الفكر العربي وطور «داعش» في دراسة الأصوليات الإسلامية

أركون في إلحاحه على خطر القراءة الصحافية والتسطيحية والخبرية دون الفكرية للحركات الأصولية

في الاطار الراحل محمد أركون
في الاطار الراحل محمد أركون
TT

الفكر العربي وطور «داعش» في دراسة الأصوليات الإسلامية

في الاطار الراحل محمد أركون
في الاطار الراحل محمد أركون

مع صعود الحركات الأصولية، بتنوعاتها واتجاهاتها المختلفة، صعدت مسألتها في الفكر العربي المعاصر ومشاريعه التجديدية، كأولوية تتقدم حتى على التأسيس للنهضة أو التمكين لها، كون الأصولية تمثل إعاقة عميقة للنهضة والحداثة أولا، ليس فقط على مستوى الحقوق الإنسانية (حقوق المرأة وحقوق الأقليات) بل على مستوى المؤسسات في إصرار بعض اتجاهاتها العنيفة على الانقلاب وابتلاع الدولة، وهو ما لم يشفها منه انتكاساتها ولا متتابعة غلوائها وقتالها بعضها بعضا، ولا ثورات ما عرف بالربيع العربي الذي انتهى خريفا!
نشط الكثير من مفكرينا في قراءة الأصوليات، بدءا من ناصيف نصار الذي سطر فيها كتابه «من التفكير إلى الهجرة: نحو سبيل لنهضة عربية ثانية» وكتب فهمي جدعان عددا من الدراسات والكتب في هذا الاتجاه، وقد انفرد باهتمام خاص بالسلفية وتحديد ملامحها وهويتها، كما درسها علي أومليل في «الإصلاحية والدولة الوطنية» ووضع الراحل عابد الجابري كتابا لدراستها، وأكثر من الاهتمام بها بالخصوص رضوان السيد في «الصراع على الإسلام» وقبله في «سياسات الإسلام» عادل ضاهر في «أولية العقل» وأصدر عبد الجواد يس مؤخرا الجزء الأول من كتابه «الدين والتدين» واهتم بها نقديا عبد الحميد الأنصاري والراحل أحمد البغدادي في الخليج، وغيرهم كثيرون.
لنا ملاحظتان على تعاطي الفكر العربي المعاصر في تقييمه لدراسات الحركات الإسلامية في العالم، تعيق تأثير الحداثة الفكرية وقيمها وتبقيها فوقية غير ملتحمة ميدانيا مع طرح التطرف، وإن كان المثقفون لا يتحملون مسؤولية ذلك وحدهم ولكن السياسات الثقافية والإعلامية في المقام الأول، وإلى الملاحظتين:
1 - اهتمامه بالنقد البراني دون الجواني لخطاب هذه الحركات في الغالب، وأنه لم يلتحم بغير خطاب الإخوان والقطبية في الأغلب الأعم، دون التحام نقدي حقيقي بالحركات العنفية والجهادية بالخصوص، بدءا من الجماعات الجهادية القطرية وصولا لـ«القاعدة» و«داعش».
2 - غلبة النقد غير المباشر عبر الاهتمام بالآيديولوجيا ونقدها، أو الاهتمام بالتراث الكلامي والفلسفي دون الفقهي - ربما باستثناء رضوان السيد وفهمي جدعان - مما جعل المنازلة الفكرية نظرية وغير ملتحمة بنقد هذه الحركات الحديثة نسبيا.
خصص المفكر الكبير الراحل محمد أركون (1 فبراير/ شباط 1928 - 13 سبتمبر/ أيلول 2010) جزءا من كتابه «أين الفكر الإسلامي المعاصر» الصادر أوائل التسعينات لمناقشة دراسات الحركات الإسلامية، وقد ظلت الملاحظتان، وإن ألح على ضرورة تفكيك البنى الخطابية لهذه التيارات والالتحام بها نقديا وقراءة ظاهرة الأصولية أفقيا في ضوء التاريخ الأصولي العالمي، ورأسيا في تكرار ظواهرها وتمثلاتها في التاريخ الإسلامي.
