مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

أضواء على مواطن التقصير وأفكار حول العلاج المطلوب

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي
TT

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

مشكلة المنهج والجُزُر المنعزلة.. فوضى مكافحة التطرف الإرهابي

يجب الإقرار ابتداءً بأن ثمة مشكلاً عميقًا في أحادية المنهج في التعامل مع فكر التطرّف والحركات العنيفة، فمع تواتر وتكاثر أطروحات بحث التطرف والتعرف عليه، تنظيريا وتنظيميا، تعددت المداخل التفسيرية والتحليلية من دون رابط أو تكامل مطلوب في ما بينها، على العكس من مكافحتها - أمنيا وعسكريا - التي تعتمد تبادل المعلومات والتواصل في أساليب الرقابة والملاحقة والمواجهة. بينما يبدو الشتات وغياب الاستراتيجيات واضحين في مواجهة الخطاب والأفكار والممارسة الخطابية، التي هي الأصل والمرض، بينما الممارسة هي الفرع والعرض.
وتبدو عشرات المراكز والمؤسسات العاملة في المكافحة الفكرية للتطرّف جزرا منعزلة، يتناثرها الشتات، فتتكرّر مخرجاتها حينًا وتنقطع جهودها حينًا آخر، ولا تتكامل جهودها أحيانًا وتؤتي ثمارها أحيانًا أخرى. وهنا تحضر أزمة «حرب الأفكار» المركزية في مجابهة التطرّف، والتي لا بد أن تسبق وتلحق الحرب على التنظيمات، كون الإرهاب فكرة واعتقادا في الأصل، تولّدت من مخاض فكرته التنظيمات، كما ولد من «فتوى التتار» - «تنظيم الجهاد المصري» وعملية اغتيال الرئيس السادات عام 1981 أو «حاكمية الخلافة» التي ولدت منها تنظيمات مختلفة كان آخرها تنظيم «داعش» تطورا عن فرع «القاعدة» في العراق. كما يمارس من خلال الأفكار التجنيد والتبرير ومناظرة التبرير والتفسير والمفاصلة والتكفير.

ثبت مع خبرة العقدين الأخيرين على صعيد التعاطي مع التنظيمات الإرهابية أن الأفكار هي الخطر الحقيقي عليها. هكذا ثار «القاعديون» وغيرهم من المتشدّدين ضد المراجعات التصحيحية لرفقائهم وشيوخهم السابقين التي أحرجتهم. وهكذا، تصدّت «القاعدة» من دون أن تستطيع الرد على «مؤتمر ماردين» عام 2010 الذي أثبت القائمون عليه أن أساس «فتوى التتار» ونصها الذي يعتمدون عليه خطأ، بينما لم تؤت الضربات الأمنية لهذه التنظيمات العنقودية النجاعة دائمًا بالشكل نفسه.
وتثبت جوهرية المداخل النظرية في مكافحة التطرّف والإرهاب، كذلك، إذا راجعنا التقييمات الغربية لضربات التحالف الدولي ضد «داعش» في ذكراها السنوية الأولى يوم 8 أغسطس (آب) الماضي، بعد سنة من تصريح الرئيس الأميركي باراك أوباما ببدء ضربات التحالف الدولي ضد التنظيم الذي يسيطر على مناطق واسعة من العراق وسوريا، وهو ما اعتبره المراقبون تحولا وعودة لـ«الحرب على الإرهاب»، بديلا عن «الحرب على القاعدة» التي كان أوباما قد رفعها شعارًا له في حملته الانتخابية عام 2008.
لقد تجاوزت تكلفة ضربات التحالف ثلاثة مليارات دولار، بمجموع 6 آلاف ضربة جوية. ورغم تصريح المتحدث باسم البيت الأبيض جون إرنست في الثامن من أغسطس الماضي بأن التحالف حقق تقدمًا على عدد من المحاور، وأن ضرباته أفقدت التنظيم المتطرف الحركة في 30 في المائة من الأراضي التي سيطر عليها في الصيف الماضي، فإن انتقادات عديدة وتقييمات سلبية مختلفة وجهت لأداء التحالف، وكان أبرزها ما نشره معهد دراسات الحرب في 13 أغسطس لخرائط تطوّر التنظيم منذ سقوط مدينة الموصل بيده حتى أغسطس 2015. إذ كشفت هذه الانتقادات والتقييمات نجاح التنظيم المتطرّف في توجيه خلاياه وعناصره لاستهداف مائة دولة في ثلاث قارات، واستمرار احتفاظه بالموصل وأغلب المناطق التي سيطر عليها داخل العراق خلال يونيو (حزيران) 2014، وأن خارطة نفوذه كانت استراتيجية وضعها التنظيم قبل تاريخ سقوط الموصل بعشرة شهور، تحديدا في سبتمبر (أيلول) 2013، ويُظن أنها أسبق من ذلك، فقد نشر استراتيجية جديدة اعتمدها وطبقها أوائل عام 2010 تنص على فكرة «الخلافة والدولة» والسعي إليها من قياداته الجديدة.
ويجمع الفاعلون السياسيون في المنطقة والعالم اليوم على تقدّم خطر الإرهاب على سواه من الأخطار المحدقة بهذا العالم، وتتشارك أغلب الدول والأجهزة الأمنية والاستخباراتية والمنظمات الدولية والإقليمية، بالفعل، في تبادل المعلومات والتنسيق لاستباق ضرباته واتقاء عملياته والقضاء على قياداته وخلاياه. ومع استثناءات قليلة، فإن الجهد الفكري في تجفيف المنابع ما زال محدودًا، وحرب الأفكار ما زالت غير مؤتية ثمارها، عربيًا ودوليًا في آن معًا.

