انشقاقات في «داعش» بدير الزور.. والعشائر ترتبط بالتنظيم مصلحيًا وليس آيديولوجيًا

انشقاقات في «داعش» بدير الزور.. والعشائر ترتبط بالتنظيم مصلحيًا وليس آيديولوجيًا
TT

انشقاقات في «داعش» بدير الزور.. والعشائر ترتبط بالتنظيم مصلحيًا وليس آيديولوجيًا

انشقاقات في «داعش» بدير الزور.. والعشائر ترتبط بالتنظيم مصلحيًا وليس آيديولوجيًا

يجد تنظيم داعش نفسه اليوم عرضة لعدد من حالات الانشقاق وعمليات الانتقام التي تطال عناصرها في شرق سوريا، ومنطقة دير الزور تحديدًا. وعلى الرغم من أن المعلومات المُسرّبة عن هذا الموضوع تبقى قليلة، إلا أنه من الواضح أن المنظمة الإرهابية نجحت حتى الآن ببسط سيطرتها على المنطقة باعتمادها سياسة «فرق تسد» المستخدمة أساسًا من قبل نظام الأسد.
فأوجه الشبه بين أساليب «داعش» والنظام كثيرة. وبهدف السيطرة على منطقة دير الزور، عمدت المنظمة إلى تكوين أولاً فهم عميق للسياسة المحلية، ومن ثم للديناميكيات القبلية وأسست شبكة قوية من المُخبرين.
يروي الناشط جلال حمد من «حملة معًا لفك حصار دير الزور»، في حديث إلى «الشرق الأوسط»، أن معظم «الأنصار» في صفوف داعش (الذين يتألفون من السكان المحليين، على عكس «المهاجرين» الذين هم أجانب وغالبيتهم من العراقيين) ينقسمون إلى ثلاث مجموعات. أولاً أولئك الذين التحقوا بالمنظمة بسبب آيديولوجيتها ومن ثم أولئك الذين تعهدوا بالولاء للمنظمة لأسباب مالية أو لزيادة نفوذهم أو للانتقام من قبائل أو جماعات عسكرية أخرى.
وتذكرنا هذه الأساليب بنهج الرئيس السوري بشار الأسد الذي استغل الانقسامات في المناطق الشرقية لترسيخ سلطته ونفوذه. فعلى سبيل المثال، عمد النظام إلى تهميش زعماء القبائل التقليديين لصالح الجدد منهم الذين ولاهم مناصب مهمة وامتيازات على حساب الزعماء التقليديين، وإذا به يفتت ويشتت القوى ضمن القبائل. وفي هذا السياق تعتبر داون شاتي في مقالة نشرت في «فورين بوليسي»، أن «علاقات الولاء القبلية المشبوهة هذه تعود إلى سياسات حافظ الأسد، حيث كان الكثير من زعماء القبائل الأساسية السورية إما يختارهم النظام بما يضمن ولاءهم الدائم له، أو يعاقبهم في حال عارضوه، في الوقت الذي فضل الكثير من (النبلاء) منهم مغادرة البلاد هربا من قبضة النظام».
وبالمثل، استغل «داعش» التوترات المتزايدة بعد اندلاع الثورة السورية وتمكنت من التلاعب والاستفادة من العداوات القائمة بين اللاعبين المحليين تجاه بعضهم البعض، مستخدمة الحوافز الاقتصادية والترهيب لإنشاء شبكة جديدة من الانتماءات.
وعليه، فإن نفوذ «داعش» في شرق سوريا ليس ناتجًا بالضرورة عن التقارب الآيديولوجي مع السكان المحليين أكثر منه نتيجة حسابات براغماتية. فغالبية التحالفات الجديدة وُلِدت من تلاقي مصالح بين «داعش» والقبائل التي فضَّلت الوقوف في صف المنظمة الإرهابية حفاظا على مصالحها في مواجهة جماعات مُنافِسة.
فالكثير من العشائر التي كانت تُعتبر حليفة للنظام تعهدت بالولاء لـ«داعش». يقول محمد، أحد السكان المحليين الذين قابلتهم «الشرق الأوسط» في البلدة التركية «ريحانية» المتاخمة للحدود مع سوريا والذي طلب عدم الكشف عن هويته، إن هذه هي حالة عدد من القبائل مثل قبيلة «بو عز الدين» التي على الرغم من حِلفها القديم العهد مع النظام، تجدها اليوم في صف المنظمة الإرهابية.
أضِف إلى أن أموال المنظمة جعلت التعاون بين «داعش» والقبائل مربحا أكثر. فالقبائل سعت من خلال تعاونها مع «داعش» إما إلى تحقيق مزيد من الأرباح أو الإبقاء على بعض الامتيازات مثل حماية نشاطات التهريب. كما شكلت السيطرة على تجارة النفط حافزا قويا آخر لبعض القبائل، كون إنتاج النفط في شرق سوريا يشكل مصدرًا أساسيًا للثروات.