ونتفق مع أركون في إلحاحه على خطر القراءة الصحافية والتسطيحية والخبرية دون الفكرية للحركات الأصولية، دون هذا الالتحام النقدي والفكري، حيث يصنع ما يسميه «الامتثالية الثقافية» بمعنى عدم مناقشة مقولاتها وأفكارها والاكتفاء بأخبارها، استخدام طريقة الصحافي الوصفية والسردية والإخبارية دون طريقة الفقيه والناقد البنيوي.
ويضرب أركون مثالا على ذلك بكتاب جيل كيبل «انتقام الله» وأنه ترجم لتسع عشرة لغة أوروبية، منذ صدوره في سبتمبر 1991 ونال اهتماما إعلاميا كبيرا رغم أنه لا يحمل أي جديد إعلامي كما يشير أركون.
يمكننا اختزال مشكلة دراسة الحركات الإسلامية الحالية في اهتمامها بالأخبار لا بالأفكار، وبالتنظيمات أكثر من التنظيرات، وبالممارسات أكثر من الأسس النظرية لها، ورغم غزارة ما كتب عن قادة هذه التنظيمات بدءا من جماعات الجهاد القطري لـ«القاعدة» وزعيمها الراحل وصولا لـ«داعش» وخليفتها المزعوم لا نجد مثل هذا الاهتمام بأدبياتها ومطوياتها ورسائلها المطبوعة والمنشورة ونقدها النظري والشرعي، الذي كثيرا ما يأتي من خارجها منفصلا عنها وغير محاجج لها.
يرى أركون أن ما واجهته الحداثة العربية التي بزغت في أخريات القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، تشبه تلك التي حدثت في أوروبا المسيحية أثناء عصر التنوير، وقد تعاطى الإسلام مع الحداثة كما تعاطت الحداثة عبر طريقين: إما أسلمة المعايير والقيم الحداثية أو الصراع الحاد معها، ولكن هذا الصراع الحاد كان أقوى في الإسلام لعدد من العوامل يحددها أركون فيما يلي:
1 - العامل السكاني والديموغرافي: فقد تضاعف عدد المسلمين خلال خمسة وثلاثين عاما بنسبة بين 60 في المائة إلى 70 في المائة، وخلال ثلاثين عاما بعد الاستقلال منتصف القرن المنصرم كانت الزيادة السكانية بنسبة ثلاثة أضعاف أو حتى أربعة أضعاف! فعدد سكان المغرب مثلاً أو الجزائر لم يكن يتجاوز الستة أو سبعة ملايين عام 1950 فأصبح الآن أكثر من ثلاثين مليونا، وأما مصر فقد أصبحت سبعين مليونا أوائل التسعينيات. ولم تكن الدول ولا الاقتصادات ولا المجتمعات مهيأة لاستقبال هذه الأجيال الغزيرة من الشبيبة المتحمسة.
2 - الحداثة الأوروبية قرون وحداثة المسلمين عقود: يرى أركون أنه مما زاد من أزمة النهضة العربية الحديثة أنه بينما نضجت الحداثة الغربية عبر ثلاثة أو أربعة قرون، قد توترت الحداثة الإسلامية والعربية في عقود قليلة، أربعة أو خمسة، منذ توترت فيها علاقتها مع الغرب الذي رأته حديثا كما رأته مستعمرا وكذلك مع الذات بعد أن انقطعت تاريخيا عن الإسلام الكلاسيكي بين القرنين الأول والسادس الهجري، ويرى أركون أن هذه النقطة تمثل «إحدى أكبر نقاط الضعف الخاصة بكل الأدبيات الصحافية والسياسية بل وحتى السوسيولوجية المرتكزة على الحركات الإسلامية الحالية».
