بلدة بريطانية تشهد موت حقبة ذهبية فجرتها الثورة الصناعية

الصينيون يتسببون في إغلاق آخر مصنع للفولاذ بإنجلترا يعود إلى عام 1917

مظاهرة لعمال فولاذ بريطانيين صرفوا من العمل بعد اغلاق مصنعهم (غيتي)
مظاهرة لعمال فولاذ بريطانيين صرفوا من العمل بعد اغلاق مصنعهم (غيتي)
TT

بلدة بريطانية تشهد موت حقبة ذهبية فجرتها الثورة الصناعية

مظاهرة لعمال فولاذ بريطانيين صرفوا من العمل بعد اغلاق مصنعهم (غيتي)
مظاهرة لعمال فولاذ بريطانيين صرفوا من العمل بعد اغلاق مصنعهم (غيتي)

في هذه البلدة الصغيرة التي تطل على ساحل بحر الشمال، وتشتهر باحتوائها على مصنع عمره قرن من الزمان ينتج الفولاذ المستخدم في بناء بعض الجسور الأكثر شهرة في العالم، ترددت الأنباء بأن المصنع على وشك الإغلاق إلى الأبد، مع تسريح 2200 وظيفة كان يوفرها. وتكشّفت اضطرابات بريطانيا ما بعد الصناعة، في إحدى الليالي مؤخرا داخل مقصف «أوغرادي» المحلية، عندما شارك عمال الفولاذ أحزانهم على بُعد بضع أقدام من رجل أعمال يبيع الفولاذ الصيني الرخيص إلى الحكومة البريطانية، وهو الشيء الذي يشتكي كثيرون في بلدة ردكار منه.
«سيصاب الجميع بالجنون»، هكذا قال كونراد ماكورميك (38 عاما)، وهو أب لطفلين، فقدَ وظيفته في المصنع الذي ينتج الفولاذ لجسر ميناء سيدني في أستراليا، وجسر شلالات فيكتوريا في زامبيا، ومركز التجارة العالمي 1 في نيويورك. وأضاف ماكورميك وهو ممسك بزجاجة جعة وزنها نصف لتر تقريبا: «هذا هو الشيء الوحيد الذي أنا متأكد منه في حياتي الآن». وعبر المقصف وقف جيم، رجل أعمال عمره 61 عاما، رفض ذكر اسم عائلته، وهو ممسك بمشروبه أيضا، وقال إن شركته متوسطة الحجم كانت تبيع الفولاذ الصيني وغيره من الفولاذ الأجنبي بشكل جيد للحكومة من أجل بناء السكك الحديدية ومزارع الرياح والمباني العامة. وتابع جيم: «تسعى بريطانيا لتوفير الأموال وخفض العجز العام عن طريق استيراد المواد الرخيصة من الخارج». وجاء الإعلان عن الإغلاق النهائي لمصنع الفولاذ «تيسايد» - الذي تأسس في عام 1917، وانتقلت ملكيته مؤخرا إلى شركة «سهافيريا» التايلاندية للصناعات الفولاذية – يوم 12 أكتوبر (تشرين الأول). وفي وقت سابق من هذا الشهر، تقدم الفرع البريطاني لشركة «سهافيريا» بطلب بإشهار الإفلاس، بينما ظلت أفران فحم الكوك مشتعلة وسط المحادثات بشأن انتقال الملكية إلى شركة أخرى، غير أن تلك المحادثات تعثرت، وبمجرد وقف تشغيل أفران فحم الكوك ستكون فرصة إعادة تشغيل المصنع ضئيلة للغاية.
وتعصف القوى ذاتها بشركة فولاذ أخرى تدعى «تاتا»، التي أعلنت يوم الجمعة عن تسريح 1200 وظيفة في بريطانيا، أي بمعدل 7 في المائة من قوة العمل لديها. وأعلنت الحكومة عن حزمة تعويضات تبلغ قيمتها 80 مليون جنيه إسترليني (أي نحو 123.5 مليون دولار) لعمال «تيسايد»، وهو ما يتضمن إعادة التدريب وتوفير المال للمشاريع المبتدئة، لكن تلك الأزمة كانت المسمار الأخير في نعش مصنع الفولاذ الشهير.
تقع ردكار، وهي بلدة في شمال شرق إنجلترا يقطنها 35 ألف نسمة فقط، في منطقة تعاني بالفعل من أعلى معدل بطالة في بريطانيا، 8.5 في المائة، أي أعلى ثلاث نقاط عن الإحصائيات الوطنية. وتبلغ نسبة أكثر من 10 في المائة هناك من الشباب العاطلين عن العمل، وجرى تسريح المئات من عمال الفولاذ الذين كانوا متعاقدين بالإضافة إلى 2200 كانوا موظفين.
وبعد أن كانت معروفة بتوافر الوظائف الصناعية الصلبة بها أصبحت البلدة تشتهر الآن بـ«متاجرها الخيرية، والحانات، ومطاعم الوجبات السريعة»، بحسب كلير، 35 عاما، وهي ممرضة متزوجة عامل صناعات فولاذية.
