تداعيات الواقع والحلم.. ومشاهد الثورة

حمدي عابدين يطارد الرائحة في «رجل الهاي لوكس»

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

تداعيات الواقع والحلم.. ومشاهد الثورة

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

رائحة مراوغة لبشر وأفكار وعادات وتقاليد وعلاقات وبلاد متخلفة، تجسدها قصائد الشاعر حمدي عابدين، في ديوانه «رجل الهاي لوكس» الصادر حديثا عن دار ابن رشد بالقاهرة، بحثا عن كينونة خاصة للرائحة كقيمة إنسانية وفنية، وشكل من أشكال المعرفة والخصوصية الحضارية، حيث على وترها وفي تقاطعاتها المرهفة والصادمة ينبثق حجر الرؤية، وتتنوع حركة الفعل الشعري في الديوان.
ويشد مناخان اجتماعيان شديدا التباين فضاء هذه الرائحة، ويمنحانها بعدا شعريا متنوعا في نصوص الديوان.. في المناخ الأول تبدو الرائحة عطنة ونتنة، ونقيض الجمال والأشياء الطيبة، تغتال الأنوثة والحرية والحب والعشق، وتتحول إلى سلاح حاد، لاذع إلى حد السخرية المرة، يكشف عورات وتناقضات مجتمع لم تفلح قشرة الحضارة في التمويه على تخلفه ورجعيته، ونظرته القاصرة التي تحصر معنى الحياة في تلبية الرغبة الجنسية وابتذال شهوات الروح والجسد، وتحويلها من طاقة خلاقة، إلى سلعة، تخضع لقانون السوق، ومنحنيات العرض والطلب.
وتجري القصائد في هذا المناخ مجرى الحكاية المكثفة المقطرة، سواء على مستوى اللغة الشعرية وبناء الصورة، الذي يتكئ على إيقاع المفارقة المنسابة في نسيج النص، أو على مستوى بنية المشهد الذي يذهب دائما إلى ما وراء العناصر والأشياء، وما تلتقطه العين بشكل خاطف، محفزا على التفكير في محتوى المشهد نفسه وما ينطوي عليه من دلالات ورؤى وأفكار، حيث تكاد الرائحة تكون تلخيصا جذريا لمعنى وشكل الحياة في هذه البيئة، وأيضًا معنى الخبل والجنون. ومن ثم تبرز شخصية «رجل الهاي لوكس» التي وسمت الديوان، كحالة لوجود مشوه، لكائن معطوب وهش، غير ممتلئ بذاته، كائن أحادي، لا أبعاد له وملامح، سوى إشباع شهواته وغرائزه الحسية.. فهو كما تقول القصائد: «كان كلما دخل سوبر ماركت.. فتش عن امرأة تسير بمفردها» و«عندما وصل بالعربة أمام الكاشير.. سأله عامل النظافة أن يلملم بقايا روحه المبعثرة في أرجاء السوق.. كانت الرائحة منتنة.. وامرأة تبتسم ساخرة على مقربة من المكان».
وفي الصور والزوايا المتعددة التي تلتقطها القصائد لهذه الكائن تنأى الرائحة عن كونها عنصر إغواء غامض، أو نقطة ارتواء لشهوة مقدسة بين رجل وامرأة، وإنما هي عنصر منفر، محرض دوما على الكراهية، حتى من قبل الآخر.. يقول الشاعر مكثفا هذا المعنى:
