«هل تريد أن تكون مدام كوراج؟»

مدام كوراج
مدام كوراج
TT

«هل تريد أن تكون مدام كوراج؟»

مدام كوراج
مدام كوراج

يسأل أحدهم بطل الفيلم عمر (عدلان جميل) مستنكرًا تصرّفاته ويمر بعض الوقت قبل أن ندرك المقصود. فـ«مدام كوراج» ليس عن امرأة بهذا الاسم بل صفة يُكنّى بها، على الغالب، الذكر أو الأنثى المتهور والأرعن أو الغبي.
في فيلم مرزاق علواش، المعنون «مدام كوراج» أيضًا، وهو آخر أعماله، نجد عمر متهورًا وأرعن وغبيًا.. لكنه أيضًا واقع في الحب. هو لص حقائب وجواهر يخطفها من النساء من بعد رصدهن وقبل الانطلاق على دراجته النارية بعيدًا. لديه تاجر يصرّف له الجواهر المسروقة ويحتفظ عمومًا بما يحصل عليه من أموال يسرقها بالطريقة نفسها. ذات مرّة، في مطلع الفيلم، يخطف عقدًا من فتاة متجهة إلى المدرسة لكنه لا يبيعه بل يحتفظ به. عند المساء ينتظر خروجها مع زميلاتها. يتبعها منفردة. يستوقفها قبل وصولها إلى مدخل المبنى الذي تسكن فيه مع والدها العجوز وشقيقها ويعيد لها العقد.
يلتقط علواش نظرة كل منهما للآخر. باب مفتوح في اتجاهين ينتج عنه تعلّق عمر بالفتاة ومطاردته لها. هي لا تتمنّع، لكنها لا تستطيع إقناع شقيقها بأن هذا الشاب لا يقصد إيذاءها.

متابعات
في عام 2013 منحت مجلة «فاراياتي» الأميركية المخرج مرزاق علواش جائزة «مخرج الشرق الأوسط»، وهي جائزة سنوية كانت تخصصها خلال انعقاد مهرجان أبوظبي السينمائي وسبق لها أن وجهتها صوب عدد من المخرجين الواعدين مثل العراقي محمد الدرّاجي. لكن علواش أكثر من فاز بها بالنسبة لعدد أفلامه، وأكثرهم إنجازا لوعوده وذلك منذ أن حقق «عمر قتلاتو» (سمي أيضًا بـ«عمر قتلته الرجولة») سنة 1975.
آنذاك، عرف كيف ينهض ببداية جديدة لسينما جزائرية رزحت طويلاً تحت سمة الأفلام النضالية حول ثورة البلاد ضد الاستعمار الفرنسي. فيلمه، وفي الجوار أفلام أخرى لاحقة لسينمائيين آخرين أقل نشاطًا منه إلى اليوم، اختلف عن منوال أفلام النضال بانتمائه إلى سينما نقد الحاضر. مع هذا الفيلم بشّر متابعيه بأنه إذ يرصد الجزائر اليوم، فإنه يسعى للبحث عما تتألّف منه اجتماعيًا ومسلكيًا وكتقاليد.
لكن جزائر آنذاك تختلف عما كانت عليه في السبعينات وأضحت عليه فيما بعد وإلى اليوم. وأفلامه صاحبت هذا الاختلاف في الثمانينات «رجل ونوافذ» وفي التسعينات «مدينة باب الواد» وفي الزمن الحاضر كما يعبر عنه في هذا الفيلم وقبله في «نورمال» و«حراقات» و«سطوح» و«التائب» وكلها في غضون السنوات السبع الأخيرة.
في التسعينات فقط انشغل عن الموضوع الجزائري داخل الجزائر بمواضيع مهاجرين يعيشون في باريس ويواجهون أسباب حياة مختلفة وصعبة كما الحال في «مرحبًا يا خال» (1996) و«شوشو» (2003) وقبلهما «بعد أكتوبر» (1990) الفيلم التسجيلي الذي ظهر فيه المخرج يوسف شاهين والممثلة إيزابيل أدجياني كل منهما بشخصيته.
في أفلامه الأخيرة «التائب» و«السطوح» و«مدام كوراج» زاد من ملاحقته الوضع المعتم للحياة الاجتماعية في الجزائر. في «حراقات» (2010) حكاية جزائريين وغير جزائريين يدلفون إلى مغامرة بحرية تدفعهم الرغبة في هجرة غير شرعية كتلك التي ما زالت قائمة إلى اليوم على اتساع.
في «التائب» (2012) حكاية شاب كان انضم لمجموعة من الإرهابيين والآن يريد خلاصًا. في النهاية هو في أرض مفتوحة لكل الاحتمالات وحياته لا تزال في خطر ملاحقيه.
«السطوح» (2013) عن شخصيات كثيرة تعيش فوق أسطح المدينة. لا ينزل المخرج عن مواقعه بل يصوّر الشوارع من فوق ويسرد أحداثه التي تشمل شخصيات تتراوح من المتطرفين دينيًا الذين ينشرون بذور الإرهاب، إلى العائلات المسحوقة تحت براثن الوضع مرورًا بعصابات خطرة لا يكشف المخرج الكثير من أسبابها لكنه يكشف ما يكفي من نتائجها.

