير الصياغة الشعرية (الفصحى) على الصياغة الموسيقية في الغناء الأردني (القصيدة)، أن القصيدة الفصحى كان لها دور كبير في تطور الأغنية الأردنية»، مبينًا فضلها في إدخال علم الهارموني في التوزيع الموسيقي، كذلك كانت سببًا في تنوع الموازين والضروب الإيقاعية في الأغنية الواحدة لكي تناسب تفعيلات الإيقاع الشعري، ودلل على ذلك بتناوله قصيدة «أنا الأردن» أنموذجًا.
واتفق معهم الباحث الفلسطيني خليفة جاد الله، في بحثه «التأثير المتبادل بين الصياغة الشعرية والصياغة الموسيقية في الأغنية العربية الفلسطينية عند الشاعرة فدوى طوقان أنموذجا»، قائلا: «انفتح الشعر العربي الحديث على العديد من الفنون، بما في ذلك الموسيقى والتشكيل والمسرح والسينما وغيرها، فالشعر هو منبع كل الإنجازات الموسيقية والمشرحية والغنائية»، مشيرا إلى أن كل قصائد فدوى طوقان التي تم تلحينها ظهرت بها علاقة قوية بين الشعر والموسيقى والدلالات المضيئة والمعتمة عند الشاعرة، ومنها قصائد: «يا قلعة الصمود»، و«قصيدة الريح»، و«يا حر ما أضرما»، وقصيدة «تحية الكتاب»، وقصيدة «نشيد العيد»، مؤكدا أن استخدام الملحنين لمقامات متنوعة أكد المعنى الذي أرادته الشاعرة، حيث ظهر التناغم بين الكلمات والنسق الموسيقي.



أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية
TT

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

أمين الزاوي: حين أبدأ الكتابة تسكنني سيكولوجية لغوية مغوية

يُعد الروائي الجزائري أمين الزاوي من أبرز الأصوات الأدبية في المشهد المغاربي الراهن؛ يكتب باللغتين العربية والفرنسية، وحصل على عدة جوائز دولية، منها جائزة «الحوار الثقافي» عام 2007 التي يمنحها رئيس الجمهورية الإيطالية، وتُرجمت أعماله إلى أكثر من 13 لغة، كما وصل عدد منها إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية، آخرها رواية «الأصنام» (2024)، ومن رواياته بالفرنسية «الخنوع»، و«طفل البيضة». يعمل أستاذاً للأدب المقارن بجامعة الجزائر المركزية، وتولى منصب المدير العام للمكتبة الوطنية الجزائرية حتى عام 2008. صدرت له أخيراً رواية «منام القيلولة» عن دار «العين للنشر» بالقاهرة... هنا حوار معه حولها والمحطات المهمة في تجربته الأدبية.

* في روايتك الأحدث «منام القيلولة» تتفرع من الواقع مسارات للغرابة من خلال حكاية «أم» جزائرية... حدِّثنا عن ملامح هذا العالم الروائي الجديد؟

- كتبت هذه الرواية بقلبي، بحس خاص جداً، كانت أحداثها تسكنني منذ سنوات، وهي مرتبطة، ليس بشكل مباشر، بأشخاص شكلوا جزءاً مهماً في حياتي منذ الطفولة. كل شخصية روائية في «منام القيلولة» لها معادلها الاجتماعي لكنها كُتبت بشكل أدبي بكل ما في الأدب من نزعة التخييل والمسخ والتحوير والاختراق.

تتشكل الرواية إلى قسمين متداخلين في تناوُب وتناغُم؛ قسمٌ سمعتُ جلَّ وقائعه أو رُوي لي، وهو القسم الخاص بزمن الثورة المسلحة، حيث الحديث عن الخيانة الوطنية وخيانة الصداقة، وفيها أردت أن أقول إن التاريخ هو من صناعة البشر، والبشر مُعرضون للضعف ولارتكاب الأخطاء الصغيرة والكبرى، والثورة لها منطقها المتميز بالعنف والخوف والشجاعة، كل هذه القيم تتقدم معاً مختلطةً ومتنافرةً ومتقاطعةً، وهذا هو الجو الذي يتشكل فيه شقاء وعي المناضل.

أما القسم الثاني من الرواية فقد عايشته وعشته، وفيه أعرض بعض شخوص تشبه بعض الذين قاطعتهم في حياتي، ولكنهم سردياً خرجوا وتحرروا من الحالة الواقعية ولبسوا لبوس الشخوص الروائية، وهم من يمثلون الجيل الجديد في ظل الاستقلال وشكل الدولة الوطنية وما عاشته من تقلبات سياسية وحروب أهلية.

