الفلسفة البيئية: نحو أخلاق طبيعية بديلة

خطابها ذو نزعة نقدية جذرية انشغل بتقديم الأدوات المفهومية والمعرفية

الفلسفة البيئية: نحو أخلاق طبيعية بديلة
TT

الفلسفة البيئية: نحو أخلاق طبيعية بديلة

الفلسفة البيئية: نحو أخلاق طبيعية بديلة

ظل الفلاسفة والمفكرون يوجهون عظيم عنايتهم إلى العالم بمختلف ألوانه ومكوناته، بحثًا في مسألة خلقه وبدايته، والمادة التي صدر عنها. لذلك قضى هؤلاء ردحا من الزمن، يقلبون الأمر على وجوه شتى، وقد كان منهم من استعان بالعقل ليدرك منتهى الحقيقة، بينما استنجد آخرون بالوحي لينيروا رؤيتهم حول الخليقة وتسديدها.
وقد شحذ هذا التنوع في الرؤى، السؤالَ وأغناه حول الموضوع، ما برر البحث في قضية خلق العالم، وبدايته، وأصوله الغيبية أو المادية. فصرنا نلحظ كيف حكمت انشغالات الفلسفة اليونانية والإسلامية والمسيحية الوسطى، تصورات الفلاسفة، وضمنتها مضامين معينة امتدت لغاية بداية النهضة. إلا أن تطورات معرفية وعلمية في مجال العلوم الحقة، الفلكية منها خاصة، والرياضية والفيزيائية، أحالت الإنسانية على توجه إنتروبولوجي غيَّر مسعى المعرفة، عندما منح الأولوية للأنشطة العقلية البشرية والتجريبية، كمصادر لبناء العلم والحقيقة من جهة، وحور السؤال المتصل بالعالم والطبيعة من التوجه نحو البدايات والأصول، إلى الانشغال بكيفية صيرورة العالم وصيرورة الأحداث فيه، والقوانين الناظمة له من جهة أخرى. فصار البحث في الطبيعة، منذ فلسفة الأنوار، تابعًا لمنطق الإنسان في النظر والفهم، ومرسخًا لمركزية إنسانية منقطعة النظير وذات بعد إثني أوروبي، ترك بصماته الحضارية على شتى المفاعيل الثقافية والعلمية والعملية المعاصرة، مما سوغ مطلب مراجعة مقومات الحداثة الغربية وأسئلتها الأنوارية وتصوراتها المعرفية، كما هو الحال في المقاربات الفلسفية الأميركية البيئية، التي أعادت طرح سؤال الأخلاق ومساءلة وضعية الإنسان في الوجود، وفق منظور ما بعد حداثي.
لقد ظل سؤال الأخلاق منذ اللحظة الكانطية، يراوح منطلقاته الأنوارية الصرفة المقعدة، لرؤية إنسية منقطعة النظير، حلت محل كل الأطر المعرفية لقضية الفعل البشري. إذ تم الانفصال جذريا عن المقاربات الدينية الغيبية والفلسفية الطبيعية ذات الصلة العميقة بالتفاعلات التاريخية للغرب، التي ضجت بمختلف ألوان الصراع والاقتتال والإقصاء والتهميش.
ولعل الاختيار العقلاني الصرف للفعل البشري، كمدخل ميتافيزيقي، تم تبنيه فكريا من قبل كثير من الفلاسفة لمحاولة رأب الصدع بين الذوات البشرية، عن طريق الاحتكام إلى مكون العقل، كمرجع معرفي في بناء الحقيقة والتنظير للفعل البشري ولمآلاته، إلا أن ذلك أفضى إلى ترسيخ نزعة إنسية مغالية في تمجيد الحياة البشرية والتمركز حول مقوماتها ومطالبها وانشغالاتها، ولو على حساب باقي الموجودات والكائنات.
في سياق هذا المنظور، صار الإنسان يحتل مرتبة منقطعة النظير، يعلو ولا يعلى عليه، هو قيمة القيم وغاية الغايات.. أو لنقل بكلمات يسيرة ودالة: إنه دحرج طقوس القداسة وضروبها وسعى إلى مركزتها في ذاته البشرية.