صوت المؤذن
موقف المخرج من الوضع معروف وله أسبابه بلا ريب. الجزائر اليوم لم تعد جزائر الأمس التي قادت نفسها إلى الاستقلال والتي جسدت أحلام جيل الثورة وما تبعه من أجيال تعلّقت بأمل التغيير، بل هي تلك الجزائر الراضخة تحت أعباء اقتصادية ومعيشية وسياسية زادها التطرّف الإسلامي خطرًا على أبنائها. مرزاق يغرف من الواقع كمن يغرف من الماء إنما من دون أن يتعرض كم الماء إلى النقص.
لكن نظرة المخرج الصارمة إلى ما يستعرضه من أوجاع تبدو في الوقت ذاته كما لو كانت تحتاج إلى بعض الرهافة. في «السطوح» كما في جديده «مدام كوراج» ينضح شريط الصوت بأصوات الأذان. وبينما يطلق المؤذن صوته داعيًا المؤمنين إلى الصلاة يصوّر المخرج الانحلال الأخلاقي والاجتماعي ومواطن البؤس والشقاء وبذور الجريمة ويعرضه. الرابط واضح للجميع وهو أن ما نراه هو أيضًا ما نسمعه. الوجه الآخر للدين. لكن في حين أن هذا التفسير غير صحيح، لأن المبدأ شيء والتطبيق هو شيء آخر، فإن تكرار ما يراه تطابقًا بين شريطي الصوت والصورة يؤدي إلى افتقار الفيلم إلى رهافة الرسالة وعمقها. يتبدّى كدار يصد الناس حتى عن تقدير ما يقصده هو.
«مدام كوراج»، على ذلك، جيّد في كل جزء آخر من حرفته. تمثيل ملهم من بطله وتصوير يذكر، في استعراضه للبيئة المدنية وفي هوسه، باستعراض مارتن سكورسيزي لنيويورك في بعض أفلامه الأولى ومنها «سائق التاكسي» (هنا هو سائق دراجة نارية). الاختلاف لديه منظور سياسي عبثي ينتج عنه ارتكابه جرائم قتل، في حين أن بطل «مدام كوراج» يتناول المخدرات ويبقى مغيّبًا عن الواقع وضحية له.



«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
TT

«العواصف» و«احتفال»

«العواصف» (فيستيڤال سكوب)
«العواصف» (فيستيڤال سكوب)

LES TEMPÊTES

(جيد)

* إخراج: دانيا ريمون-بوغنو

* فرنسا/ بلجيكا (2024)

الفيلم الثاني الذي يتعاطى حكاية موتى- أحياء، في فيلم تدور أحداثه في بلدٍ عربي من بعد «أغورا» للتونسي علاء الدين سليم («شاشة الناقد» في 23-8-2024). مثله هو ليس فيلم رعب، ومثله أيضاً الحالة المرتسمة على الشاشة هي في جانب كبير منها، حالة ميتافيزيقية حيث العائدون إلى الحياة في كِلا الفيلمين يمثّلون فكرةً أكثر ممّا يجسّدون منوالاً أو حدثاً فعلياً.

«العواصف» إنتاج فرنسي- بلجيكي للجزائرية الأصل بوغنو التي قدّمت 3 أفلام قصيرة قبل هذا الفيلم. النقلة إلى الروائي يتميّز بحسُن تشكيلٍ لعناصر الصورة (التأطير، والإضاءة، والحجم، والتصوير نفسه). لكن الفيلم يمرّ على بعض التفاصيل المكوّنة من أسئلة لا يتوقف للإجابة عليها، أبرزها أن بطل الفيلم ناصر (خالد بن عيسى)، يحفر في التراب لدفن مسدسٍ بعد أن أطلق النار على من قتل زوجته قبل 10 سنوات. لاحقاً نُدرك أنه لم يُطلق النار على ذلك الرجل بل تحاشى قتله. إذن، إن لم يقتل ناصر أحداً لماذا يحاول دفن المسدس؟

الفيلم عن الموت. 3 شخصيات تعود للحياة بعد موتها: امرأتان ورجل. لا أحد يعرف الآخر، وربما يوحي الفيلم، أنّ هناك رابعاً متمثّلاً بشخصية ياسين (مهدي رمضاني) شقيق ناصر.

