بين الحين والآخر يعثر أعضاء جمعية الهلال الأحمر الليبية على جثة جديدة لمهاجر غرق قرابة شاطئ مدينة زواره – شمال غربي ليبيا، كان ذلك مدخلا للحديث عن مأساة إنسانية لا تزال تحصد أرواح الآلاف من البشر.
تحت عنوان «المهمة الكئيبة لتحديد هوية المهاجرين غير الشرعيين الذين لا يصلون إلى أوروبا» يكشف تقرير أن متطوعا بأعمال الإغاثة يدعى إبراهيم العطوشي يظل يبحث كل يوم عن جثث جديدة قرابة شاطئ زواره، وبالفعل يعثر بنفس المكان على جثامين جديدة باستمرار.
وجثة القتيل الذي عثروا عليه هذه المرة كانت ممددة على سطح الماء قرب الشاطئ، على ما يبدو أنه جثمان لأحد المهاجرين الذين انقلب قاربهم قبل الوصول إلى أوروبا.
العثور على جثة جديدة على شاطئ زواره يعني إضافة مقبرة جديدة بالمدينة التي شهدت دفن مئات المهاجرين غير الشرعيين، يتولى إبراهيم العطوشي وغيره من متطوعي أعمال الإغاثة مهام انتشال الجثث ومحاولة الوصول بها إلى عائلاتها، أو دفنها بالمدينة إذا كان من الصعب تحديد هويتها لكنها مهام كئيبة وقاتمة، فالموت بهذه الطريقة لا يتوقف.
للقارئ أن يتخيل حجم الحزن الذي يخيم على هذا المكان وعلى هؤلاء المتطوعين الذين يعملون في ظل أسوأ موجة هجرة غير شرعية تشهدها أوروبا منذ عقود، فالإحصاءات تقول: إن هذا العام فقط شهد غرق ثلاثة آلاف مهاجر غير شرعي في البحر المتوسط قبل الوصول إلى أوروبا.
العطوشي ورفاقه من فريق الهلال الأحمر الليبي يواصلون البحث يوميا، وحين لا يجدون جثثا، يجدون متعلقات، حذاء أو هاتفا جوالا أو حافظة نقود أو حقيبة أوراق بداخلها وثائق تحدد هويات لأشخاص ابتلعهم البحر، هنا في مدينة زواره الموت لا يزال بانتظار الآلاف من الأفارقة والعرب الفارين من بلادهم.
إبراهيم العطوشي عضو الهلال الأحمر الليبي يواصل السير يوميا على الشاطئ بحثا عن جثث جديدة جرفها التيار ناحية مدينة زواره، بعض الجثث التي يعثر عليها فريق العطوشي تبدو بحالتها وهيئتها الكاملة، كأنهم أشخاص نائمون، في حين أن بعض الجثث تضيع معالمها وتنتفخ أو تتمزق، وبالكاد يستطيع الفريق التأكد أن هذه جثث لبشر!
أما متعلقات الغرقى التي يجدها فريق الإغاثة ويحاول الاستدلال من خلالها على هوياتهم، فتؤكد تنوع جنسيات هؤلاء الفارين من بلادهم، أحيانا يجد الفريق شريحة هاتف نيجيري في جيب أحد القتلى، وأحيانا يجدون ورقة مطوية بداخلها بريد إلكتروني لشخص يثبت أنه سوري الجنسية، يؤكد الفريق أن أي متعلقات تخضع للفحص الكامل، فقد تكون خيطا يوصلهم بعائلات الضحايا.
على ما يبدو أن المهاجرين باتوا يدركون حجم المخاطرة، فعدد كبير منهم يكتب أرقام هواتف ذويهم على سترة النجاة الخاصة بهم، يتكرر ذلك كثيرا، بين حين وآخر يعثر فريق البحث على جثة ترتدي سترة نجاة مكتوبا عليها جملة: «إذا وجدتني.. من فضلك اتصل برقم هذا الهاتف.. إنه شقيقي فلان».
