مفتي «داعش» يتقرب من البغدادي بفتاوى التكفير

بين سرت الليبية والرقة السورية، بات منظّر تنظيم داعش البحريني تركي البنعلي المكنى بـ«أبو سفيان السلمي» يتنقل بشكل يثير الاستغراب، لا سيما أنه يعتبر من أحد أهم الآباء الروحيين للتنظيم المتطرف، إلا أن مصادر التنظيم، وبحسب أصوليين في لندن، أكدوا أنه عاد إلى الرقة، ونشر التنظيم صورًا للبنعلي خطيبًا لصلاة العيد في جامع النور بمدينة الرقة السورية، بعد أن كان قبل فترة وجيزة في مدينة سرت الليبية، بعد أن بثت إذاعة سرت المحلية التي يسيطر عليها تنظيم داعش في فبراير (شباط) الماضي، خطبًا ودروسًا لتركي البنعلي.
واحتلّت شخصية البحريني، البنعلي، الذي سحبت جنسيته، مساحة لافتة في التقارير والتغطيات التي واكبت تقدم تنظيم داعش في سوريا والعراق، ويعتبر اليوم حامل راية التكفير بلا منازع، وهو مفتي التنظيم الإرهابي، وأحد أكثر المؤثرين بين أقرانه، ويُتّهم بتجنيد العشرات من الشباب الخليجيين، وإرسالهم إلى جبهات القتال في الخارج.
قيادات أصولية في لندن أكدت لـ«الشرق الأوسط» أنهم عرفوا البنعلي عن قرب منذ عدة سنوات، بل إن هناك رسائل متبادلة بينهم، وحصلت «الشرق الأوسط» على نسخة من رسائل البنعلي الإلكترونية إلى لندنستان قبل انضمامه إلى التنظيم الإرهابي، أي قبل هجرته إلى دولة البغدادي، وأحد هؤلاء هو د.هاني السباعي مدير مركز المقريزي للدراسات بلندن، الذي قدم لأحد كتب البنعلي بعنوان: «السلسبيل في قلة سالكي السبيل» عام 2012، وضمن المراسلات تتضح لغة التزلف والنفاق من البنعلي لشيوخه أبو محمد المقدسي وأبو قتادة والسباعي، ثم ينقلب عليهم ويطعن فيهم بعد انضمامه إلى دولة البغدادي.
من جهته يقول د. السباعي لـ«الشرق الأوسط»: إن البنعلي تلميذ علم شرعي فاشل تحول إلى مفتي التنظيم الإرهابي، وقال: إنه أدرجه معه في دورة شرعية تحت عنوان «مصادر السيرة» عبر «البالتوك» قبل عدة سنوات، ولكنه فشل فشلا ذريعا في النجاح والمرور منها، وأوضح أن البنعلي تحول إلى الفكر التكفيري، وهو اليوم ينفذ تعليمات قادة التنظيم في تكفير كل من لا يسير على هواهم.
ويضيف السباعي، بخصوص التسريبات على «تويتر» الخاصة بالبنعلي، أنه أرسل تلك المراسلات التي كانت مع البنعلي إلى بعض الشباب المحسوبين على العمل الإسلامي في بريطانيا ودول عربية حتى يتيقنوا من حقيقة البنعلي ولا يتبعوا خطاه في التطرف. وأشار إلى أن البنعلي كان يراسله بأسماء عدة وكنيات مختلفة، منها عبد الرحمن وأبو همام الأثري من البحرين، وهي مراسلات متواصلة منذ عام 2008، وكان يقول: تلميذكم البار، ويخاطبني بصاحب القلم السيال وإلى الشيخ المفضال، وإلى شيخ التوحيد أهديك هدية العيد، وأوصاف أخرى.