3 - افتقاد الجهاز الفكري للحداثة: يشير أركون أن الفكر الإسلامي المعاصر يفتقد الجهاز الفكري والمصادر والإمكانات الثقافية والعلمية للحداثة، بينما شجعت عليها الديمقراطية الليبرالية والرأسمالية الفاتحة وفلسفة حقوق الإنسان في الغرب.
ويرى أركون أن هذا أنتج عربيا صرخات انفعال وعنفا هائجا ورفضا مسعورا لخطاب الإسلاموية المعاصرة، ولكن دون خطاب نقدي وجذري قادر على إزاحتها، لبعثرة ممثليه الحقيقيين وفقدانه الأطر والقواعد الاجتماعية القادرة على التعبئة التي يمتلكها الإسلاميون.
4 - ترييف المدن وتحويل الفلاحين لبروليتاريا: يرى أركون أن تحويل الفلاحين والبدو إلى بروليتاريا رثة في المدن التي تعشعش فيها الفوضى وازدحام السكان، ثم الطلاق الكائن بين الدولة والمجتمع المدني والهيمنة الشمولية للحزب الواحد تشكل علامات على حصول وتفاعلات غير مسيطر عليها.
من النقاط المهمة كذلك التي يلح عليها الراحل محمد أركون هو وجود متخيل ديني مشترك بين مختلف الحركات الأصولية، اليهودية والمسيحية والإسلامية على السواء، مجتمعات الكتاب كما يسميها، وأنه ليس الإسلام حالة خاصة في ذلك، إلا بالمعنى السوسيولوجي والثقافي والاقتصادي ليس غير.
يستخدم أركون في مقاربته المنهجية التي لم تستمر لدراسة الحركات الإسلامية عددا من المفاهيم التي تفيد البحث الراهن في هذا المجال، ويمكننا أن نشير لثلاثة منها:
1 - مفهوم «المتخيل»: وهو المفهوم القادم من حقل الأنثروبولوجي أحد المفاهيم المهمة التي يستخدمها أركون وينتقد عدم استخدام الاستشراق الأنثروبولوجي المعاصر له، فالإنسان لا تسيره فقط الحوافز المادية والاجتماعية والاقتصادية ولكن تسيره أيضا الصور الخيالية واليوتوبيات التي يؤمن بها وباستعادتها.
2 - مفهوم الدين والتدين أو التأسيس والآيديولوجيات الفرعية: حسب مصطلحات فوكو، عبر تفريقه بين مستوى القرآن ومستوى التركيبات الكلامية والفقهية والتفسيرية التأويلية له، فينزع عنها احتكار المقدس، وهو ما كثر استخدامه بتعبيرات مختلفة من عدد من الباحثين والمفكرين العرب الآخرين، ويدعو في ذلك للاستفادة من مخرجات تاريخ الأديان المقارن وتاريخ الأصوليات المقارنة.
3 - مفهوم مجتمعات أم الكتاب: حيث يرى أركون أن هناك متخيلا مشتركا لكل المجتمعات المشكلة من تراث الكتب السماوية أو الكتاب الموحى، فالتوراة والأناجيل والقرآن كتب كونية أدخلت رؤيا ما عن التـأله وعن مكانة الإنسان وعلاقته بإله حي متعال، وعممتها وحملتها ثقافات كبرى، بلورتها تدينا وقوانين فقهية مثلت فيما بعد «قاعدة ارتكازية من أجل التوسع الآيديولوجي للحق، وبالتالي من أجل تشكل وانتشار المتخيلات الاجتماعية ضمن خط الأصولية والتزمت».