ومن دون الفولاذ لا تستطيع ردكار تقديم شيء للعالم، باستثناء السياحة الساحلية الصيفية المتواضعة. وحتى في ذلك الوقت لا تتمتع البلدة بخدمات شبكة سكك حديدية محلية جيدة، فبها قطار بطيء ذو أربع عربات يسير على مسارات متهالكة، ويجد السياح البريطانيون من الأسهل التحليق إلى إسبانيا.
وقد فقدَ الساسة كثيرا من المصداقية بين سكان ردكار، وفقا لبون، ويرفض الناخبون الأحزاب المهيمنة، ويسجلون أصواتا احتجاجية بدلا من ذلك. وفي انتخابات شهر مايو (أيار) لمقعد برلماني، أبلى مرشح محلي لحزب الاستقلال البريطاني المناهض للهجرة بلاء حسنا، باقترابه بنسبة ضئيلة من المركز الثاني.
ويعترف السكان والعمل مثل بون أن فقدان الوظائف هو أمر حتمي في اقتصاد السوق، لكنّ هناك شعورا واسعا بالغضب من الحكومة لأنها تبدو وكأنها تتخلى عن عمال الفولاذ والمجتمع.
ويقول العمال وأرباب العمل المحليين إنهم يريدون خطة صناعية قوية تضاهي مستوى المنافسة لصانعي الفولاذ البريطانيين. وعلى سبيل المثال، يشددون على ضرورة تقليص الضرائب الحكومية البريطانية وأسعار الطاقة، وهي الأغلى في أوروبا. ويريدون أيضًا الحكومة لفرض رسوم أعلى على الواردات الصينية.
«الأمر لا يتعلق بأننا نحاول إفادة الصين»، هذا ما قاله غاري كليش، رجل أعمال بريطاني – أميركي، نصح هذا العام بعدم شراء مصنع فولاذ مملوك لشركة «تاتا» في سكونثورب، تبعد نحو 70 ميلا إلى الجنوب من ردكار، بسبب ارتفاع تكاليف الطاقة والضرائب. وأوضح أن الصين تقدم دعم لصناعة الفولاذ لديها بشكل أكبر من الصين، و«بما أن الصين لا تكسر القواعد التجارية، يميل الناس إليها».
واستبعدت الحكومة المحافظة لرئيس الوزراء ديفيد كاميرون هذا النوع من التدخل. وقال جيسون راج، المتحدث باسم وزارة الأعمال والابتكار والمهارات إن الحكومة «اتخذت إجراءات لمساعدة صانعي الفولاذ المحليين، عن طريق دفع مبلغ 47 مليون جنيه إسترليني تعويضا عن تكاليف الطاقة». وفي يوليو (تموز)، صوت البرلمان لصالح تمديد الرسوم الجمركية على منتجات قضبان الأسلاك الصينية التي تعتقد بريطانيا أن تسعيرها أقل من القيمة السوقية العادلة، بحسب راج، و«سوف تنظر في الحالات الأخرى عند ظهورها». وبالنسبة إلى بيتر أتكينسون، 56 عاما، فإن الأزمة الأخيرة ليست جديدة. وقد تقاعد من المصنع في عام 2010، عندما بِيع لملاكه الحاليين. وسرحت الشركة المالكة حينئذ – «تاتا ستيل» الهندية – 1700 عامل بعد انتهاء عقودهم. والآن تم تسريح نجله، 26 عاما، عامل فولاذ أيضا.
وذكر جورج أوزبورن، مستشار وزير المالية، متحدثا بشأن خطة تعليم كرة القدم في الصين بمبلغ ثلاثة ملايين جنيه إسترليني: «من اللطيف الاعتناء بالأشخاص الآخرين في العالم». وتابع: «لكن يتعين عليك في بعض الأحيان الاعتناء بنفسك». هناك كثير من الثرثرة في ردكار عن الصين، التي تسعى حكومة كاميرون بجد لعقد صفقات تجارية معها. وتنتج الصين نصف كمية الفولاذ في العالم، ويظهر صدى هذا الانتشار هنا، لأن بريطانيا أيضًا أنتجت ذات مرة نصف فولاذ العالم. تمتلك الصين مخزونا واسعا من الفولاذ، تراكم خلال السنوات التي أعقبت حزمة التحفيز في بكين في عام 2008، لكن الآن يفقد اقتصادها قوته، وتبيع الصين الفولاذ بأسعار تكافح مصانع الفولاذ البريطانية مضاهاتها.
واستوردت بريطانيا 60 في المائة من فولاذها العام الماضي، وفقا لجماعة الضغط الصناعية «يو كيه ستيل»، بينما تستورد الصين ما يشكل 8 في المائة من الطلب البريطاني. وتبدو الأرقام ضئيلة بالمقارنة مع المنافسين من أوروبا والشرق الأوسط وروسيا، بحسب غاريث ستيس، مدير «يو كيه ستيل». لكن وتيرة الواردات الصينية تنذر بالخطر، حيث زادت أربعة أضعاف في غضون شهر، وفقا لستيس. وبالعودة إلى أوغرادي، يوجد لدى السيد أتكينسون وجهة نظر فلسفية، حيث قال: «وُلِدنا ونشأنا كعمال فولاذ، لكن في الوقت ذاته نحتاج إلى إدراك أن كل شيء لديه مدى عمري».