إن تقدير كرامة الإنسان، وفق هذا المقترب الميتافيزيقي، ومكانته بين ثنايا مكونات العالم المحيط به، انتهى إلى ضرورة استعادة المقولة السفسطائية «الإنسان مقياس كل شيء». فالطبيعة والحياة والإنسان والتاريخ والدين، وغيرها من ممكنات الكينونة، ظلت حبيسة التوجيه الإنساني للفلسفة الغربية، تأملا وتنظيرا وفعلا. فاستحكمت فيه نزعة تملكية، آل بها الوجود وما فيه إلى شيء يُمتلك ويقدر، كأداة قابلة للاستغلال والاستثمار، لتلبية رغبات اقتصادية وسياسية مطبوعة بالهيمنة والتجبر والاستهلاك والإلهاء.
فما يشاهد اليوم، من ظلم الإنسان لذويه، ومن إفراط في هدر مناحي حياة «شركاء» الوجود من الحيوان، والتفريط في مسخرات الخالق للمخلوق، واستغلال واسع لخيرات الأرض المادية، يدعو بإلحاح لتعديل الرؤى وتصويبها معرفيًا، حتى لا يتحول الإنسان إلى ضحية لما يفعل ويصنع في دنيا الوجود، رؤى وجب أن تكون تكاملية واعتدالية، وتتخطى عتبة التجزؤ والاختزال.
يمكن القول إن الإنسان جزء من الطبيعة أو مكون من مكوناتها، ومع ذلك يعتبر الشق الوحيد في المنظومة الكونية المتميز بالمعرفة والمسؤولية، «مما يوجب الموازنة بين الإحساس بالانتماء للطبيعة، وبين وضعية الاستثناء داخلها، مع أن ذلك لا يبرر حصر الطبيعة في مجرد منجم للاستغلال لما في ذلك من غصب فاضح لانتماء الإنسان للنسق الطبيعي».
يبدو أن إشكال البيئة ولد الكثير من الأسئلة التي أثارها الفلاسفة والمهتمون حول انعكاسات انحراف الفعل الإنساني وآثاره السلبية على الحياة والطبيعة، منها: هل البشر هم الكائنات الوحيدة التي تمتلك قيمة أصلية في الكون، أم أن للعالم الطبيعي، بمكوناته المختلفة، قيمته الخاصة به المستقلة عن التقدير النفعي للإنسان؟ ما الذي يسوغ القول بأن للناس إلزامات أخلاقية إزاء بعضهم بعضا، دون غيرهم من الكائنات والمنظومات الإيكولوجية الحاضنة للجميع؟
كل من يطلع على الأدبيات الفلسفية الإيكولوجية يجد أنها تنشغل بسؤال البيئية عمومًا، وبدراسة العلاقات المتبادلة بين الكائنات الحية والبيئة التي تعيش فيها، أي دراسة واقع المنظومة البيئية بمستوياتها الثلاثة: المستوى المادي (العناصر المادية في الطبيعة) والمستوى الحي (الكائنات الحية) والمستوى الإنساني.
إلا أن أهم ما يميز خطاب الفلسفة البيئية، هو نزعته النقدية الجذرية التي تنشغل بتقديم الأدوات المفهومية والمعرفية للكشف عن حقيقة البيئة وقضاياها ومشكلاتها. أي أن الخطاب الإيكولوجي يعمل على تهيئة الأطر النظرية والعملية القمينة بفهم الأزمة البيئية وانعكاساتها العامة على كل مكونات الوجود، والكفيلة «بمراجعة فكرية للنظرة الحديثة إلى العالم، التي نشأت في الغرب الأوروبي وحكمت رؤاه وامتدت تأثيراتها إلى بقية أنحاء العالم، وشكلت في الوقت نفسه، نواة الحضارة الحديثة والمعاصرة، وأنماط الحياة والاجتماع والتمدن التي نشرتها في العالم».
