في قاعة عرض «وايت تشابل» اللندنية العريقة التي افتتحت سنة 1901 وأُعيد بناؤها عام 2009، والتي عُرضت فيها لوحة «غورنيكا» لبيكاسو عام 1938، تعرض الآن لوحات مختارة لفنانين عرب طليعيين.
وكان غاليري «وايت تشابل» قد افتتح موسم معارضه لخريف 2015 بمعرض من سلسلة تتضمن أربعة معارض من المقتنيات الفنية المتنوعة والواسعة لمؤسسة «برجيل» التي تعنى بالفنون في المنطقة العربية. وتأسست مؤسسة «برجيل» سنة 2010 لإدارة وحفظ وعرض المقتنيات الفنية الشخصية للشيخ سلطان سعود القاسمي، وهي تضم أعمالا ولوحات فنية متنوعة من بداية القرن العشرين إلى الوقت الحاضر، وتعد أكبر مؤسسة فنية شاملة لفنون من المنطقة العربية.
ويعرض في سلسلة المعارض هذه مائة عمل فني لأكثر من 60 فنانًا من مختلف البلدان العربية، تروي قصة نشأة وتطور الفن العربي الحديث إلى المعاصر من مختلف الفترات الزمنية وعبر الصور الفوتوغرافية وأفلام الفيديو.
الجزء الأول من سلسلة المعارض هذه جاء بعنوان «مناقشة الحداثة»، ويستمر حتى شهر ديسمبر (كانون الأول) من العام الحالي. ويستكشف هذا الجزء بداية وتطور جماليات الفن حينما كان العالم العربي يرزح تحت تأثير تغييرات جوهرية سياسية واجتماعية ترافقت مع نهاية الاحتلال الأوروبي وبداية الاستقلال وتكون الدول العربية، هذه التغييرات التي أدت إلى بزوغ النهضة العربية الحديثة، عبر لوحات ورسوم يعود تاريخها إلى بداية القرن العشرين؛ حيث تعرض لوحة «فتاة نوبية» للفنان المصري الأرمني إيرفند ديمتريجيان (1870 - 1938) التي يعود تاريخها إلى عام 1900، وانتهاء بلوحة الفنان المصري حامد عويس (1919 - 2011)، «الحارس 1967»، التي كانت تعبر عن رد فعل الفنان إزاء صدمة حرب. هذه اللوحة الكبيرة تمثل مقاتلا أسمر الملامح بذراعين مفتولتين ويحمل سلاحًا ويستحوذ على مساحة اللوحة، بينما في أسفل اللوحة مشاهد من الحياة اليومية للناس بما في ذلك عرس، وطفل يركب دراجة، وفلاح، وأم وطفلها، وخلفية اللوحة تمثل منظرًا يمكن أن يكون لأي مدينة عربية بنهرها وجسرها ومآذنها.
وسيعرض الجزء الثاني من هذه السلسلة الفنية بدءا من ديسمبر هذا العام وحتى أبريل (نيسان) من العام المقبل، وسيركز على ثيمة الرموز والمجاز في الأعمال الفنية العربية للفترة من 1968 - 1987، بينما الجزء الثالث سيكون موعد عرضه من أبريل، السنة المقبلة، وحتى شهر أغسطس (آب)، وسيركز على الفوتوغراف وفنون الفيديو لفترة التسعينات من القرن الماضي. بينما سيركز الجزء الأخير من سلسلة المعارض على أساليب الفنانين في رسم واستلهام المدن العربية التي يعيشون بها أو التي يعملون بها.
هناك كثير من اللوحات الجميلة والنادرة في هذا المعرض، أهمها لوحتان نادرتان تعرضان للمرة الأولى للروائي اللبناني الشهير جبران خليل جبران، تُظهران تأثره الجلي بتخطيطات ليوناردو دافينشي. إحدى اللوحتين تمثل امراة عارية تقف بجسد منثنٍ، وهي تحمل طفلاً على كتفيها وتلفه يداها بحنان بالغ.