* جهود مشتّتة وفقدان التشبيك المعرفي

تبدو واضحة أهمية التشبيك بين جهود المؤسسات المختلفة، ووضع استراتيجيات متكاملة لتحقيق الهدف المشترك في مكافحة التطرّف وتجفيف منابعه، تجنّبًا للتكرار والتعارض وتعميقًا للهدف والنتائج المشتركة.
فعربيًا، هناك ما لا يقل عن خمسين مركزًا ومؤسسة بحثية تنحصر جهودها في دراسة قضايا الإرهاب والتطرّف، وتتنوع هياكلها وارتباطاتها، بين الحكومي وغير الحكومي. وبين استحداث برامج لرصد التطرف الإرهابي ونقد مقولاته ملتحقة بالمؤسسات الرسمية شأن المؤسسات الدينية والحكومية والأمنية الأخرى، واستحداث برامج لدراساته مرتبطة بالجامعات والمؤسسات الأكاديمية. كما نشطت في دراسته مؤسّسات خاصة ومنظمات للمجتمع المدني والأهلي كذلك. ولكن كل هذه المؤسّسات تبدو وكأنها تعمل في جزر منعزلة كل منها عن الأخرى، من دون تكامل أو تنسيق أو انتباه.
كذلك تبدو مشكلة المنهج واضحة وجلية لدى القائمين على هذه المؤسسات، مع توزّع اهتمامات كل منها وأولوياتها حسب تخصّصه ومجالات اهتمامه. وهو ما يتزامن مع زيادة ملحوظة في عدد المراكز البحثية في العالم العربي والعالم بشكل عام، حسب دليل المراكز البحثية في العالم الصادر عن برنامج العلاقات الدولية في جامعة بنسلفانيا (TTCSP)، في عدده الصادر في مارس (آذار) من هذا العام، عن العام الماضي 2014، والذي امتد رصده حتى يناير (كانون الثاني) من العام نفسه. لقد كان عدد المراكز البحثية في العالم العربي المسجّلة في الدليل 521 مركزا، من بين مجمل 6681 مركزا للتفكير السياسي حول العالم، تضم أميركا الشمالية (الولايات المتحدة وكندا والمكسيك) 1989 مركزا منها، أي ما يقرب من 60 في المائة منها، ولكن لا شك أن الطفرة واضحة في أعداد مراكز الدراسات العربية، التي ارتفعت من 287 عام 2011 من مجموع عالمي (1645) إلى 339 عام 2012 (من مجموع عالمي 6603) إلى 511 عام 2013 من مجموع عالمي 6826 مركزا حول العالم، وشكل الإرهاب والتطرف ملمحًا مهمًا ومؤثرًا في تكويناتها كذلك.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 جمع بنيامين فريدمان، الباحث والخبير في شؤون الإرهاب، قائمة غير كاملة - حسب قوله - تضم 100 مركز دراسات وبرنامج بحثي في جامعات غربية وآسيوية تخصصت، حصرا، في دراسة الإرهاب، وهو العدد الذي يُعتقد أنه قد ارتفع كثيرًا خلال السنوات الأربع الأخيرة.