* خدمة «نيويورك تايمز» خاص بـ {الشرق الأوسط}



تعديل العقيدة النووية الروسية... بوتين يصعّد لهجة تحذيراته للغرب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)
TT

تعديل العقيدة النووية الروسية... بوتين يصعّد لهجة تحذيراته للغرب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي كلمة في منتدى «أسبوع الطاقة الروسي» (إ.ب.أ)

رفعت موسكو سقف تهديداتها للغرب، في إطار مواجهة ما وصف بأنه «تهديدات جديدة» تتعرض لها روسيا. وفي أول خطوة عملية للرد على زيادة معدلات الانخراط الغربي في الحرب الأوكرانية، وضعت التعديلات التي استحدثها الرئيس فلاديمير بوتين في العقيدة النووية الروسية مجالات أوسع لاستخدام محتمل للسلاح غير التقليدي، وخفضت سقف الشروط التي كانت تقيّد اللجوء إلى الترسانة النووية للدفاع عن مصالح روسيا وحماية وحدة أراضيها وسيادتها.

الرئيس الروسي ترأس اجتماعاً الأربعاء لمجلس الأمن القومي خُصّص لمناقشة ملف «الردع النووي» (رويترز)

عقب إعلان الرئيس الروسي اتهمت أوكرانيا القيادة في موسكو بـ«الابتزاز النووي». وقال أندري يرماك، كبير مسؤولي مكتب الرئيس الأوكراني، عبر تطبيق «تلغرام»: «لم يتبق لروسيا سوى الابتزاز النووي. ليس لديها أي وسيلة أخرى لترويع العالم»، مضيفاً أن محاولة الترويع لن تجدي نفعاً.

ولم يخفِ الكرملين أن الرسالة الأولى والأهم في التعديلات على العقيدة النووية موجهة مباشرة إلى الغرب الذي تتهمه موسكو بالانخراط المباشر في الأعمال العدائية على جبهات القتال. وهو أمر أوضحه بشكل جلي الناطق الرئاسي الروسي ديمتري بيسكوف عندما قال، الخميس، إن «التغييرات في العقيدة النووية الروسية تحمل إشارة مباشرة للدول غير الصديقة».

وأوضح: «هذه إشارة تحذير لتلك الدول من العواقب إذا شاركت في هجوم على بلادنا بوسائل مختلفة، وليس بالضرورة بالوسائل النووية فقط».