أحد منظري لندنستان أرسل رسالة لـ«الشرق الأوسط» قال فيها عن البنعلي: «جراء طفولته المعرفية، لم يصدق الفتى نفسه وهو يركب الأوهام، فطفق يهذي ظنًا أنه صار شيئا في غابة الأقزام» ويضيف: «كان قبل العقوق يضرب أكباد الهواتف إلينا ورسائله ببريد شبكة العنكبوت شاهدة على تزلفه، كان يستطير فرحًا بكلمة أو جملة منا يفتخر بها بين أقرانه! ويتوسل إلينا أغيثونا بشهادة مكتوبة تكون له عيدا بين أهله وعشيرته».
واعتقل البنعلي في البحرين العام 2007 مع بعض رفاقه بتهمة التكفير فيما عرف بـ«خلية السقيفة»، إشارة إلى سقيفة بني ساعدة، وقد أطلق سراحه بعد سلسلة من المحاورات نظمها له مسؤولو السجن مع شيوخ سلفيين مقرّبين، ومنع البنعلي من دخول بعض الدول العربية في السنوات السابقة، كتونس ومصر والكويت والإمارات وقطر والسعودية، إلا أنه ظلّ يتمتع بحرية التنقل من وإلى البحرين لغاية مطلع العام 2014.
سافر إلى ليبيا عقب سقوط نظام القذافي، إذ تظهر كثير من الفيديوهات المرفوعة على موقع «يوتيوب» لقاءه بمتطرفين في مدينة سرت وإلقاءه فيهم سلسلة من المحاضرات. وسافر إلى سوريا مرتين على الأقل منذ اندلاع الأحداث فيها آخرها في أغسطس (آب) 2013، كما يتضح من رسائله المنشورة في الأشهر الأولى من العام 2013 والتي كان يختمها بتوقيعه مع عبارة أرض الشام المباركة. وقد عاد منها إلى البحرين قبل أن يعلن عن هجرته النهائية إلى دولة البغدادي في فبراير 2014.
وبالنسبة إلى كتب البنعلي، قال السباعي إنها في الأعم سرقات أدبية من الطراز الرفيع من كتب مشايخ وفقهاء سبقوه في العالم، وهناك مراسلات أخرى مع البنعلي لا أريد أن أنشرها حفاظا على ماء وجهه، وقد أرسلت بعضها إلى الدكتور طارق عبد الحليم لتنظيمها، من أجل تأريخها. ووصف البنعلي بأنه رجل عاق لشيوخه، فقد تمرد على شيخه عاصم البرقاوي أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، وللشيخ الحدوشي.
وأوضح أن تركي كان في بدايته لا يعرف أين يقف وفي أي صف، مع «القاعدة» أم «داعش» أم السلفية الجهادية، وهو رجل عرف عنه التردد، وكان دائما يسأل النصيحة، لكنه اليوم بات يتصدر الإفتاء في دولة الخلافة ويرفع راية التكفير لمن لا يبايع البغدادي زعيم التنظيم الإرهابي، لا أعرف ماذا حدث له؟ فقد أصيب بعد الانضمام إلى «داعش» بداء الغرور والنرجسية الشديدة، وهذا ينطبق عليه القول: «فلما اشتد ساعده رماني»، من خلال ما سماه في «ترجمة العدناني»، وفيه يقدم لأبو محمد العدناني المتحدث باسم دولة الخلافة، ولكنه أشبه بتعريف المجهول للمجهول. ويقول السباعي: «أول ما صدم صدمني بعد أن وصفني بتلميذ الرافضة»، بعد أن كان يطلب نسخا من كتبي وكنت أهديتها وأرسلتها إليه في المحرق بالبحرين قبل هجرته الداعشية.
ويتطرق السباعي إلى دخول البنعلي امتحانا عبر «البالتوك» في دورة «مصادر السيرة» عام 2009، ولكنه كان مثل تلميذ فاشل لم ينجح من الدور الأول، وليس هذا من باب التعيير، وصممنا له شهادة دراسية أرسلناها إليه في البحرين بعد نجاحه في الدور الثاني. وتطرق السباعي إلى لغة الانحطاط التي كان يتحدث بها البنعلي في رسائله الإلكترونية إلى شيوخه في بريطانيا: «نكتب إليكم من أرض الخلافة إلى أرض الكفر والضلال عند إليزابيث»، مضيفا أن البنعلي: «بدأ يضع نفسه في مصاف شيوخه مثل المقدسي وأبو قتادة»..