ناصر هو محور الفيلم وكان فقد زوجته «فجر» (كاميليا جردانة)، عندما رفضت اعتلاء حافلة بعدما طلب منها حاجز إرهابي ذلك. منذ ذلك الحين يعيش قسوة الفراق. في ليلة ماطرة تعود «فجر» إليه. لا يصدّق أنها ما زالت حيّة. هذا يؤرقها فتتركه، ومن ثَمّ تعود إليه إذ يُحسن استقبالها هذه المرّة. الآخران امرأة ورجل عجوزان لا قرابة أو معرفة بينهما. بذا الموت الحاصد لأرواح تعود إلى الحياة من دون تفسير. الحالة نفسها تقع في نطاق اللا معقول. الفصل الأخير من الفيلم يقع في عاصفة من التراب الأصفر، اختارته المخرجة ليُلائم تصاعد الأحداث الدرامية بين البشر. تنجح في إدارة الجانبين (تصوير العاصفة ووضعها في قلب الأحداث)، كما في إدارة ممثليها على نحوٍ عام.

ما يؤذي العمل بأسره ناحيةٌ مهمّةٌ وقعت فيها أفلام سابقة. تدور الأحداث في الجزائر، وبين جزائريين، لكن المنوال الغالب للحوار هو فرنسي. النسبة تصل إلى أكثر من 70 في المائة من الحوار بينما، كما أكّد لي صديق من هناك، أن عامّة الناس، فقراء وأغنياء وبين بين، يتحدّثون اللهجة الجزائرية. هذا تبعاً لرغبة تشويق هذا الإنتاج الفرنسي- البلجيكي، لكن ما يؤدي إليه ليس مريحاً أو طبيعياً إذ يحول دون التلقائية، ويثير أسئلة حول غياب التبرير من ناحية، وغياب الواقع من ناحية أخرى.

* عروض مهرجان مراكش.

«احتفال» (كرواتيا إودڤيحوال سنتر)

CELEBRATION

(ممتاز)

* إخراج: برونو أنكوڤيتش

* كرواتيا/ قطر (2024)

«احتفال» فيلم رائع لمخرجه برونو أنكوڤيتش الذي أمضى قرابة 10 سنوات في تحقيق أفلام قصيرة. هذا هو فيلمه الطويل الأول، وهو مأخوذ عن رواية وضعها سنة 2019 دامير كاراكاش، وتدور حول رجل اسمه مِيّو (برنار توميتش)، نَطّلع على تاريخ حياته في 4 فصول. الفصل الأول يقع في خريف 1945، والثاني في صيف 1933، والثالث في شتاء 1926، والرابع في ربيع 1941. كلّ فصل فيها يؤرّخ لمرحلة من حياة بطله مع ممثلٍ مختلف في كل مرّة.

نتعرّف على مِيو في بداية الفيلم يُراقب من فوق هضبة مشرفة على الجيش النظامي، الذي يبحث عنه في قريته. يمضي مِيو يومين فوق الجبل وتحت المطر قبل أن يعود الفيلم به عندما كان لا يزال فتى صغيراً عليه أن يتخلّى عن كلبه بسبب أوامر رسمية. في مشهد لا يمكن نسيانه، يربط كلبه بجذع شجرة في الغابة ويركض بعيداً يلاحقه نباح كلب خائف، هذا قبل أن ينهار مِيو ويبكي. ينتقل الفيلم إلى شتاء 1926. هذه المرّة الحالة المعيشية لا تسمح لوالده بالاختيار، فيحمل جدُّ مِيو فوق ظهره لأعلى الجبل ليتركه ليموت هناك (نحو غير بعيد عمّا ورد في فيلم شوهاي إمامورا «موّال ناراياما» The Ballad of Narayama سنة 1988). وينتهي الفيلم بالانتقال إلى عام 1941 حيث الاحتفال الوارد في العنوان: أهالي القرى يسيرون في استعراضٍ ويرفعون أيديهم أمامهم في تحية للنازية.

«احتفال» معني أكثر بمراحل نمو بطله وعلاقاته مع الآخرين، وسط منطقة ليكا الجبلية الصعبة كما نصّت الرواية. ما يعنيه هو ما يُعانيه مِيو وعائلته وعائلة الفتاة التي يُحب من فقر مدقع. هذا على صعيد الحكاية وشخصياتها، كذلك وَضعُ مِيو وما يمرّ به من أحداث وسط تلك الطبيعة القاسية التي تُشبه قسوة وضعه. ينقل تصوير ألكسندر باڤلوڤيتش تلك الطبيعة وأجواءها الممطرة على نحوٍ فعّال. تمثيلٌ جيدٌ وناضجٌ من مجموعة ممثلين بعضُهم لم يسبق له الوقوف أمام الكاميرا، ومن بينهم كلارا فيوليتش التي تؤدي دور حبيبة مِيو، ولاحقاً، زوجته.

* عروض مهرجان زغرب (كرواتيا).