أما عن أسر المهاجرين غير الشرعيين فإنهم غالبا يلجئون لتتبع أخبار ذويهم المهاجرين عن طريق البحث في محرك «غوغل» عن اسم المدينة التي يقصدها المهاجر، وأحيانا يتصفحون صفحات «فيسبوك» لزملاء ابنهم المهاجر، أملا في إيجاد أخبار مطمئنة أو معلومات تؤكد سلامة الوصول، يقودهم البحث في بعض الأحيان لتصفح موقع الهلال الأحمر الليبي، ومن بين مهام فريق العطوشي أيضا قراءة الرسائل الإلكترونية التي تأتيهم عبر موقعهم الإلكتروني من أهالي الغرقى، ذات مرة كتب لهم شخص باكستاني يقول لهم: «ساعدونا في العثور على جثمان أخي، فقد هاجر بشكل غير شرعي من سواحل ليبيا باتجاه أوروبا، منذ فترة طويلة، ولم نسمع عنه شيئا حتى الآن»، ورسائل أخرى مشابهة تأتيهم من دول أفريقية وعربية وغالبا تكون مكتوبة بلغة إنجليزية ركيكة.
وفي الوقت الذي يسعى سكان مدينة زواره لجمع التبرعات من أجل بناء مقابر جماعية لضحايا الهجرة غير الشرعية، يوجه سكان المدينة أيضا نداء إلى كل المعنيين والمسؤولين في العالم بأن يعملوا فورا على وقف سيل الهجرة غير الشرعية الذي يتخذ من شمال أفريقيا مسارا رئيسيا له باتجاه إيطاليا.
المأساة الحقيقية عندما يستدعي فريق العطوشي أهالي الضحايا الذين يناشدون الهلال الأحمر بالرسائل الإلكترونية، حين يأتي الأهالي تكون هناك صعوبة شديدة في التعرف على ذويهم، بعضهم جردته الأمواج من ملابسه وتغير لون جلده ومعالم وجهه، محاولات التعرف تكون خلال أجواء حزينة، بكاء بصوت مرتفع وصراخ يصعب التحكم به أو السيطرة عليه.
تقول إحدى الرسائل الواردة من إحدى عائلات الضحايا: «شقيقتنا باكستانية وعمرها 48 عاما كانت ترتدي عباءة سوداء بتطريز لونه أحمر داكن، ساعدونا في العثور عليها».
رسالة أخرى جاءتهم من رجل كردي كان مهاجرا برفقة عائلته، فغرقت زوجته كما أفلت من يده ذراع طفله الذي كان يحاول إنقاذه من الغرق، أما الأب فقد وصل إلى شواطئ اليونان وحيدا، منتظرا نتائج البحث عن جثامين زوجته وابنه!
الفارق الذي لاحظه محرر «واشنطن بوست» بين عمال الإغاثة في ليبيا ونظرائهم على الشواطئ الأوروبية، أن عمال الإغاثة في أوروبا مدربون على أعلى مستوى ولديهم ميزانيات وهم متفرغون لهذا العمل، بينما عمال الإغاثة في ليبيا يمارسون عملهم بشكل تطوعي دون أجر وبالتالي دون تدريب كاف، فدولة ليبيا التي مزقتها الحروب، لا تقدر خلال ظرفها الراهن على توجيه اهتمام كبير لأعمال الإغاثة.
إبراهيم العطوشي ومعه فريق من خمسة متطوعين يمارسون أعمال الإغاثة في وقت فراغهم، العطوشي مثلا يعمل بالأساس مدرسا، وكذلك فريقه لديهم أعمالهم، ولم يتلقوا تدريبا أو أموالا لأعمال الإغاثة، حتى أنهم حين يعثرون على جثة متوفى جديد يسود جو من الارتباك، يظلون يبحثون عن ورقة يكتبون عليها بياناته، ثم يبحثون عن أكياس بيضاء لوضع الجثة بها، في أجواء يسودها الارتباك وعدم الترتيب المسبق، إلى أن ينقلوا الجثة إلى مشرحة مدينة زواره التي هي عبارة عن غرفة واحدة فقط!
ويقول العطوشي: «لا تزال قوارب الموت تتحرك من ليبيا باتجاه أوروبا، ولا زلنا هنا نحفر القبور لدفن الجثث، لكن ورغم كل ذلك.. لدينا أمل كبير أن تنتهي هذه المأساة».
* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»