* يُحيل عنوان روايتك «الأصنام» إلى ميراث مجازي من التطرف والتحجّر، ثم سرعان ما يحملنا إلى فضاء الرواية المكاني وهو مدينة «الأصنام». حدِّثنا عن هذا التراوح بين المجاز والمكان.

- أحياناً يكون العنوان هو النقطة التي تتشكل منها الرواية ككرة الثلج، تُحيل كلمة «الأصنام» إلى بُعدين مركزيين؛ الأول يرمز إلى هذه الأصنام السياسية والدينية الجديدة التي نُصبت في المؤسسات وأصبحت بديلاً عن الله وتتكلم باسمه وبديلاً عن الوطن وتتكلم باسمه، والبعد الآخَر هو الإحالة إلى مدينة «الأصنام» التي توجد في الغرب الجزائري، التي أصبحت تسمى اليوم «شلف»، وتغيير اسمها جاء جراء تخريجات شعبوية دينية وسياسية أفتت بها «أصنام» السياسة والدين في ثمانينات القرن الماضي، حيث تعرضت المدينة لزلزال مدمر، ففسرته «الأصنام» الدينية والسياسية الشعبوية على أن الله ضرب المدينة بهذا الزلزال بسبب اسمها الذي تحمل والذي يُحيل إلى الشرك والكفر ويضرب وحدانية الله.

بهذا المعنى فالمكان في الرواية ليس حيادياً بل هو جزء من إشكالية الرواية، وهو يحيل إلى مستوى زيف الوعي التاريخي الجمعي، اختياره له دلالاته السياسية والحضارية والعقلية.

* تحاورت عبر التخييل الأدبي مع القصة التاريخية الأولى للقتل «قابيل وهابيل» ووضعتها في سردية مضادة في روايتك. ما الذي ألهمك لتطوير تلك المعارضة الأدبية؟

- سبق لي أن نشرت رواية بعنوان «حر بن يقظان»، وفيها أقمت معارضة فلسفية لقصة «حي بن يقظان» لابن طفيل، وهي أيضاً قريبة من معارضة رواية «روبنسون كريزوي» الفرنسية، حاولت بها أن أقول إن «الحرية أسبق من الحياة والوجود»، لذا استبدلت بـكلمة «حي» كلمة «حر».

وفي رواية «الأصنام» حاولت مقاربة فلسفة الأخوة التي لم يُكتب عنها إلا القليل جداً، عدت للحكاية التي وردت في الكتب السماوية الثلاثة عن قابيل وهابيل، وكيف كانت أول عملية إجرامية في التاريخ، لكني عكست الحكاية وبنيت علاقة عشق بين الأخوين مهدي وحميميد، وكيف أن الأخ الأصغر يعطي حياته للمخاطر والأسفار والحروب بحثاً عن قاتل أخيه والانتقام منه.

* الحِس الساخر بارز كأداة نقدية في أعمالك، كالقبض، مثلاً على والد البطل في رواية «الأصنام» بسبب اسم ابنه...

- السخرية سلاح مُقاوم، في رواية «الأصنام» اشتغلت على السخرية التي تكشف مستوى الرقابة والقمع الممارَس على المواطن، فحتى الأسماء يمكنها أن تكون سبباً في توقيف وسجن مواطن بسيط، ومن ذلك أن الأب يتم سجنه لسبب بسيط هو أنه سمى ابنه الذي وُلد يوم الانقلاب العسكري الذي قاده العقيد هواري بومدين ضد الرئيس أحمد بن بلة، سمَّاه باسم حميميد، وهو الاسم الذي كان يُطلق على الرئيس أحمد بن بلة. وفي السجن يتعرف على «الصرصور» الذي يرافقه في زنزانته ويكسر عنه وحدته ويصبح صديقاً حميماً له، ويظل قلبه مشدوداً له حتى بعد خروجه من السجن.

* في أعمالِك انشغال بصوت العائلات وتتبع أصواتها ومآلاتها، ما أكثر ما يؤرقك في سيرة الأجيال الجزائرية المتلاطمة بين تيارات الاستعمار والتحرر والثورات؟

- العائلة مؤسسة بقدر ما هي قامعة هي في الوقت نفسه مورِّثة لمجموعة من التقاليد تتناولها الأجيال. إنَّ الحرية لا يمكنها أن تُفهَم وتُدرَك إلا داخل الأسرة؛ فالعلاقة بين الأب والزوجة، بين الأب وابنته، بين الأخ وأخته هي مقياس أساسي لفهم الوعي الجمعي لحرية المرأة، والخطابات بين أفراد العائلة تعكس في مفرداتها كثيراً من اللامسكوت عنه واللامفكَّر فيه، لذا جاءت رواياتي، وبالأساس روايتا «الأصنام» و«منام القيلولة»، تكتب التاريخ والمجتمع من خلال تفكيك سلّم العلاقات ما بين أفراد العائلة، وفيما بينهم وبين المحيط الذي يعيشون فيه. فالأسرة تشبه في بنيتها هرم بنية السلطة السياسية بشكل واضح.