تروم الفلسفة الإيكولوجية اعتماد الآلية النقدية التجاوزية، بغية تأسيس مشروع إنساني جديد، يُقوّم أعطاب الحداثة ويعيد ترتيب وضع الإنسان في الطبيعة ودوره فيها. وعادة ما يستسيغ روادها إطلاق لفظ الاخضرار على مشروعهم العام، كرديف للانسجام والتناغم بين مكونات الوجود، وهو مشروع يغيب المركزية البشرية أو أفضلية الإنسان وأسبقيته على كل الكائنات.
يستند رواد فلسفة الأخلاق البيئية، على قناعة أساسية مفادها أن للطبيعة قيمة أصلية وذاتية، تستلزم البحث في الواجبات الأخلاقية البشرية حيال المنظومة البيئية برمتها (حيوانات، نباتات..)، عبر تعديل قاعدة المعايير الأخلاقية، ذات المنشأ العقلاني الغربي الصرف، وتوسيعها لتشمل الكائنات غير البشرية، بغية تحريرها من النزعة النفعية الضيقة، إقرارًا بخيريتها الأصلية الذاتية.
فالفلسفة البيئية إذن، فلسفة ثورية بامتياز، تحكمها نزعة طبيعية تحريرية للقيم الأخلاقية، التي حكمت الحيوان والطبيعة في تاريخ الغرب، بغية التخلص من كل طرائق الفلسفة الغربية التقليدية، والسعي بدلا عنها، إلى تطوير فلسفة قيمية جديدة، تعتمد على منظور إيكولوجي شامل كفيل بتغيير القيم الاجتماعية، وبلورة مُثل ثقافية بديلة. ولعل ذلك ما جعل رواد الفلسفة الأخلاقية (توم ريغان، بيتر سينغر..) يحرثون أرضا جديدة في الفلسفة الخلقية، عندما تمكنوا من تجاوز عتبة المعايير الإنسانية الصرفة في التقدير والتقويم، وأسسوا لبنات منظور شمولي يجعل من «الحياة» معيارا كليا لتقدير الإنسان والحيوان معا.
وعلى المنوال نفسه، انبنت رؤية الإيكولوجي ألدو ليوباولد، على الدعوة إلى تحرير مفهوم المجتمع الإنساني، ذي النزعة الإنتروبولوجية الخالصة، وتوسيع حدوده الضيقة ليشمل كل الكائنات (التربة، المياه، النباتات والحيوانات..)، حتى يستقيم الحديث عن مجتمع طبيعي، يسوغ الانتقال من الأقاليم البشرية إلى الأقاليم الحيوية. ولأن معاني الغيرية لم تعد تنحصر دلالاتها عند حد إنساني خالص، فقد أضحت تشمل باقي الموجودات والمكونات الأرضية، وترسخ أخلاقا نوعية جديدة تجعل قيم التعاطف والخيرية تعبر كل الحدود والموجودات على الأرض، وتسهم في بناء حضارة أرضية سليمة، تقوم على الموازنة بين المصالح البشرية وبين مصالح الموجودات الطبيعية، ثم مصالح الأرض عموما.
يتضح مما سبق، أن المقاربة الإيكولوجية الأخلاقية بمختلف ألوانها، سعت إلى تأسيس خطاب إيكولوجي عميق، يتجاوز ضحالة اختيارات المجتمعات الصناعية في معالجة الأزمات البيئية، ويراجع الطرق التقليدية للفلسفة الغربية ونموذجها الإرشادي المعرفي الحداثي، بغرض تطوير بدائل فلسفية كفيلة بصياغة مُثل أخلاقية جديدة، تستجيب لمستجدات الإنسان المعاصر، وتعيد تقييم المحيط البيئي، بناء على منطلقات تروم التوازن الطبيعي وفق منطق تعاقدي طبيعي خلاق، يضمن التقدير العادل والشمولي لكل الموجودات.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.