ونبَّه إلى أن «رؤساء الدول العقلاء» كانوا يدركون في السابق خطورة تصريحات بوتين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بـ«مثل هذه المواجهة غير المسبوقة» التي أثارتها المشاركة المباشرة للدول الغربية في الصراع الأوكراني.

المتحدث باسم الكرملين ديميتري بيسكوف (إ.ب.أ)

وأضاف بيسكوف أن إمكانات روسيا النووية ودورها الرادع معروفان في جميع أنحاء العالم. ووفقاً له، يجري الآن «تعديل مقومات الردع النووي»، مع الوضع في الحسبان التوتر المتفاقم على طول محيط حدود البلاد. وشدد ممثل الكرملين على أن «ضامن الردع هو الثالوث النووي الروسي» (الحاملات للرؤوس النووية والمقصود هنا الغواصات والطائرات والصواريخ الاستراتيجية).

وكما أوضح بيسكوف، فإن العقيدة النووية تتكون من وثيقتين: «العقيدة العسكرية النووية» و«أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي». وقد صاغ الرئيس الروسي تعديلات على الوثيقة الثانية، الأربعاء، خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي الروسي، وهي الوثيقة التي تنظم آليات وشروط استخدام الترسانة النووية. على أن يتم اصدار مرسوم رئاسي في هذا الشأن قريباً، يكون ملزماً بشكل فوري ولا يحتاج إلى تدابير داخلية مثل مصادقة الهيئات التشريعية في البلاد عليه.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يستمع إلى الخطاب الافتتاحي للجمعية العمومية (د.ب.أ)

ماذا عدلت روسيا في وثيقتها؟

أعلن بوتين في مستهل اجتماع لمجلس الأمن المخصص لملف الردع النووي، عن قرار تحديث «أساسيات سياسة الدولة في مجال الردع النووي». وحدَّد أبرز ملامح التعديلات من خلال التأكيد على أن «العدوان على روسيا من قِبل أي دولة غير نووية بدعم من قوة نووية سيعدّ بمثابة هجوم مشترك؛ ما يمنح روسيا الحق في استخدام الأسلحة النووية حتى لو كان العدوان الذي تواجهه روسيا يتم باستخدام أسلحة تقليدية، بشكل يهدد سيادتها».

عملياً، تم تخفيض عتبة استخدام جميع الأسلحة الموجودة في الترسانة النووية الروسية التي وصفها بوتين بأنها «الأكبر والأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية في العالم».

بعبارة أخرى، فقد تم سدّ الثغرة التي واجهتها روسيا لفترة طويلة، خصوصاً منذ اندلاع الأعمال الحربية في أوكرانيا. وهي التي، وفقاً لبوتين «سمحت للقوى الغربية بمحاربة روسيا بالوكالة، باستخدام القوة البشرية للأوكرانيين». مع التعديل بات لدى بوتين سند قانوني وفقاً لتشريعات بلاده يسمح باتخاذ قرار استخدام أسلحة نووية ضد دول غير النووية إذا شنت عدواناً على روسيا بمساعدة قوى نووية.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يصافح الرئيس الأميركي جو بايدن على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك (أ.ف.ب)

هذه هي الرسالة التحذيرية الصارمة التي حملتها التعديلات للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا. وهي البلدان النووية المنخرطة في الحرب وفقاً لوجهة نظر الكرملين. كما أن التهديد ينسحب بشكل مباشر على أوكرانيا وبولندا ورومانيا وبلدان حوض البلطيق وهي بلدان غير نووية تشارك بوتائر مختلفة في الجهد الحربي.

العنصر الثاني اللافت في التعديلات، تمثل في تحديد أنواع الخطر الذي يمكن تفسيره بأنه يسمح باللجوء إلى السلاح النووي. وهكذا نصت التعديلات على إمكانية استخدام الأسلحة النووية رداً على هجمات بالطائرات والصواريخ والطائرات من دون طيار. وهذه طرازات الأسلحة والمعدات التي تستخدمها أوكرانيا بنشاط في شن هجمات داخل الأراضي الروسية. هنا، لم تعد القيود على استخدام الترسانة النووية تقف عند مواجهة طرازات المعدات القادرة على حمل رؤوس نووية، الآن تستطيع روسيا الرد بشكل حاسم على أي محاولة لتحقيق اختراقات كبرى عبر الحدود باستخدام معدات جوية بما في ذلك المسيّرات.

