علم الاجتماع والمجتمع الشقي

ازدهار التفكير السوسيولوجي يرتبط باشتداد الحراك والتغير

علم الاجتماع والمجتمع الشقي
TT

علم الاجتماع والمجتمع الشقي

علم الاجتماع والمجتمع الشقي

يقول مونرو: «إن المجتمعات السعيدة ليس لها سوسيولوجيا، ولكنّ لها أخلاقا ومؤسسات وقوانين». ويقصد مونرو بعبارته هذه أن علم الاجتماع (السوسيولوجيا) يرتبط في نشأته بوجود الأزمة، لأنه ثمرة تفكير فيها وطموح إلى معالجتها. وفي هذا السياق أيضا تأتي كلمته الباسمة: «إن ميلاد علماء اجتماع علامة مرضية، إذ يدل ذلك على وجود تفكك واختلال مجتمعي»، لكن إذا كان نشوء علم الاجتماع علامة على مرض في بنية الاجتماع، فهذا لا يعني أن كل مجتمع شقي لا بد أن يبتدع علوما اجتماعية، فقد يحصل العكس أيضا. لكن استحضارنا لعبارة مونرو هو لفت الانتباه إلى ارتباط ازدهار التفكير السوسيولوجي بالشرط الاجتماعي المتسم بالأزمة، أو اشتداد الحراك والتغير.
فالحاصل من تأمل تاريخ التفكير الاجتماعي أنه يأتي، في الغالب، متزامنا مع لحظة أزمة مجتمعية. فليس مصادفة أن يظهر ابن خلدون بعلمه الجديد (علم العمران) في لحظة تاريخية اتسمت بغزو التتار للعالم الإسلامي في الشرق، وبلحظة اهتزازات سياسية متتالية في الغرب الإسلامي، والتي عانى منها صاحب «المقدمة» معاناة شخصية، بفعل ارتباطه بالشأن السياسي في عصره، فكان هذا الحراك السياسي دافعا لاستفزاز تفكيره لفهم دلالات التحول المجتمعي، فكان ثمرة ذلك كله نظرية «العصبية» التي فسر بها، باقتدار مفاهيمي ومنهجي فريد، ظاهرة التحول والانقلاب السياسي في منطقة الغرب الإسلامي. وليس من المصادفة أيضًا أن يظهر في اليونان مؤرخ في حجم توكيديدس في زمن حرب البلوبونيز. وليس مصادفة أن تتميز لحظة ظهور السوسيولوجيا في المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر مع سان سيمون وأوجست كونت بتأزم مجتمعي شامل. تلك اللحظة التاريخية التي جاءت لاحقة للثورة الفرنسية، ومن ثم كانت لحظة قلق واضطراب، حيث كان المجتمع الفرنسي قبل الثورة مجتمعا ساكنا لا يتميز بإيقاع تطوري ملحوظ، ولم يكن ثمة حراك اجتماعي يلفت النظر ويستفز الفكر، ولكن مع الثورة دخل المجتمع الفرنسي في القرن التاسع عشر في سياق تحولات سياسية ومجتمعية قلقة، ولم يستقر هذا التحول الثوري، وقتئذ، على وضع مجتمعي محدد، الأمر الذي أثار التفكير وأرغمه على التأمل في أوضاع المجتمع، فكان من نتائج ذلك ميلاد علم الاجتماع الوضعي.
كما أن المذاهب السوسيولوجية الكبرى تكون أحيانا كثيرة، متزامنة في توقيت ظهورها مع اشتداد الأزمات، وتسرع في إيقاع الحراك الاجتماعي. ودليل ذلك أن السوسيولوجيا الدوركايمية جاءت كما يقول مؤرخو الفكر السوسيولوجي متزامنة مع قلق النخبة الفرنسية بعد كارثة 1870، أي الهزيمة المنكرة لفرنسا أمام ألمانيا وما لحقها من اضطرابات دموية، ثم الأزمة التي أحدثها التحول إلى المجتمع الصناعي، ونشوء المدن، وظهور الفردانية وما يرتبط بها من قيم وسلوك وتفكك اجتماعي. من هنا نفهم لماذا ركز دوركايم في نظريته السوسيولوجية على مسألة التضامن الاجتماعي، لأن هذا هو ما كان يفتقده مجتمعه في سياق الانقلاب إلى مجتمع صناعي يتسم بالفردانية وضعف قيم التضامن.
والملحوظة السابقة تدفع بنا إلى إدراك حقيقة تتعلق بالتأسيس الإبستمولوجي للنظرية السوسيولوجية، وهي أن هذا التأسيس لا يكون في فراغ ولا ينبني على مجرد تأملات ذهنية، بل هو يرتبط بالواقع المجتمعي الذي يتم فيه ذلك التأسيس. وتلك حقيقة نرى للأسف الشديد كثيرا من علماء الاجتماع العرب يغفلون عنها في احتذائهم لمناهج ونظريات سوسيولوجية غربية احتذاء حرفيا، من دون أدنى حس نقدي يبصر الخصوصية وينتبه إلى مميزاتها. وهم في موقفهم هذا يناقضون الحس السوسيولوجي، فالسوسيولوجيا في أبجدياتها النظرية تعتقد أن الفكر نتاج مجتمعي، وهؤلاء يأخذون الفكر السوسيولوجي أخذا تقليديا، وكأنه ليس نتاج أرضية وعلاقات وحصيلة تأمل وملاحظات لواقع محدد ومشكلات معينة.