حيث تحول الأصولية ويستهدف خطابها تحويل الخطاب الديني المفتوح، والمتعدد الدلالات والاتجاهات، إلى أصل لكل قانون صحيح يوجه البشر في دنياهم وأخراهم، وينزع ممثلوها نحو التمامية أي المحافظة على نزاهة الوحي وشموليته وبلوغهم درجة التطابق معه أو مع ما يتصورونه هو. ومن الرؤى التفسيرية التي يطرحها أركون أن العلمانية الديكتاتورية تنتج مع الوقت أصوليات منغلقة، ومثل لذلك بأربعة نماذج، هي نموذج الدولة والآيديولوجية الناصرية (1954 - 1970) ونموذج الدولة وآيديولوجيا جبهة التحرير الوطني (1962 - 1991) ونموذج الدولة والآيديولوجيا البعثية في العراق وسوريا (1968 - 1991) ونموذج الثورة الخمينية على نظام الشاه سنة 1979.
ويشير أركون: «إن فرحة الظفر باستعادة السيادة والاستقلال السياسي والآمال التي علقها البشر على (الدولة - الوطن - الحزب الواحد) قد فعلت فعلها في الجماهير بواسطة الموضوعاتية الإسلامية والشعارات الإسلامية، بعد الفشل الكبير الذي حدث في نكسة 1967». ويضيف عن الحالة الخومينية أن الإيرانيين قد وجدوا في سيرة النبي والأئمة وما حملته الشعاراتية الخومينية سبيلا لحقوق الإنسان وتحقيق آمالهم بعيدا عن الدولة التي أهملتهم وفشلت في تحقيق وعودها لهم.
ويربط أركون بين التصورات التاريخية المثالية المشتركة بين القوميين الذين حكموا في فترات ما بعد الاستقلال والحركات الأصولية التي صعدت وتسعى للحكم على أنقاضهم! فكلاهما يمتلك رؤيا متزمتة تفترض في مجال الثقافات والحضارات وجود استمرارية تاريخية تمجدها وتنفي أي نقص عنها، دون تمحيص علمي للوقائع التي تكذب هذه الصورة المتخيلة للماضي المراد إسقاطه على الواقع، وهو ما يمثل الرأسمال الرمزي لهذه الحركات التي تستثمر فيه وتوظفه، حسب تعبير أركون الذي اقتبسه عن بيير بورديو.
ونحت أركون مصطلح الحركات التمامية للتعبير عن طموح الأصوليات الدينية للتوصل إلى إسلام العصر التأسيسي (610 - 632-661 ميلادية) بتماميته وكليته، وقد أجاد مترجمه الأستاذ هاشم صالح نحت هذا المصطلح تعبيرا عن ذلك، وهو تعبير مناسب جدا لبعض الحركات الأصولية غير السياسية التي تحاول التمام عبر سلوكيات وشكليات في تفاصيل حياتها من مأكل وملبس تتماهى فيها مع المثال التاريخي بالخصوص.
طور «داعش» وجهود الفكر العربي:
بعيدا عما ألح عليه أركون من ضرورة الالتحام النقدي والفكري مع الظاهرة الأصولية العربية، واختلافنا معه أن كثيرا منها جاء مع تناقض الاستعمار والحداثة في الوعي العربي، حيث نراها منتجا انفعاليا لسقوط ما يسمى «الخلافة» سنة 1924 وتراجع الحضور العربي والإسلامي واستنفارها الهوياتي ثم الحركي في مواجهة أخطار سياسية ودينية - تبشير وما شابه - مصبوغا بحلم وحدوي قديم وجديد وراهن رأوا في الخلافة وسيطا محتملا لتحققه.. إلا أننا نرى أن ما طرحه أركون وما طرحه غيره من المفكرين سواء القادمين من خلفية كلامية أو فقهية في غاية الأهمية في القراءة المعاصرة لحركات العنف الديني والسلفية الجهادية لخطورة ما تطرحه وما تستند إليه من مقولات تراثية، فهي سلفية المصدر جهادية المنهج، وليست كلامية أشعرية كما كانت حركات الإسلام السياسي، مما يستعيد وبقوة أهمية التراث وقراءته في الالتحام معها، بعيدا عن الترويج التسطيحي والسجالي معها فقط.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.