وقد أوضح الرئيس الروسي أن الوضع الجديد يجب أن يكون واضحاً لكل «خصومنا الاستراتيجيين». محدداً أن «شروط انتقال روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية يبرز بوضوح أيضاً، وسننظر في هذا الاحتمال بمجرد أن نتلقى معلومات موثوقة حول إطلاق ضخم للأسلحة الهجومية الجوية وعبورها حدود دولتنا». وأوضح مجدداً أن هذا يشمل «صواريخ كروز والطائرات من دون طيار والطائرات التي تفوق سرعتها سرعة الصوت وغيرها من الطائرات».

بوتين يزور مصنعاً للطائرات المسيّرة (رويترز)

العنصر الثالث الذي برز في التعديلات أن روسيا سوف تستخدم أيضاً الردع النووي لحماية أقرب حلفائها، بيلاروسيا. ومعلوم أن موسكو نقلت في وقت سابق أسلحة نووية تكتيكية إلى البلد الجار وهددت باستخدامها في حال تعرّض الحليف البيلاروسي أو المناطق الحدودية المجاورة له إلى خطر أو تهديد. وهكذا باتت التعديلات الجديدة تضع سنداً قانونياً لكبس الزر الأحمر في هذه الحالة.

الخيار النووي.. أخير

لكن التعديلات المطروحة لا تعني انتقال روسيا تلقائياً إلى استخدام الأسلحة النووية، فهي تحمل طابعاً تحذيرياً وعنصراً ضاغطاً على السياسات الغربية من دون أن تستثني اللجوء إلى «الخيار الأخير» في حالات التهديد الخطر والمباشر.

وقد لفت نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري ميدفيديف الانتباه إلى نقطة مبدأ العدوان من قِبل دولة غير نووية. ووفقاً له، الجميع يفهم ما هي البلدان التي نتحدث عنها. وأكد أن «التغيير ذاته في الشروط التنظيمية لاستخدام بلادنا المكون النووي يمكن أن يهدئ حماسة هؤلاء للانخراط أكثر في عدوانهم المتواصل».

وهذا الأمر ركز عليه بوتين أيضاً في خطابه عندما شدد على أن التطور يهدف «أولاً وقبل كل شيء، إلى تحديد المبدأ الأساسي لاستخدام الأسلحة النووية، وهو أن استخدام القوات النووية هو إجراء متطرف لحماية سيادة البلاد». مجدداً التأكيد على أن بلاده «تعاملت دائماً مع مثل هذه القضايا بأقصى قدر من المسؤولية. وإذ ندرك جيداً القوة الهائلة التي تمتلكها هذه الأسلحة، فقد سعينا إلى تعزيز الإطار القانوني الدولي للاستقرار العالمي ومنع «انتشار» الأسلحة النووية ومكوناتها».

ووصف الثالوث النووي بأنه «أهم ضمانة للأمن» بالنسبة لروسيا، و»أداة للحفاظ على التكافؤ الاستراتيجي وتوازن القوى في العالم». ومع ذلك، تابع بوتين، أن الوضع العسكري السياسي آخذ في التغير، وتظهر مصادر جديدة للتهديدات العسكرية لروسيا وحلفائها، وبالتالي يجب تكييف العقيدة «مع الحقائق الحالية»، مع توضيح شروط استخدام الأسلحة النووية.

زيلينسكي يزور مصنعاً للذخيرة في الولايات المتحدة (أ.ب)

تجب الإشارة إلى الفوارق الرئيسية التي أحدثتها التعديلات عن النسخة السابقة للعقيدة النووية؛ إذ كانت الشروط التي يمكن بموجبها لموسكو استخدام الأسلحة النووية منصوصاً عليها في أساسيات سياسة الدولة للاتحاد الروسي في مجال الردع النووي لعام 2020 تقوم على أربعة شروط رئيسية:

حصول روسيا على معلومات موثوقة حول إطلاق صواريخ باليستية تهاجم أراضيها و/أو أراضي حلفائها؛ يستخدم العدو أسلحة نووية أو أنواعاً أخرى من أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا و/أو حلفائها؛ إذا شن الخصم هجوماً بأي وسيلة ضد منشآت حكومية أو عسكرية بشكل يمكن أن يعطل رد فعل القوات النووية الروسية؛ وتعرّض روسيا لهجوم واسع بالأسلحة التقليدية؛ مما يهدد وجود الدولة ذاته.