وينقل أصوليون حكايات البنعلي داخل التنظيم مع مقربين منه أنه تزوج من امرأتين من التنظيم إحداهما أم سمية التونسية، وأن لديه سبيتين، إلا أنه بات يكفر اليوم كل من يخالفه الرأي، أو لا يبايع البغدادي، حتى يتقرب أكثر من القيادات العليا في التنظيم الإرهابي.
ورغم ذلك فإن المعلومات الواردة من «داعش» في سوريا والعراق، تقول: إن جماعة البغدادي استخدموا البنعلي للطعن في الشيوخ، ولم يسندوا إليه أي منصب رسمي في «دولة الخلافة»، ويقول أحد المقربين منه لـ«الشرق الأوسط» إنه يلقي الدروس الشرعية في مساجد الرقة، ودوره لا يتعدى سوى تفسير نصوص تكفير الجماعات المناوئة لهم مثل «جبهة النصرة» و«أحرار الشام»، وغيرهما من الجماعات المقاتلة، ودوره اليوم هو تبرير أعمال «داعش» من ذبح وقتل للأبرياء وتفجير المساجد وتفخيخ مقار الجماعات المقاتلة أو الأسواق، بالبحث عن مسوغ شرعي لهذه الأفعال، كذلك الرد على الشيوخ الذين يدينون هذه الأعمال الإرهابية.
وفي ذات السياق، يقال: إن الكتيب أو المطوية التي وزعت في المواقع التي سيطرت عليها «داعش» في العراق وسوريا، كانت من صياغة وتأليف تركي البنعلي يطلب من السكان المحليين البيعة للبغدادي وكانت بعنوان «مدوا الأيادي لبيعة البغدادي»، ودعاهم إلى مبايعة زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي، حيث تضمنت المطوية شروحات البنعلي حول أسباب أحقية البغدادي في مبايعته خليفة لهم.
وحسب مصادر الأصوليين في لندن على اطلاع بما يجري داخل «دولة الخلافة»، فإن البغدادي لا يثق في أمور الفتوى، إلا في العراقيين المقربين منه، حيث مهمتهم إصدار الفتاوى، وتعميمها على الجميع، وأعرب بعضهم أن نهاية البنعلي ستكون مثل نهاية أبو عمر الكويتي، الذي بايع البغدادي، وقتله بعد أن اختلف معه، في بعض المسائل، وليست هذه المرة الأولى التي يستخدم فيها قادة التنظيم أحد المفتين الشرعيين، ثم يكون السجن أو القتل مصير من يعارض أو يفكر في التمرد على زعيم التنظيم.