وهذا يعني، بنظر حمد، أن ولاء المناصرين لـ«داعش» قائم على مجموعة من المصالح ما يجعل العلاقة بينهم تستند على أسس هشة.. «على الرغم من ذلك، لا تزال هذه العلاقة مصونة ومدعومة حتى الآن من خلال شبكة قوية من المُخبرين، الذين كانوا بغالبيتهم في السابق يؤدون الخدمات لصالح نظام الأسد»، وفق محمد. وتتوسع هذه الشبكة إلى تركيا، وبشكل خاص في مدينة أورفا، التي لجأ إليها عدد كبير من سكان دير الزور، على حد قول حمد.
وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها المنظمة لضمان تماسكها، يؤكد الناشط أنه في الأشهر الأخيرة زاد عدد الانشقاقات في صفوفها والهجمات ضدها، بحيث «بلغ عدد المنشقين من مجموعة الأنصار 15 حالة في مدينة دير الزور وحدها. وهذا عدد مرتفع بالمقارنة مع مجموع الأنصار الذي يناهز المئات في المحافظة كلها»، وفق حمد. يشمل هذا الرقم منشقَين اثنين من رؤساء الفصائل في المنطقة وهما عمار حداوي وعمار نغلاوي.
يضيف الناشط أن ثقة المهاجرين بالسكان المحليين تزعزعت، خاصة بعد مقتل وزير النفط في المنظمة في شهر مايو (أيار) فضلاً عن 40 عنصرًا في المنطقة الشرقية من دير الزور، كما شهدت الفترة نفسها تصفية «داعش» لأكثر من 85 شخصًا، وفقًا للناشط.
وقد يكون «تزايد إرسال (الأنصار) على خط المواجهة في الحسكة أو الرقة، حيث يلقون حتفهم، أحد الأسباب التي قد تفسر حالات الانشقاق هذه وهروب البعض إما إلى شمال سوريا أو إلى تركيا، وتمكُّن بعضهم الآخر حتى من الهجرة إلى أوروبا»، وفق حمد. أضف إلى ذلك، انعدام الثقة في المنظمة الذي دفع بهذه الأخيرة إلى اتخاذ مجموعة من القرارات العشوائية مثل قطع خطوط الإنترنت في المدينة.
أمام هذا الواقع، عمدت المنظمة الإرهابية إلى إرسال لجنة من العراق للتحقيق في أسباب هذه الانشقاقات.
من جهة أخرى، زادت حدة التوترات بين «المهاجرين» «والأنصار» الذين يتهمون الأجانب في صفوف «داعش» بالفساد وبيع الأسلحة مقابل المال. كما انشق عدد من المهاجرين مثل أبو عبيدة المصري وأبو عبد الله العراقي من بين غيرهم الذين فروا بعد سرقة المال.
«وقد تُوِّجت هذه المشكلات بالكثير من الاشتباكات بين المجموعتين»، وفق حمد. واتخذت التوترات في مدينة الميادين ومحيطها الريفي شكلاً آخر مع ظهور كتائب صغيرة شنت هجمات ليلا على دوريات داعش أسفرت في 12 سبتمبر (أيلول) عن مقتل 7 من أفراد المنظمة. وفي هذا السياق يشير حمد إلى «أن أسباب هذه الأفعال ليست واضحة حتى الآن ولا يمكن التأكيد ما إذا كانت تمرد منظم ضد (داعش) أو هي عمليات انتقام نفذتها عائلات الأشخاص الذين قتلوا على يد (داعش)».
فكثيرون في محافظة دير الزور لديهم أسباب جمة تدفعهم إلى الشعور بالكره تجاه المنظمة الإرهابية. وقد يكون أبرز مثال على ذلك الاشتباكات التي حصلت في قبيلة «شعيتات»، حيث أدى التمرد في العشيرة إلى وفاة أكثر من 700 شخص في دير الزور العام الماضي.
«أما ما يمكننا تأكيده فهو أنه في حال تقلصت قوة (داعش)، ستتحول دير الزور إلى حمام دم، حيث إن الكثير من (الأنصار) الذين شاركوا في القتال والمذابح في المحافظة سيجدون أنفسهم كما قبائلهم مستهدفين ومطاردين»، وفق حمد. وتوسيعًا لحركتها، دأبت المنظمة من جهتها في الأسابيع القليلة الماضية تعزز قوتها بحيث توافدت عشرات العربات من «داعش» إلى المحافظة تحضيرا ربما لشن هجمات والسيطرة على ما تبقى من الأراضي التي لا تزال بين أيدي النظام.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.