* التكرار وضياع الفرص

وكنموذج للتكرار في التركيز على متابعة المواقع التواصلية، رغم الجهد الدولي الناجع الذي أرهق «داعش» وأوقف الكثير من حساباته على موقع «تويتر» مثلا، نلاحظ غياب التنسيق بل غياب التعرف بين المحاولات الجديدة في هذا الاتجاه مع المحاولات السابقة كجهد «حملة السكينة لتعزيز الوسطية»، التي بدأها شباب وفقهاء سعوديون لنقد جماعات التطرّف الإرهابي وتتبع خطاباتهم منذ عام 2003، عام بزوغ أول فرع لـ«القاعدة» خارج أفغانستان في أرض الحرمين الشريفين.
كذلك لم يحسن الكثير من المؤسسات الفكرية المعنية البناء على جهود الآخرين في هذا الاتجاه، فلم يتحقق الترويج الكافي لخطأ فتوى «مؤتمر ماردين» التي تعتمدها الجماعات المتطرفة منذ بدايتها مصريًا مع «تنظيم الجهاد» المصري عام 1979 واعتماد منظّره محمد عبد السلام فرج لها في تكفير الحكومة المصرية و«تقديم العدو القريب على العدو البعيد» في هذا الحين!.. رغم خطأ نقله وعوار فهمه لها. أيضًا، ضيعت المؤسسات الفكرية فرص المراجعات بشكل واضح، التي قدمتها الجماعات المتطرفة المختلفة لأفكارها السابقة، ولم يتم الاستثمار الواجب فيها جدلاً وتنشيطًا وتحصينًا للأجيال الجديدة ضدها.
ويُظَن أن الأهم هو عدم الاستثمار في خلافات الجماعات المتطرفة الثائرة الآن بين تنظيم داعش من جهة، وسائر الجماعات المتطرفة الأخرى، بل وما تشهده من احتراب وقتل متبادل في سوريا وليبيا والعراق.
نعم، ما زال الكثير من جهود مكافحة التطرف الإرهابي يتعاطى مع هذه الأحداث تعاطيًا ترفيًا وفلسفيًا متعاليًا لا يصب حقيقة في منعها وصدها، بل يبرر للتطرف أحيانًا حين يصطدم بعض منتسبي هذه المؤسسات بالمقدس ويتهمونه خطأ، وهو ما توظفه هذه الجماعات المتطرفة والإرهابية لصالحها في ما بعد.
فضلا عما سبق، لا بد من تكامل المناهج في نقد التطرف والإرهاب كتنظيمات وأفكار شمولية عبر مواجهة شمولية معه، لا تكتفي بالبعد الواحد بل تتكامل في استراتيجية مكافحته الأبعاد. إن التنظيمات الشمولية لا تتضمن بعدًا واحدًا، فهي تتضمن أبعادًا دينية وفقهية تستدعي المواجهة الدينية والتراثية، كما تتضمن أبعادًا سياسية وعسكرية تستدعي المواجهة الأمنية والعسكرية كذلك، وتتضمن من جهة ثالثة أبعادا فردية تستدعي اعتماد مناهج علوم الاجتماع وعلوم النفس، كما تستثمر في أزمات وسياقات خاصة لا بد من معالجتها في سياقاتها الخاصة كذلك.
لهذا من الضروري تكامل جهود المؤسسات ذات الاهتمام الفقهي والمقاصدي والمذهبي مع المؤسسات ذات الاهتمام التنظيمي والتنظيمي، مع الاستفادة من جهود المتخصصين في علوم النفس والاجتماع، وتأسيس شبكة بحثية عربية وإسلامية وعالمية في هذا الصدد تجتمع بشكل دوري لإخراج التوصيات اللازمة لدوائر صناعة القرار والمؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية المختلفة.
إن عيبًا ماثلاً وواضحًا في فردية أو انعزالية العديد من الجهود العاملة في هذا المجال، إذ يعتبرها البعض قضية نخبوية فردية، أو يعتبرها البعض الآخر خاصة بجمهور خاص أو قطر معين أو مدخل محدد دون باقي المداخل. وهذا ما يعكس استراتيجية فوضوية في وجه تنظيمات منظمة ونشطة ومتفانية في نشر أفكارها التي تنطلي على العوام والمغرر بهم سواء من حدثاء السن أو من المتحولين الجدد للإسلام أو المتدينين المتعاطفين من دون فقه عميق لرد هذه الشبهات التي تديرها ماكينة التطرف ومصانع أفكارها.
وفي المقابل، يجد جهد مكافحة الإرهاب الدعم والرعاية، إذ استنفر مؤسسات كبيرة للاهتمام بقضاياه ومقولاته، في مقدمتها مؤسسة الأزهر التي يقوم مرصدها الذي نشط خلال العام الحالي برصد ممارسات الإرهاب ونقدها وإدانتها، وكذلك سائر المؤسسات الدينية، التي نشط أعضاؤها وقياداتها، بدرجة ما. إلا أنه رغم تعدد الهيئات والمؤسسات الفكرية والنظرية العاملة في مكافحة الإرهاب في المنطقة العربية، يلاحظ غياب التنسيق في ما بينها، وغياب استراتيجية موحدة أو متكاملة في هذه المكافحة والمدافعة وتنسيق الجهود بين أطرافها.
يبدو الإرهاب صيادًا ماهرًا يصطاد ما يناسبه ويوظفه لصالحه، ويقتطف النصوص والمرجعيات لصالحه، كما يستثمر الأزمات النفسية والاجتماعية والدينية والسياسية حواضن لتجنيده ودعايته ويجتذب كل من افتقر لجانب من هذه الجوانب، عبر ماكينته دعائية وآيديولوجية منظمة يديرها متطوعون يرون عملهم فيها جهادًا وفرضًا ونجاة لهم في تحقيق مدينتهم الفاضلة.
هذا الواقع المؤسف والخطر يستوجب شمول الجهد وتكامله في مكافحة الإرهاب، ويستوجب كذلك تحصينًا ووقاية وردًا وهجومًا على ماكينته النشطة التي لا تنحبس في بُعد واحد أو جهد فردي.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.