رياض سطوف.. البحث عن عربي المستقبل

السوري الذي أصبح من أشهر رسامي الكاريكاتير في فرنسا

رياض سطوف  -  من اعماله
رياض سطوف - من اعماله
TT

رياض سطوف.. البحث عن عربي المستقبل

رياض سطوف  -  من اعماله
رياض سطوف - من اعماله

تجربة أولى ورائدة في عالم القصة المصورة «عربي المستقبل» الحائزة على جائزة انغوليم، للرسام والمخرج السوري رياض سطوف تحكي المأساة السورية تحت حكم حافظ الأسد، وكيف تعيش عائلة حياتها اليومية في ظل وضع سياسي، واقتصادي، واجتماعي مترد يدفعها في النهاية إلى الهرب من هذا الواقع إلى آفاق أرحب، ومواطن أرحم. ولكن هل تجد هذه العائلة الهاربة من الظلم، والطغيان ضالتها في بلد عربي آخر؟
هذه القصة التي تعتمد على الرسوم الساخرة، والنص المرافق، تجسد بأسلوب متهكم، طفولة الكاتب الذي عانى كما يعاني الأطفال السوريون من حياة يومية مكبلة بالحرمان، والممنوعات، وشظف العيش، وأقبية المخابرات المختصة بالقتل تحت التعذيب.
سطوف ركز على حقبة من حكم الأسد الأب تمتد من العام 1978ـ 1984 بشكل خاص كفترة تلخص الفترة الأسدية برمتها والتي تمثلت ببداية المجازر الجماعية للعائلة الأسدية (مجزرة سجن تدمر، مجزرة حماه...).
رياض سطوف ذو الأربعين سنة، المولود في مقاطعة برتاني في فرنسا من أم فرنسية وأب سوري من قرية طير معلة من ريف حمص، يروي قصة ذاتية لعائلته التي انتقلت إلى ليبيا كون والده، (عبد الرزاق سطوف، الشيوعي الحالم بثورة عارمة في العالم العربي تأكل الأخضر واليابس، تسقط الطغاة عن عروشهم، وتوقظ الشعوب من سباتها) قد وجد عملا هناك، والطفل الموهوب لم يتجاوز بعد الثالثة من العمر. مع الرحلة الأولى للعائلة إلى بلد يحكمه معمر القذافي تبدأ متاعبها، ومعاناة الطفل في التأقلم مع المحيط. يسرد سطوف بأسلوب شيق، رشيق، صريح، طفولة قلقة، معذبة، تحت سلطة الأب الذي يحتل مركزا هاما في القصة، والوضع العام السائد في مجتمع يرزح تحت وطأة حكم حديدي القبضة، متسائلا عن مستقبل العربي في «عربي المستقبل: في الشرق الأوسط 1978ـ 1984». سؤال محير، متشائم، سوداوي الرؤية، منعدم الجواب. معمم على مستقبل العرب ككل في ظل الأنظمة الديكتاتورية، التعسفية، المتسلطة، المنغمسة حتى شحمة الأذنين بالفساد والدماء.
هامت العائلة على وجهها، بعد أن انتزعت من جذورها، بين هذه الدول بحثا عن حياة أفضل، وفي كل مرة تصل إلى نتيجة مرة: «نهرب من الدلف لنقف تحت الميزاب». هذه المرارة يرويها سطوف في قالب هزلي ساخر، برسوم أقرب إلى رسوم عائلة سمبسون بألوان علم الثورة السورية.
ذكريات قرية «طير معلة» من ريف حمص يرويها بحس الدعابة، يروي كيف أصبحت حمص معقل الثورة ضد الابن الوريث للعرش الأسدي، ويسخر من الخدمات العامة من سيارات النقل المهترئة التي يرى الطريق من ثقوب صدئة في أسفلها، ويتطرق لوضع المرأة ونظرة المجتمعات العربية إليها «كضلع ناقص». ويتفاجأ الطفل بمجتمع كبت النظام على أنفاسه، مجتمع سوري تنخره الطائفية التي زكاها النظام الحاكم، تغلب عليه سمة التخلف بعد عشرات السنين من تدني التعليم، وتهجير العقول، وقتل الإبداع عندما لا يتوافق ورغبات الفئة الحاكمة. يدخل الطفل إلى المدرسة لتعلم اللغة العربية حسب رغبة الأب ولكن جو المدرسة لم يختلف عن جو المجتمع، فالخوف والقمع تمارسه المدرسة على التلاميذ كما يمارسه حافظ الأسد على الشعب ككل.