* يبدو التراث جلياً في تفاصيل أعمالك، كتلك المقاربة في عنوان «الساق فوق الساق في ثبوت رؤية هلال العشاق»، وتُصدِر إحدى رواياتك برثاء المهلهل بن ربيعة لشقيقه كُليّب... حدِّثنا عن علاقتك بالتراث العربي؟

- أعدّ نفسي قارئاً نهماً للتراث العربي والإسلامي ومهتماً به، التراث المكتوب والشفوي على حد سواء، ولكن يجب أن ننظر إلى تراثنا، ونتعامل معه، في علاقته مع التراثات الإنسانية الأخرى حتى تتجلى لنا الصورة الناصعة فيه والمتردية أيضاً، لأن التقوقع حول تراثٍ وطنيٍّ والزهو به كثيراً قد يُسقطنا في مرض الاكتفاء بالذات. حين اكتشفتْ الإنسانية قيمة كتاب «ألف ليلة وليلة» تبناه الجميع، لا لأنها من هذه الهوية أو تلك، ولكن لأنها تعكس إبداعاً خالداً يمس البشرية جمعاء.

في تراثنا الجزائري أسعدُ دائماً بقراءة «الحمار الذهبي» لأبوليوس، وأيضاً «مدينة الله» للقديس أو أوغسطين وغيرهما، ويثيرني أيضاً التراث الأمازيغي الذي هو وعاء حقيقي لذاكرة البلاد، كما أقرأ الجاحظ وأعدّه معلم الحكاية، وأقرأ المعرّي «رسالة الغفران» وأعدّه مُعلم الجرأة.

* تحمل أعمالك رؤية آيديولوجية ونقدية، هل يصعب على الروائي صاحب الموقف أن يُحيّد نفسه وموقفه وهو يكتب الأدب، أم أن الحياد هنا نزعٌ لصوته الخاص؟

- الكاتب له قناعة فلسفية وسياسية واجتماعية، وبالتالي لا كتابة خارج هذه القناعة، لكن يجب النظر إلى هذه العلاقة بشكل مُعقد وليس ميكانيكياً، فالفن ومنه الأدب لا يعكس قناعة الكاتب بشكل آلي ولكن الكتابة الإبداعية تقول تلك القناعة بقناع جمالي مُعقد ومركّب إنْ على مستوى اللغة أو من خلال تحليل نفسيات الشخوص الروائية أو من خلال البناء السردي نفسه، الرواية تحتاج إلى قول الآيديولوجيا جمالياً وتلك هي مغامرة الكتابة والتحدي الذي عليها مجابهته.

* كيف تتأمل المسافة بين اللغتين العربية والفرنسية؟ ما الذي يجعلك تختار الفرنسية لكتابة رواية؟

- أكتب باللغتين العربية والفرنسية في انسجام منذ ثلاثين سنة. نشرت 15 رواية باللغة الفرنسية، بعضها يدرَّس في كثير من الجامعات الأوروبية المختلفة، ونشرت 15 رواية باللغة العربية. تربطني باللغة علاقة شخصية-ذاتية أكثر منها موضوعية، لكل كاتب لغته، وما أُصر عليه هو أنني لا أخون قارئي في اللغتين. ما يشغلني بالعربية هو ذاته ما يشغلني بالفرنسية، والإشكالات التي أكتبها لا تفرِّق بين هذه اللغة وتلك.

حين أبدأ كتابة العمل الروائي تسكنني حالة سيكولوجية لغوية غير مفسَّرة، فأجدني أكتب من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار، ثم أغرق في شهوة الكتابة بهذه اللغة أو بتلك. ما يُفرق بين الكتابة باللغتين هو القارئ، فالقارئ بالفرنسية له تقاليد قبول كل الموضوعات والإشكاليات، لا تابوه في رأسه، وهذا ناتج عن علاقته بنصوص روائية فرنسية أو مترجمة إلى الفرنسية كُتبت في ظل حرية كبيرة وسقف قبول عالٍ، أما القارئ بالعربية، وإن كنا نلاحظ تغيرات كثيرة طرأت عليه أخيراً فإنه لم يتخلص من نصب المحاكَم للروائيين في كثير من المرات، هي في غالبيتها محاكم أخلاقية أو دينية لا علاقة لها بالأدب، وهذا العطب في الفهم وفي المفاهيم قادم من مناهج المدرسة والجامعة التي تحتاج إلى مراجعة جوهرية.