إن التفكير السوسيولوجي، وخصوصا في مستواه النظري، شديد الارتباط بالوسط المجتمعي، لذا فنقله بكامل تجهيزه المنهجي والمفاهيمي سلوك غير علمي، لأنه يقتطع نظريات من واقعها ويرحل بها إلى واقع مغاير. ونحن اليوم، وبعد أكثر من قرن من الحراك الاجتماعي، تبدلت قيم وأفكار، وتخلخلت أنساق وتراكيب، واهتزت بنيات. ولكن مع ذلك ثمة ضعف كبير في الإنتاج السوسيولوجي العربي، هذا إذا جاز استخدام نعت «عربي» لوصف هذا النتاج الهجين القائم على نهج التقليد، الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد بأننا ما زلنا نجهل الواقع المجتمعي الذي فيه نعيش، ولا نملك عنه من المعطيات والملحوظات العلمية مقدارا كافيا لبلورة رؤية متكاملة. ولعل هذا من النقائص المعرفية التي تعوق كثيرا من محاولات النهوض.
إن الاحتياج ماس إلى نظرية جديدة في فهم المجتمع العربي. فإذا كان ابن خلدون قد ابتدع نظرية العصبية، لتفسير كيفية تشكل الدول وانهيارها في منطقة الغرب الإسلامي، فإننا نحتاج اليوم أيضًا إلى نظرية / نظريات جديدة في فهم المجتمع العربي وتحليل بنياته وعلاقاته، وتحديد قوانين حراكه وتطوره. فأول ما ينقص علم الاجتماع العربي هو هذه الخلفية النظرية. فالمفاهيم السوسيولوجية المتبلورة في الغرب لا يمكنها أن تمسك بخصوصية الواقع المجتمعي العربي، ولا أن تلتقط ما يميزه. ويمكن أن نوضح ذلك، هنا، باستحضار علم الاجتماع الديني الغربي، الذي نرى اليوم في كثير من المنتديات الثقافية العربية اعتمادا عليه لفهم الظاهرة الدينية وما يرتبط بها من حركات إسلامية، حيث نلاحظ أن كثيرا من المفاهيم النظرية التي ابتدعها لا تصلح للتطبيق داخل العالم العربي الإسلامي، لأن هذه المفاهيم لم تتبلور كتقنيات علمية محضة، كما يظن كثير من الباحثين السوسيولوجيين الذين ينساقون إلى تشغيل التقنية الإجرائية، من دون الانتباه إلى ضرورة المساءلة الإبستمولوجية لحقيقة الكفاية النظرية والإجرائية لهذه التقنيات. والدليل على ذلك أن مبتدأ كثير من الكتابات «السوسيولوجية» العربية هو استحضار ساذج لزوج مفهومي أولي في علم الاجتماع الديني الغربي، وهو مفهوم «المقدس» و«المدنس»، ويحسب أنه سيقارب الظاهرة الدينية في العالم العربي الإسلامي من خلال هذا النوع من المفاهيم، التي يعتقد أنها مفاهيم علمية عالمية تصلح للتطبيق على أي واقعة دينية، ويتناسى جاهلا أن المدنس والمقدس مفهومان نابعان من واقع سوسيولوجي وثقافي غربي، اتسم في تشكله التاريخي بعقيدة مسيحية رهبانية، تستهجن الجسد وتحتقر الحياة الدنيوية، وترى الدنيوي والمادي دنسا وحطة، والروحي / الديني قداسة ورفعة، بينما استخدام المدنس للدلالة على الدنيوي في العالم الإسلامي دلالة على اختلال فكري وجهل مركب: جهل بالسياق الثقافي والتاريخي لتشكل مفاهيم علم الاجتماع الديني في الغرب، وجهل بالسياق الثقافي العربي الإسلامي، الذي هو في عقيدته الدينية لا يفصل بين الديني والدنيوي، ولا يستقبح الحسي المادي كما هو الحال في المجال الديني المسيحي.
لكن هل معنى هذا النقد ألا نستفيد من السوسيولوجيا الغربية؟ ومن إجرائياتها وأساليبها المنهجية؟ إن الاستفادة مطلوبة وضرورية، ولكن ينبغي أن تكون مصحوبة بحس نقدي عميق، فالمفاهيم ليست مجرد أدوات ننظر بها إلى الواقع الذي نريد درسه، إنها كالنظارات الملونة لا تعكس اللون الحقيقي للواقع، بل تخلع عليه لونها هي.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.