يتطرق سطوف إلى الانتخابات الرئاسية التي تصادف تلك الفترة التي عاشها في سوريا، والتي أعطت نتائجها فوز «الرئيس القائد» بنسبة مائة في المائة من الأصوات ما لم يحظ به رئيس من قبل، وردا على انتقادات لاذعة من الصحافة العربية والعالمية كان رد الأوساط الرسمية: «هل تريدوننا أن نزور الانتخابات كي ترضون؟!».
يزور الطفل مدينة تدمر حيث وقعت مجزرة سجن تدمر الرهيبة مستوحيا في قصته براءة طفل رواية «كانديد» للكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير، فصور نفسه كطفل بشعر ذهبي طويل كوالدته الفرنسية، وقد بدأت بوادر الثورة السورية تظهر على شعب سئم الظلم والمذلة فيتحدث عن مدينة حمص معقل الثورة ضد الابن الوريث بشار.
تعد هذه القصة الصادرة عن دار «ألاري» من القصص التي نالت إعجاب الجمهور الفرنسي، والنقاد حيث تم طبع 200 ألف نسخة منها. وبات سطوف من أشهر رسامي الكاريكاتير في فرنسا، وتتعدى شهرته إلى أوروبا حيث تم ترجمة القصة إلى اللغة الألمانية ونسخ منها 150 ألف نسخة. ضمن الكاتب في قصته المصورة «نكتة» تداولها السوريون لمدة طويلة تعكس مدى القمع الرهيب لكل من تسول له نفسه انتقاد الأسد، والخوف من عمليات الاعتقال لأتفه الأسباب والزج بسراديب المعتقلات التي من دخلها مفقود، وإن خرج منها، يخرج مشوها أو معتوها.
ويروي هذا الفنان المبدع كيف عندما كان طفلا صغيرا وظهرت عليه ملامح موهبة الرسم، كيف شرع في رسم «صورة القائد» التي كان يراها في كل مكان، وكل منعطف، فوق الأبنية، وعلى واجهات الدوائر الرسمية، وتماثيله التي تملأ الساحات. برسوم كاريكاتيرية ساخرة، فما كان من الأب عندما رأى هذه الرسوم أن عاقبه أشر عقاب قائلا له «لعن الله أباك يا بن الكلب».
وقد عمل سطوف خلال عقد من الزمان كرسام في مجلة «شارلي إبدو» التي تعرضت لهجوم إرهابي، وكان يكتب في زاوية «الحياة السرية للشباب»، إلى جانب القصص المصورة، والرسوم الكاريكاتيرية، (في سيرته ثماني قصص مصورة) دخل الكاتب إلى عالم السينما فأخرج تسعة أفلام قصيرة.
وفي العام 2009 أخرج فيلما طويلا بعنوان «الوسيمون»، كما أخرج فيلم «جاكي في مملكة البنات» حيث تخيل عالما عربيا تنعكس فيه الأدوار تكون المرأة هي السافرة والمسيطرة والحاكمة، والمحاربة، بينما يرتدي الرجال الحجاب ويقومون بالأعمال المنزلية، ويتظاهرون بالعفة، ويتنافسون على كسب ود الجنرالة الحاكمة. وتدور أحداث الفيلم في بلد اسمه «جمهورية بوبوني الديمقراطية الشعبية» ورئيسته الجنرالة اينيمون التي تقود حروبا وتحكم البلاد، وتقوم بهذا الدور الممثلة شارلوت غانسبورغ ابنة الموسيقي اليهودي سيرج غانسبورغ.
بدأ سطوف مشواره الفني في القصص المصورة، وقد أظهر حسا فنيا متميزا منذ إصداراته الأولى، التي اتصفت بالصراحة والجرأة وتسمية الأشياء بمسمياتها والتي تجلت في قصصه الأولى «باسكال المتوحش» حيث تأخذ مواضيع المراهقة الحيز الأكبر من أعماله. و«دليل الطفل العذري» خير مثال على الكشف عن حياة المراهقين ومشكلاتهم بلغة واضحة وجرأة لا تتوقف عند حدود الحياء في بعض الأحيان.
في عالم السينما أيضا ومنذ فيلمه الأول «الوسيمون» (بطولة الممثلين الشابين فانسان لاكوست، وأنطوان سونيغو) يبحث في معالجة مشكلات الشباب المراهق، وخاصة الجنسية منها دون تحفظ.
شخصياته من نوع خاص (ساحرات، سائقي حافلات، عجزة وجوههم مجعدة كالزبيب) يتقصد تشويه الوجوه فتراهم برؤوس كبيرة أسطوانية الشكل لا تتناسب وأجسادهم، بجبهات عريضة. مع نصوص ساخرة، تثير الضحك، والاستهزاء بشخصيات وصلت بها العنجهية والخيلاء إلى تخيل نفسها خالدة إلى الأبد.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.