«عندما يذهب إلى عمله
يظل مدير المصلحة وباقي طاقمه من المديرين الصغار غائبين
ويسأل المارة:
أين توارى هؤلاء الناس..؟
تطل جوقة بلسان أعجمي:
مشغولون بملاعبة أنوفهم
لم يجدوا وقتا في بيوتهم لتنظيفها».
وعلى العكس من هذا المنحى المنفر، تتحول تأويلات ودلالات الرائحة الكريهة في المناخ الثاني، الذي يلامس الحالة المصرية على مشارف ثورة 25 يناير، إلى طاقة إيجابية، حيث تتعدى النطاق الشخصي المفرد، ويصبح لها محمولات سياسية ونفسية، تعكس بشكل غير مباشر طبيعة نظام سياسي حاكم، تأقلم معها حتى أصبحت جزءا من نسيج وجدانه.. إنها رائحة قامعة وطاردة، تتوازي - بحسب القصائد - مع الذبول والموت والخنوع والكذب وفقدان الحرية.. رائحة خبيثة مخادعة، خاوية من روح الإنسان والحياة معا.. وأيضًا هي رائحة حصار وزنزانة وقيد، تحرض على الثورة عليها والتخلص منها.. يصور الديوان هذا المشهد في أحد النصوص، مجسدًا طبيعة ذلك النظام، قائلا:
«كلما مروا بزاوية من العالم
طاردتهم رائحتهم
حاولوا كثيرًا أن يراوغوها
أن يتخففوا ويهربوا منها
لكنها كانت تمسك بهم في كل مرة
كانت الرائحة تعرف نيتهم مقدمًا
كانت تعرف أنهم لا عهد لهم ولا صديق
لذا كانت لا تصدق مواثيقهم
كلما سُمعت..
حتى جهنم
كانت تغلق أنفاسها من ريح الكذب المرسلة
كانوا إذن يريدون أن يتبرأوا منها
لكنهم لم يرغبوا في إعلان ذلك هكذا على الملأ
كانوا يخشون لحظة فورانها وثورتها
لذا قالوا كثيرًا في سرهم لسنا أبناءها
بينما كانوا كلما ذهبوا في طريق
تظهر الرائحة دائمًا ممسكة بأيديهم».
وعلى مستويات انفعالية وسلوكية متنوعة، تجسد قصائد الديوان في هذا المناخ تجليات الرائحة كمقوم شعري، تشف فيها علاقات الذات الشاعرة بنفسها وبالآخرين، كما تبرز تقاطعاتها مع شؤون القلب والعاطفة، والشعور بالفقد والحرمان، ويتجاوز فضاؤها وتأثيراتها سياق البشر، إلى الاشتباك بالمكان في علاقته معهم، وعلاقته بالتراث والتاريخ ومظاهر الطبيعة، وتصبح الرائحة بمثابة عنصر مقاومة للزيف والقمع، وأداة من أدوات الثورة والتمرد.
وشعريًا تبدو اللغة مسكونة بطاقة من الحيوية والانفعال، مفتوحة برحابة على فضاء المشهد في إيقاعه اليومي، تقتنص من تحولاته وتعرجاته المفاجأة والدهشة والتوتر. مجسدة ذلك في علاقات شعرية حية داخل النص، تطرح نفسها في شبكة من العلاقات، فلا فواصل بين النثر والشعر، فكلاهما يتبادل مع النص علاقة مكونة يتضافر فيها الهدم بالبناء، من أجل