لوحة الفنان السوداني أحمد شيبرين (1931) المؤرخة عام 1960 التي استخدم فيها عدة مواد مختلفة على ورق، ويستلهم بها جماليات الخط العربي مع تكوينات بالأسود والأبيض، تنهل من سحر الطقوس الأفريقية، ومع ذلك ظلت اللوحة وفية لتجريدها. كم ذكرتني لوحته بلوحات الفنان الإسباني أنتوني تاباز (1923 - 2012)!
ثلاث لوحات للتشكيلي المصري الشهير محمود سعيد (1897 - 1964)، وهو من مؤسسي المدرسة المصرية الحديثة للفنون التشكيلية، تظهر تأثره بالانطباعية، ومنها لوحته المعنونة «القطة البيضاء»، 1948، التي تظهر فيها ثنائيات نسوية يقفن بطريقة مغرية، متلفعات بالعباءة والخمار المصري، ومنشغلات بالحديث، وفي خلفية اللوحة صيادو السمك. الكل مشغول بأمره ما عدا قطة بيضاء وحيدة تحتل مركز اللوحة وتنظر مباشرة في عين المشاهد كأنها طفل ضائع.
طفحت في عيني دمعة وأنا أتأمل لوحة «عشرة خيول متعبة»، 1965، هذه اللوحة التي قرأت عنها وعن صاحبها الكثير، الفنان العراقي الرائد كاظم حيدر (1932 - 1985)، وهي جزء من لوحات ملحمة الشهادة التي تستلهم واقعة ألطف بأسلوب تعبيري تجريدي يقترب من التكعيبي والاختزال. عشرة خيول تنوح وتناجي الأفق المعتم، وأرضية اللوحة المعتمة، بينما نرى قمرًا أحمر كأنه شاهد على نواح الخيول. يا له من مزج فريد للأساليب في تناول الموروث الشعبي!
وهناك لوحتان للفنان العراقي الرائد ضياء العزاوي، وهما مزيج من الألوان الداكنة والسوداء أعادتني إلى الألوان الباروكية.. ضربات الفرشاة التي تقترب من خطوط المشرط وأشكال غير واضحة المعالم لها أقدام وأيد ثقيلة غليظة.
لوحة صغيرة للفنان العراقي الرائد جواد سليم غير معنونة، مؤرخة بعام 1951 تظهر بنتين بعيون واسعة تذكرنا بعيون النساء في الحضارة العراقية القديمة، ولوحتان للفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد تظهر أحدهما ولعه بالطلاسم وعلم الحروف، بينما اختلفت الثانية في الأسلوب تمامًا، حيث الألوان البراقة لديك في حالة الصياح.
خمس لوحات من الحبر على الورق للفنانة المصرية إنجي أفلاطون (1928 – 1985، تُظهر تأثرها بالسوريالية. لوحتان للفنان المغربي الرائد أحمد شرقاوي، ولوحتان كبيرتان للفنان السوري مروان يقترب بها من السوريالية في تناول أشخاص معروفين. لوحة «امرأة وجدار» للفنان الجزائري الرائد أحمد أسيخام (1928 - 1985) تصور امراة بالملابس الأمازيغية التقليدية وملامح صارمة وخلفها جدار مكتوب عليه كلمات تمثل احتجاجات أو شعارات.
الشيخ سلطان سعود القاسمي، ومؤسسة «برجيل» للفنون، وغاليري «وايت تشابل»، يمثلون تلاقيا نادرا ليس فقط لأن هذا العرض الفني الجميل يتيح للزوار والمهتمين بالفن في العالم العربي فرصة نادرة لمشاهدة لوحات أبرز الفنانين العرب الطليعيين من مختلف البلدان العربية، لكنه أيضًا يلقي الضوء على عرض وطلب وسوق الفن العربي الحديث وكيف يمكن أن تُسوق وتزيد قيمة هذه اللوحات الفنية بتلاقح جهود جامعي اللوحات والمؤسسات التي تعنى بالعروض الفنية وجهود قاعات العرض العالمية.
جماليات الفن في العالم العربي منذ بداية القرن العشرين
سلسلة معارض في العاصمة البريطانية تروي قصة بدايتها وتطورها اللاحق
جماليات الفن في العالم العربي منذ بداية القرن العشرين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة