عبد الأمير التركي.. رحل بعدما أسس نهجه الخاص في الكوميديا السياسية

لوى عنق السياسة المتجهمة وجعلها تبتسم

عبد الأمير التركي
عبد الأمير التركي
TT

عبد الأمير التركي.. رحل بعدما أسس نهجه الخاص في الكوميديا السياسية

عبد الأمير التركي
عبد الأمير التركي

من بوابة العلوم السياسية التي حصل فيها على الماجستير من بريطانيا، دخل الكاتب عبد الأمير التركي إلى بوابة العمل الدرامي ليصنع ما يمكن أن نسميه «ثقافة الابتسامة».. فكتب للمسرح وللسينما وللإذاعة. جاء من عالم سياسي متجهم إلى فضاء ساخر. إنها معادلة ليست سهلة، لكن تحقيقها ممكن في ما لو كان لصاحبها رسالة يؤديها. ورسالة عبد الأمير التركي الذي رحل (أمس الثلاثاء) تتمثل في صنع وعي جماعي لقضايا المجتمع عن طريق الانتقاد وليس التهكم، فكان أن حصد نتيجتين، إحداهما صراعه مع الرقابة، والثانية التفاف جمهور كبير حوله. وبين هذا وذاك كان الراحل يؤسس لمنهج درامي يحمل بصمة رجل «عاصف».
ببراعة وذكاء، تمكن الراحل عبد الأمير التركي من استثمار دراسته في العلوم السياسية لصالح التأليف، فأنشأ منهجه الخاص في الكوميديا السياسية. ورغم أن أعماله كانت تعتمد على الابتسامة، وأحيانا على الضحك بصوت مرتفع، فإننا لو نحّينا هذه الابتسامة لوجدنا العمل جادًا وواقعيًا إلى درجة «المرارة».
دراسته في العلوم السياسية تركت آثارها أيضًا على حياته، فقد أقدم عبد الأمير التركي على ترشيح نفسه لانتخابات مجلس الأمة في دولة الكويت. ربما ضاقت خشبة المسرح بأفكاره التي يريد أن يوصلها إلى الناس، وربما أراد أن يكون صوت جمهوره الذين آمنوا بأفكاره. لكن هذا الجمهور فضل له مقعد المسرح على مقعد البرلمان.
كانت اهتماماته في بداية حياته تاريخية، وذلك عندما كتب برنامج «نافذة على التاريخ» للإذاعة عام 1965، وكان عمره 20 عاما، وتمكن من جذب مسامع الجمهور بشغف إلى برنامجه الذي أصبح شهيرا آنذاك. لكن التاريخ وحده بكل معطياته وزخمه لم يملأ قريحة عبد الأمير التركي الذي وجد أن بداخله طاقة خلاقة لصنع حاضر يكون يوما ما تاريخا أيضًا، فدخل عالم السينما بفيلم عنوانه «العاصفة»، من بطولة عبد الحسين عبد الرضا وخالد النفيسي. كان عنوان الفيلم يشبه حياة عبد الأمير تركي، الرجل الباحث عن رياح يحركها، ولكن هذه المرة على خشبة المسرح. بعض أعماله لم يعرض، والذي عرض منها شكّل عاصفة، ومنها: «مضارب بني نفط»، و«حامي الديار»، و«دقت الساعة»، و«ممثل الشعب»، و«حرم سعاد الوزير»، و«حط الطير طار الطير»، وغيرها من المسرحيات التي حققت حضورا ما زال صداه يتردد حتى اليوم.
وله العديد من الأعمال الدرامية التلفزيونية، لكن أبرزها مسلسل «درب الزلق» الذي سبق أن تحدثنا عنه في مقالة سابقة هنا، وذكرنا بأن معظم الذين عملوا به قد رحلوا، ويومها قلنا بأن مؤلفه الكاتب عبد الأمير التركي يرقد في المستشفى، لكن المرض لم يغلبه، إذ رحل نتيجة حادث تصادم، وها هو يغيب بعد أن عانى في السنوات الأخيرة من مرض أصابه في الكلى، وهذا يعني أن قلبه ظل سليما لأنه ناصع بالصدق.. لذلك فقد رحل تاركا وراءه مدرسة «الكوميديا السياسية.. البيضاء».

رأي أكاديمي
ولرصد رؤية أكاديمية عن أعمال الراحل عبد الأمير التركي، تحدثنا مع الدكتور سليمان آرتي، المدرس في المعهد العالي للفنون المسرحية، فقال: «عبد الأمير التركي كان أحد أعلام الدراما الكويتية، هو الذي أرخ لفترة مهمة جدا في حياة المجتمع الكويتي، واستطاع أن يكتب مجموعة كان يتناول قضية الانتقال من المجتمع الكويتي القديم وتفاعلاته مع الطفرة الاقتصادية والعملاقة، وآثار ذلك على الجانب الاجتماعي والثقافي وعلى الإنسان بشكل عام».
ويرى الدكتور سليمان آرتي أن التركي استطاع أن يحقق ذلك من خلال معادلة تجمع ما بين الكوميديا الساخرة والدراما الواقعية والسياسية، وأيضا هو من أوائل الناس الذين تناولوا قضية الصراع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكذلك ناقش بكل جرأة قضايا الفساد، مؤكدا على أنماط درامية مثل الكوميديا التلقائية، كوميديا ديلارتي، وكوميديا الموقف، ومزجها بالخطاب الثوري والسياسي. ومن يطلع على أعماله يجد الكوميديا العفوية والمؤثرة وإسقاطات خالدة لغاية اليوم. وأضاف الدكتور آرتي: «إن عبد الأمير التركي اشتغل في مجال السياسة، ورشح نفسه لمجلس الأمة أكثر من مرة، وكان يطرح برنامجا سياسيا».
ويكمل الدكتور سليمان آرتي حديثه عن الراحل: «كذلك تناول قضايا تبدأ من الإعلام والصحافة وصولا إلى الناس البسطاء وتأثيراتها في مجتمع ما بعد النفط.. كل هذه التحولات تم رصدها والتعبير عنها في إطار من الكوميديا العفوية».
لذلك - يقول الدكتور سليمان آرتي عن الراحل عبد الأمير التركي - استطاع أن يصنع هو وزملاؤه التيار الدرامي والإخراجي الخاص الذي تبعه الكثير من المؤلفين والمخرجين الكويتيين حتى يومنا هذا.
نعته نقابة الفنانين والإعلاميين في الكويت بوصفها الراحل بأنه «أحد أبرز نجوم الزمن الجميل وأحد أبرز الذين قدموا المسرح السياسي والاجتماعي بأسلوب ناقد هادف».



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