مع التعديلات لم تعد روسيا في حاجة إلى تحري معلومات أو انتظار هجوم، فهي بات بمقدورها شن هجوم استباقي حتى لو شعرت بخطر عبر استخدام مسيّرات أو هجمات جوية تقليدية.

كيف سار العمل على تغيير العقيدة؟

بدأت القيادة الروسية الحديث عن تغييرات في العقيدة النووية منذ بداية يونيو (حزيران) 2024. ولأول مرة، أدلى بوتين ببيان حول هذه المسألة خلال مشاركته في أعمال نادي «فالداي» للحوار الاستراتيجي أمام عشرات الخبراء من مختلف دول العالم. في تلك الجلسة أثير الحديث عن «فاعلية العقيدة النووية الروسية بنسختها الحالية في مواجهة التهديدات الجديدة»، خصوصاً المتمثلة في «عدوان واسع تشنّه بلدان نووية بشكل غير مباشر».

في ذلك الوقت قال بوتين: «علينا المضي بشكل أكثر صرامة على سلم التصعيد والاستعداد لاستخدام الأسلحة النووية». إلى ذلك، أشار بوتين إلى بند العقيدة النووية القائل بأن روسيا ستستخدم مثل هذه الأسلحة في حالات استثنائية - إذا كان هناك تهديد مباشر لسيادتها وسلامتها الإقليمية. وخلص إلى أنه «لا أعتقد أن مثل هذه الحالة قد نشأت - ليست هناك حاجة إلى مثل هذه الحالة بعد (...)، لكن هذه العقيدة أداة حية، ونحن نراقب بعناية ما يحدث في العالم، من حولنا، ولا نستبعد إجراء بعض التغييرات على هذه العقيدة».

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي (يمين) يزور مصنع ذخيرة الجيش في سكرانتون بولاية بنسلفانيا (إ.ب.أ)

في تلك الفترة تحديداً، أمر بوتين بإجراء تدريبات واسعة على استخدام الأسلحة النووية التكتيكية. وبعد أسابيع من تلك التدريبات التي شملت إجراءات عملية مباشرة، بينها تدريبات على نقل الرؤوس النووية وتخزينها على مقربة من خطوط التماس ثم تفجيرها ضد مواقع العدو الافتراضي، أعلنت قيادة القوات النووية التكتيكية في رسالة وجهت إلى القائد الأعلى للقوات المسلحة (بوتين) أنها باتت على أهبة الاستعداد.

السلاح النووي التكتيكي

لم تنص التعديلات التي تم الحديث عنها في العقيدة النووية على بند خاص يحدد آليات وظروف استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، على الأقل في الشق المعلن من هذه الوثيقة. لكن بوتين كان قد أشار أكثر من مرة في السابق إلى أن التطور المرتبط باستخدام محتمل للسلاح النووي التكتيكي بات على طاولة النقاش الروسي الداخلي.

الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يخاطب «قمة المستقبل» في «الأمم المتحدة» (إ.ب.أ)

وأوضح في وقت سابق أن سبب التركيز على هذا الموضوع «يرجع إلى ظهور عناصر جديدة - على أي حال، نحن نعلم أن الخصم المحتمل يعمل على ذلك - عناصر تتعلق بخفض عتبة استخدام الأسلحة النووية. على وجه الخصوص، يجري تطوير أجهزة نووية متفجرة ذات طاقة منخفضة للغاية، ونحن نعلم أنه في دوائر الخبراء في الغرب هناك أفكار تتداول حول إمكانية استخدام مثل هذه الأسلحة وليس هناك أي شيء فظيع في هذا الأمر».

ونبّه خلال زيارة نادرة إلى فيتنام قبل أسابيع «قد لا يكون الأمر فظيعاً، لكن يجب أن ننتبه لذلك». ولم يحدد في حينها كيف ستتغير العقيدة في مجالات الاستخدام المحتمل للسلاح النووي التكتيكي. والشيء الوحيد الذي قاله هو أننا «لسنا في حاجة إلى ضربة وقائية بعد... لأنه في الضربة الانتقامية سيتم تدمير العدو بشكل مضمون».