أن يكشف النص عن خصائصه اللافتة، عن رائحته الخاصة كأثر ودلالة قوية مشعة، في تداعيات اللغة والرؤية والرموز، حتى الكلام في سياقه العادي المباشر، يكتسب بقوة الانزياح ماهية أخرى، حين يدخل في نسيج المشهد والحالة الشعرية.. ومن ثم تتحول الرائحة إلى عنصر كاشف لمرايا الداخل والخارج معا.. هذا الانصهار بين الخاص والعام يطالعنا بقوة في هذا المناخ.. فبحسب الحكاية المشهدية يقول الشاعر في أحد النصوص، وكأنه يرثي نفسه أو رائحته في رائحة أخرى مظللة بالسواد والموت:
«بعدما كدت أفقد روحي
بعدما كادت تتسرب مني
في دجى الغدوة والرواح
بعدما سرت وراءها ثلاثة أعوام كاملة
استعطفها في المطارات والأسواق
ها هي تستدل عليّ
بينما يقودني الرجال والأطفال والنساء
هنا على مقربة من مراياهم
كي لا أصبح عبئًا على الريح وأوراق الشجر
كانت الرائحة تمسك الرجال من رعونتهم
وتشد النساء من أغصانهن.
تمشي في مقدمة النحيب
وتروغ..
لتُرى في المؤخرة ممسكة بذراع طفلة يتيمة
أو امرأة تجرجر سواد سدولها
- لا تخافي
لن يدفنوه في الليل
هم يخافون عليكما من الوحدة».
تطل دلالة الرائحة هنا وكأنها أشبه بحالة مطاردة، بين ذات وظلها، لكنها مع ذلك تتماهي مع ذوات كثيرة أخرى. وعلى مستوى حركة النص داخليًا وخارجيًا، ثمة مونولوغ داخلي يومض بخفة في ثنايا الصور، لينكشف هذا التداخل بين الذوات على مشهد آخر وكأنه الوداع الأخير لرائحة إنسان، كأنه رائحة «شهيد».. حيث يقول النص في الختام مستأنفا مناجاته مع الطفل والمرأة، وموجها الخطاب إلى نفسه:
«جاءت جموع تبللني بالماء والكلام الكسيح
وبالقرب من غبار أقدامهم
وعلى رأس مقبرة كانت تضم جناحيها
بدت رائحتي
ترتدي لباس خيانتها
وتخشى أن يشمها أحد».
وفي رائحة النص الخاصة تمتزج روائح ومشاهد ثورة 25 يناير، رائحة الميدان، و«الشهداء»، وبقع الدم على الإسفلت والشوارع والجدران، كما تكشف أقنعة التواطؤ والخيانة، ومراثي للبطولة والصمود، والإصرار والتحدي. إنها رائحة جماعية، أفرزتها لحظة تاريخية.. منفلتة من قبضة الزمن.. رائحة الطفل الحلم في بطن أمه، رائحة الدم الذي ينشط ذاكرة الوطن، وهي أيضًا حاسة الشم الخلاقة التي ترى ما وراء الأشياء، تحميها من آفة النسيان في طاحونة الزمن القديمة.. إنها رائحة الإغواء الغامض.. التي تعرف أن الثوب المهلهل لن يستر الجسد مهما تتالت عليه عمليات الترقيع.. وهو ما يشير إليه الشاعر ضمنيا ساخرًا:
«قولوا لأحذيتكم القديمة
مع السلامة
ودعوها بلا مبالاة
لتنام حاضنة ذكرياتها في أقرب صندوق».



غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر
TT

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

غازي القصيبي يحضر في أول ملتقى سعودي للأدب الساخر

تشهد منطقة الباحة، جنوب السعودية، انطلاقة الملتقى الأول للأدب الساخر، الذي يبدأ في الفترة من 22-24 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، وينظمه نادي الباحة الأدبي.

وأوضح رئيس النادي، الشاعر حسن الزهراني، أن محاور الملتقى تتناول «الأدب الساخر: المفهوم، والدلالات، والمصادر»، و«الاتجاهات الموضوعية للأدب الساخر، والخصائص الفنية للأدب الساخر في المملكة»، وكذلك «مستويات التأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظيراتها العربية»، و«حضور الأدب الساخر في الصحافة المحلية قديماً وحديثاً»، و«أثر القوالب التقنية الحديثة ومواقع التواصل في نشوء أشكال جديدة من الأدب الساخر محلياً»، و«سيميائية الصورة الصامتة في الكاريكاتير الساخر محلياً».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وشارك في صياغة محاور الملتقى لجنة استشارية تضم: الدكتور عبد الله الحيدري، والدكتور ماهر الرحيلي، والقاص محمد الراشدي، ورسام الكاريكاتير أيمن يعن الله الغامدي.

وكشف الزهراني أن النادي تلقى ما يزيد على 40 موضوعاً للمشاركة في الملتقى، وأقرت اللجنة 27 بحثاً تشمل؛ ورقة للدكتورة دلال بندر، بعنوان «حمزة شحاتة... الأديب الجاد ساخراً»، والدكتور محمد الخضير، بعنوان «الخصائص الفنية في الأدب الساخر عند حسن السبع في ديوانه ركلات ترجيح - دراسة بلاغية نقدية»، والدكتور صالح الحربي، بعنوان «المجنون ناقداً... النقد الأدبي في عصفورية القصيبي»، والدكتور عادل خميس الزهراني، بعنوان «الصياد في كمينه: صورة الحكيم في النكت الشعبية بمواقع التواصل الاجتماعي»، والدكتور حسن مشهور، بعنوان «الكتابة الساخرة وامتداداتها الأدبية... انتقال الأثر من عمومية الثقافة لخصوصيتها السعودية»، والدكتورة بسمة القثامي، بعنوان «السخرية في السيرة الذاتية السعودية»، والدكتورة كوثر القاضي، بعنوان «الشعر الحلمنتيشي: النشأة الحجازية وتطور المفهوم عند ابن البلد: أحمد قنديل»، والدكتور يوسف العارف، بعنوان «الأدب الساخر في المقالة الصحفية السعودية... الكاتبة ريهام زامكة أنموذجاً»، والدكتور سعد الرفاعي، بعنوان «المقالة الساخرة في الصحافة السعودية... الحربي الرطيان والسحيمي نموذجاً»، والدكتور عمر المحمود، بعنوان «الأدب الساخر: بين التباس المصطلح وخصوصية التوظيف»، والدكتور ماجد الزهراني، بعنوان «المبدع ساخراً من النقاد... المسكوت عنه في السرد السعودي»، والمسرحي محمد ربيع الغامدي، بعنوان «تقييد أوابد السخرية كتاب: حدثتني سعدى عن رفعة مثالاً»، والدكتورة سميرة الزهراني، بعنوان «الأدب الساخر بين النقد والكتابة الإبداعية... محمد الراشدي أنموذجاً». والدكتور سلطان الخرعان، بعنوان «ملخص خطاب السخرية عند غازي القصيبي: رؤية سردية»، والدكتور محمد علي الزهراني، بعنوان «انفتاح الدلالة السيميائية للصورة الساخرة... الرسم الكاريكاتوري المصاحب لكوفيد-19 نموذجاً»، والكاتب نايف كريري، بعنوان «حضور الأدب الساخر في كتابات علي العمير الصحافية»، والدكتور عبد الله إبراهيم الزهراني، بعنوان «توظيف المثل في مقالات مشعل السديري الساخرة»، والكاتب مشعل الحارثي، بعنوان «الوجه الساخر لغازي القصيبي»، والكاتبة أمل المنتشري، بعنوان «موضوعات المقالة الساخرة وتقنياتها عند غازي القصيبي»، والدكتور معجب الزهراني، بعنوان «الجنون حجاباً وخطاباً: قراءة في رواية العصفورية لغازي القصيبي»، والدكتور محمد سالم الغامدي، بعنوان «مستويات الأثر والتأثير بين تجارب الكتابة الساخرة محلياً ونظرياتها العربية»، والدكتورة هند المطيري، بعنوان «السخرية في إخوانيات الأدباء والوزراء السعوديين: نماذج مختارة»، والدكتور صالح معيض الغامدي، بعنوان «السخرية وسيلة للنقد الاجتماعي في مقامات محمد علي قرامي»، والدكتور فهد الشريف بعنوان «أحمد العرفج... ساخر زمانه»، والدكتور عبد الله الحيدري، بعنوان «حسين سرحان (1332-1413هـ) ساخراً»، ويقدم الرسام أيمن الغامدي ورقة بعنوان «فن الكاريكاتير»، والدكتور يحيى عبد الهادي العبد اللطيف، بعنوان «مفهوم السخرية وتمثلها في الأجناس الأدبية».

بعض المطبوعات الصادرة بمناسبة انعقاد أول ملتقى للأدب الساخر (الشرق الأوسط)

وخصص نادي الباحة الأدبي جلسة شهادات للمبدعين في هذا المجال، وهما الكاتبان محمد الراشدي، وعلي الرباعي، وأعدّ فيلماً مرئياً عن رسوم الكاريكاتير الساخرة.

ولفت إلى تدشين النادي 4 كتب تمت طباعتها بشكل خاص للملتقى، وهي: «معجم الأدباء السعوديين»، للدكتورين عبد الله الحيدري وماهر الرحيلي، وكتاب «سامحونا... مقالات سعد الثوعي الساخرة»، للشاعرة خديجة السيد، وكتاب «السخرية في أدب علي العمير» للدكتور مرعي الوادعي، و«السخرية في روايات غازي القصيبي» للباحثة أسماء محمد صالح.