أسئلة قديمة ـ جديدة تحتاج إلى أجوبة صريحة

عودة إلى كمال داود «مورسو ـ تحقيق مضاد»

أسئلة قديمة ـ جديدة تحتاج إلى أجوبة صريحة
TT

أسئلة قديمة ـ جديدة تحتاج إلى أجوبة صريحة

أسئلة قديمة ـ جديدة تحتاج إلى أجوبة صريحة

كانت رواية الكاتب الجزائري كمال داود «مورسو - تحقيق مضاد» (Meursault - contre enquête) (الحائزة على جائزة غونكور، وعلى جائزتي القارات الخمس، وفرنسوا مورياك) قد أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الشعبية والأدبية الجزائرية والفرنسية على حد سواء، بآراء على طرفي نقيض، منها ما وصف الرواية برائعة الأدب الفرانكفوني، ومنها من وجد أن الكاتب يتخطى المحرمات (التابوهات) بانتقاده اللغة العربية (لغة مفخخة بالمقدس كما يقول)، ويشكك بالهوية الجزائرية في بعدها العربي الإسلامي، ويدعو للهوية الجزائرية فقط (بلغة الجزائر العامية)، وينتقد الإسلام كدين مهيمن. حتى أن أحد الجزائريين (ممثل «جبهة الصحوة السلفية الجزائرية» عبد الفتاح زراوي حمداش قد طالب بمحاكمته وتطبيق الحد فيه «كمرتد»). ومهما يكن من أمر آراء الكاتب التي سبقه إليها أكثر من أديب (سعيد عقل في لبنان، وكاتب ياسين، ورشيد بوجدرة في الجزائر) فإنها لم تقدم أو تؤخر شيئا، وبقيت كسابقاتها كطروحات لا تجد من يروجها أو يجعل منها تيارا جارفا قادرا على تغيير المفاهيم، والثوابت الثقافية والمعتقدات الدينية. فالتاريخ العربي الإسلامي مليء بهؤلاء الذين حاولوا التشويه، وانتقاد اللغة العربية التي مرت في فترة من فتراتها بمرحلة انحطاط، لكنها سرعان ما عادت إلى تألقها وإثبات وجودها.
حتى إن البعض تساءل حينها كيف يمكن أن يفوز هذا الكاتب بجائزة غونكور منذ روايته الأولى؟ هل لأن الأوساط الأدبية الفرنسية طربت لسماع انتقادات الكاتب وحاولت مكافأته؟ انتقادات لاذعة للجنة التحكيمية على غرار الانتقادات التي وجهت للجنة جائزة البوكر التي وجد البعض أن هذه اللجان تتبع أجندة سياسية قبل أن تكون أدبية.
لكن ما هو مهم في هذا المقام هو العمل الأدبي (الذي أثنى عليه الكثير من الكتاب العرب، وغير العرب) والوقوف على موضوعه الذي رأى أكثر من ناقد أن فكرته كانت فكرة مبدعة، وأن تناولها كان بمثابة رد قوي وحاسم على الكاتب الفرنسي صاحب جائزة نوبل للآداب كامو. فالكاتب حاول أن يرد على منطق عبثية كامو، بمنطق الواقع وتسمية الأشياء بتسمياتها. فعنوان الرواية (مورسو: تحقيق مضاد) يعكس المحتوى الذي شاء الكاتب أن يقدم من خلاله وجهة نظره، في قالب أدبي، من أديب فرنسي (ولد في الجزائر) وكتب روايته التي تتجاهل هوية الجزائري القتيل من قبل بطل الرواية مورسو ولم يذكر له اسم وبقي تحت اسم «العربي». (وهذا النوع من الأدب سبقه إليه كثير من الأدباء والفلاسفة العرب، على سبيل المثال لا الحصر، كابن رشد الذي رد على كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة» بكتاب «تهافت التهافت»، أو أمير الشعراء أحمد شوقي الذي رد على قصيدة البوصيري البردة بقصيدته الشهيرة نهج البردة التي أبدعت أم كلثوم بغنائها). من حيث القيمة الأدبية لا شك أن الرواية كتبت بأسلوب متميز، وبلغة فرنسية جيدة، وتستحق أن ينظر إليها كعمل أدبي مرموق (وإن كانت الرواية الأولى للكاتب) لكنه لم يكن الأول في تناول مسألة «الكولونيالية» المتعالية التي تنظر إلى العربي بدونية، واحتقار، إذ سبقه إليها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في كتابه «الثقافة والإمبريالية» التي تناول فيها بكثير من التفصيل أعمال ألبير كامو (الغريب، والطاعون، والسقطة).