ويتطرق السباعي إلى رسالة إلكترونية وردت من البنعلي إلى لندن بتاريخ 17 مايو (أيار) 2010. وفيها يقول: السلام عليكم شيخنا كيف أحوالكم؟ ما أخباركم؟ ما آخر إنجازاتكم العلمية؟ لقد سمعت أنكم تعملون على شرح كتاب الشريعة، هل هذا صحيح؟ هل من الممكن أن ترسلوا لي كل مدة من الزمن بعض الفوائد العلمية تخصونني بها، لكي أحدث بها عنكم فأقول : «حدثني شيخنا هاني»، فإنها شرف للعبد الفقير، وأي شرف، تلميذكم البار، وفقكم الله إلى ما يحبه ويرضاه. وفي رسالة أخرى بتاريخ 12 يونيو (حزيران) 2011 يقول البنعلي: أعيد اليوم ما طلبته منكم، الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، وأعيده اليوم عليكم لما اشتد الأمر، فكيف إذا كان العبد الشيخ في عون إخوانه، في شتى بقاع الأرض، أرجو ألا تردني وإن رددتني فأنت على العين والرأس، أقبل منك ذلك، وأنت مكانكم بين الضلوع.. إن اللجنة الشرعية في منبر التوحيد والجهاد يقصدها المستفتون من كل بقاع الأرض، ولكن عدد مشايخ الإفتاء لا يجاوز أصابع اليد، ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، ما رأيكم شيخنا أن تكون ضمن اللجنة، حتى لو تجيب على 3 أسئلة كل أسبوع، تعلم شيخنا أن عددا من المشايخ قد اعتقلوا وعلى رأسهم شيخنا أبو محمد المقدسي نحن بحاجة ماسة إليكم. أما التوقيع هذه المرة، يقول السباعي، فكان «تلميذكم البار أبو همام بكر بن عبد العزيز الأثري»، وهي كنية البنعلي الأثيرة إلى نفسه. وفي رسالة أخرى من البنعلي مؤرخة 21 يونيو 2009: «لقد استمتعنا بمناظرة الظاهري في حكم المعازف، هل تؤذن لي بإرسال البحث الذي تحدثت إليكم عنه، وهو بحث عن النوافح النسكية تلميذكم البار».
وفي رسالة أخرى بتاريخ 21 أكتوبر (تشرين الأول) 2009» السلام عليكم شيخنا، ما هي آخر أخبار المضايقات التي تتعرضون لها، والدعوى المرفوعة عليكم، بشرنا فقد اشتقنا إليكم. وفي رسالة أخرى بتاريخ 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 يقول فيها: بارك الله فيكم شيخنا الحبيب الأريب، نصيحة رائعة وفيت وكفيت، جعل الله كلماتك في ميزان حسناتكم، شيخي المفضال صاحب القلم السيال.
ويعلق السباعي بالقول: كنت نصحته مرارا ألا يتقعر في اللفظ وأن يقلل من السجع في حديثه إلى الناس وأن يقلل من الاقتباسات من الآخر، وأن يراعي شخصيته في الكتابة، وأن يراعي أخطاءه النحوية وينتبه لها، وتحت يدي
أكثر من 50 رسالة إلكترونية، ثم بعد ذلك يتطاول على الجميع بعد أن بات بوقا للبغدادي، وظل يتزلف لأبو محمد
المقدسي مفتيًا في منبر التوحيد والجهاد، وهو موقع لمناصري فكر «القاعدة».
وتكشف رسائل البنعلي عن اعتداده الشديد بنفسه وعن انتفاخ نرجسي فائض. بل إنه وحسبما يروي عنه أحد الأصوليين، كان يُسأل عن أبو همام الأثري فيزكيه ويمدح علمه ويوصي بمؤلفاته وفي نهاية المطاف تبين أن أبو همام الأثري، هو نفسه تركي البنعلي.
ويقول عن نفسه: «من نعم الله على العبد الفقير؛ أنني في بعض الأحيان أصوب وأصحح للدكاترة والمدرسين؛ حتى قال لي أحدهم لما تعقبت عليه في مسألة: اثنان لا يحسدان؛ الأستاذ لا يحسد تلميذه، والأب لا يحسد ولده. كما يقول أيضًا إني أروي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبر أكثر من ثلاثمائة طريق، فلله الحمد والمنة. حتى قال شيخنا العلامة عمر الحدوشي عن العبد الفقير: لو كان البخاري حيًا لجعله من رجاله، ومن الطبقة الأولى».
وكذلك يقول عن نفسه: أعداء هذا المنهج الألمع، من المرتدين وأهل البدع؛ منعوني من أمورٍ كثيرة؛ كعزلهم إياي من إمامة المسلمين، ومنعهم إياي من التدريس في المساجد؛ لكن ها هو صوت العبد الفقير يعبر القارات، ويصل لشتى المجتمعات، ويُترجم إلى غير العربية من اللغات على رغم أنف كل حاسد لئيم.