في رواية كامو، التي تعود إلى صيف 1942، يطلق مورسو الرصاص على شاب جزائري على شاطئ غير بعيد عن العاصمة. وانسجاما مع فلسفته العبثية، جعل كامو مورسو لا يهتم كثيرا بخبر وفاة أمه، ولا يبكي عليها يوم دفنها، «أمي ماتت اليوم أو ربما البارحة». ويقتل الشاب الجزائري دون أسباب واضحة، ويرجع ذلك إلى وهج الشمس في عينيه. ولم يعطه اسما، أو عنوانا، أو ينسبه إلى عائلة، إنه عربي من هؤلاء العرب الذين لا تساوي حياتهم بعوضة. فما يحسب لكمال داود هو أنه عاد إلى أجواء هذه الرواية ليوقف كامو على قدميه، (كما أوقف ماركس هيغل على قدميه بعد أن كان يقف على رأسه)، ويعيد صياغة الرواية بإعطاء القتيل هوية واسما وعائلة وعنوانا. عملية نبش لملف هذه الجريمة، وإعادة المحاكمة من جديد. بات اسم القتيل «موسى»، وخلق شخصية جديدة هي شخصية الأخ «هارون»، الذي ولد في قرية حجوط وهي المدينة التي عاشت فيها والدة مورسو بطل رواية كامو، والذي سيقوم بعملية الدفاع عن أخيه القتيل والمغيب الهوية مدفوعا من والدته بعملية «تحقيق مضاد» (لم يكن عفويا اختيار اسمين بخلفية توراتية إشارة للنبي موسى وأخيه هارون). في هذه القرية تجد الأم عملا كخادمة بعد وفاة الأب، وتسكن مع ابنها هارون الذي يلقب نفسه دائما بـ«ولد العساس» أي ابن الحارس، في كوخ صغير تابع لمبنى جميل لأحد المستوطنين الفرنسيين. ولكن بعد إعلان الاستقلال يحتل هارون وأمه المنزل بعد هروب المستوطنين من الجزائر، وبعد عشرين سنة على مقتل أخيه، وتحت وطأة الحر وإلحاح والدته للانتقام، ومفعول الكحول يقوم هارون بالانتقام لأخيه بقتله فرنسيا «جوزيف لاركيه» الذي كان هاربا ومختبئا في زاوية الدار، في اليوم الثاني لإعلان الاستقلال في الجزائر في عام 1962. لكن بعد إلقاء القبض عليه، لم يكن بالحسبان أن تاريخ عملية القتل «الانتقام» جاء بعد يوم واحد من اتفاق وقف إطلاق النار بين جبهة تحرير الجزائر والسلطات الفرنسية، وانتصار الثورة وإعلان الاستقلال «لقد تمت العملية في الوقت غير المناسب» فلو أنه تمت قبل يوم واحد لاعتبر هارون بطلا من أبطال المقاومة، أما اليوم فهو قاتل ومرتكب لجريمة يحاكم عليها، وهنا عبثية أخرى تقابل عبثية كامو. وفي المحاكمة أمام ضابط من جبهة التحرير يسأل: «لماذا لم يحمل السلاح ويلتحق بجبهة التحرير لطرد المستعمر الفرنسي» ولكن في نهاية الأمر يتم الإفراج عنه، وتدخل مريم في حياته صدفة عندما جاءت كباحثة عن معلومات توصلها لحقيقة رواية «الغريب لكامو» فتتعرف على هارون وتقع في حبه وتعلمه اللغة الفرنسية ويستطيع أن يقرأ الرواية بفضلها. ثم تدخل الجزائر في حرب أهلية بين أبنائها ويصبح هارون غريبا في بلاده.
عبر فصول هذه الرواية يستغل الكاتب الأسلوب الصحافي - التحقيقي (وهو صحافي يعمل في صحيفة جزائرية ناطقة باللغة الفرنسية) لطرح أسئلة تفتح جراح العلاقات الفرنسية الجزائرية، وأسئلة متعددة تخص هوية الجزائر (هل هي عربية، أمازيغية، إباضية.. وبحسب الكاتب فإن فرنسا في عام 1832 جاءت لتحرر الجزائر من الاستعمار العربي). ويذكر هنا أن نابليون عندما غزا مصر كان يقول إنه جاء لتحرير المصريين من المماليك، وعندما غزا الجيش الفرنسي سوريا بقيادة الجنرال غورو قال إنهم جاءوا لتحرير بلاد الشام من العثمانيين، ولم يتوان أن يضع قدمه على قبر صلاح الدين الأيوبي في المسجد الأموي ويقول «ها قد عدنا يا صلاح الدين» تذكيرا بالحروب الصليبية بعد نحو ثمانية قرون. وبعيدا عن الجدل القائم حول طروحات الكاتب التي استفزت الكثير من المثقفين الجزائريين والعرب، فإن الرواية بجرأة كاتبها تلقي حجرا كبيرا في المياه العربية الراكدة، وتدفع الكثير إلى معالجة مشكلة من المشكلات التي يعاني منها العالم العربي ككل وهي مشكلة الهوية، والمواطنة، والعلاقة مع المستعمر السابق وإعادة تقييم فترة كانت من أحلك الفترات في تاريخ الجزائر. أما اليوم فيبدو أن الحالة القاتمة التي دخلت فيها أكثر من دولة عربية دفعت الكثير من الشباب إلى إعادة تقييمهم لتلك الفترات التاريخية (ألم ينادِ الجزائريون الرئيس الفرنسي جاك شيراك عند زيارته للجزائر بتسهيل الحصول على تأشيرات دخول إلى فرنسا «المستعمر السابق»، ألم يتوافد اليوم الآلاف من المهاجرين السوريين والعراقيين وسواهم على دول أوروبية كانت بالأمس تعد من الدول المستعمرة ويريدون الاندماج بمجتمعاتها بعد أن هربوا من أوطانهم تحت وطأة جرائم الأنظمة التي نصبت نفسها كثورية تقدمية تحررية؟ سؤال ملح يطرح بحدة ويحتاج لأجوبة صريحة وجريئة.كمال داود



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!