مدينة بيبلوس اللبنانية السياحية.. جوائز في الأدب والفن

بعد أن صدرت الحرف وفازت بلقب «ثاني أقدم مدينة في العالم»

من معالم بيبلوس  -   يمنح الفائز منحوتة للفنان أناشار بصبوص إضافة إلى المبلغ المالي- الموقع الإلكتروني للجائزة
من معالم بيبلوس - يمنح الفائز منحوتة للفنان أناشار بصبوص إضافة إلى المبلغ المالي- الموقع الإلكتروني للجائزة
TT

مدينة بيبلوس اللبنانية السياحية.. جوائز في الأدب والفن

من معالم بيبلوس  -   يمنح الفائز منحوتة للفنان أناشار بصبوص إضافة إلى المبلغ المالي- الموقع الإلكتروني للجائزة
من معالم بيبلوس - يمنح الفائز منحوتة للفنان أناشار بصبوص إضافة إلى المبلغ المالي- الموقع الإلكتروني للجائزة

الجوائز الثقافية تأخذ منحى آخر، قد تصبح نوعًا من التشجيع السياحي، أو الدعائي لمدينة، وربما الوسيلة للتعريف بمنطقة، وليست بالضرورة تعزيزًا للنوع الأدبي أو الفني الذي تكافئه. الجوائز التي أطلقتها جبيل بعد انتخابها عاصمة السياحة العربية لعام 2016 لافتة. مدينة ساحلية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها 60 ألفًا، لكنها تنهض بسرعة قياسية، حيث تحولت بفضل بلديتها الناشطة إلى قبلة للسياحة الداخلية في لبنان وللزوار الأجانب. استفيد من تاريخها الذي يعود إلى ستة آلاف سنة قبل الميلاد، وآثارها المتبقية، ومينائها الجميل، وأسواقها القديمة بمعروضاتها التراثية وأشغالها اليدوية، وكذلك مهرجاناتها الفنية المتميزة، لتتجاوز أهميتها مساحتها الجغرافية بأشواط.
لم يستغرب رواد «مهرجانات بيبلوس الدولية» هذه السنة، وجود شبان ينتظرونهم بعد انتهاء الحفلات، ليوزعوا عليهم منشورًا كرتونيًا أنيقًا، تعلن البلدية من خلاله عن إطلاق خمس جوائز، أكثرها إثارة للاهتمام هي «جائزة مدينة بيبلوس للآداب»، والمخصصة للبناني كتب رواية أو عملا شعريًا أو مسرحيًا باللغة العربية أو إحدى اللغات الأجنبية، حيث يفوز مع الجائزة الرمزية التي هي منحوتة للفنان أناشار بصبوص، بمبلغ من المال بالليرة اللبنانية، لم يتم تحديده بعد.
وحين نسأل جيرار ياغي المنسق العام للجائزة التي ستكافئ خمسة فروع مختلفة، عن سبب عدم تحديد المبلغ لغاية اللحظة لمختلف فروع الجائزة، وكذلك آخر موعد لقبول الترشيحات، وتفاصيل أخرى. يجيب ياغي: «هذه جائزة جديدة، مختلفة تمامًا عن كل ما كانت قد أطلقته مدينة جبيل من جوائز قبل ذلك. وكثير من الأمور لا تزال قيد الأخذ والرد، ونحن منفتحون على كل الملاحظات والاقتراحات». والجائزة أصلاً - التي رغم كل ما وزع من إعلانات لا تزال بحاجة للترويج - هي فكرة كان قد اقترحها الكاتب الفرنكوفوني ألكسندر نجار، وود لو تطبق في أي مكان في لبنان، وحين عرضت على بلدية جبيل احتضنتها، وسعت لجعلها جزءًا من مشروعها لاستنهاض المدينة.
خمسة فروع للجائزة، لكل منها دلالتها والفائدة المبتغاة منها ولجنتها التحكيمية الخاصة بها، التي تضم منسقا ومتخصصين في المجال. فإذا كانت الجائزة الأدبية غالبًا ما تثير حولها الكثير من الغبار، وترافقها الحملات الإعلامية، مما يساعد على ترداد اسم جبيل في الإعلام، فإن «جائزة مدينة بيبلوس لأفضل عمل حول الحضارة الفينيقية» تمنح لأفضل بحث حول الموضوع. وهنا يقول ياغي: «نحن نشجع اليوم هذا النوع من الأبحاث، لأنها أعمال ثقافية بمقدورها أن تلقي الضوء على أهمية المدينة ومكانتها التاريخية عبر العصور، وما تستبطنه أرضها من آثار، مما يعزز مكانتها السياحية على الخارطة الوطنية والعالمية».
الفرع الثالث هو «جائزة بيبلوس لأفضل عمل فني حول تراث المدينة»، وهي تصب في نفس الاتجاه، مما سيشجع الإبداع المستوحى من مسار المدينة الطويل الذي يمتد إلى آلاف السنين. فرع آخر هو «جائزة مدينة بيبلوس لأفضل نشاط ثقافي ضمن نطاق مدينة جبيل» وهي تمنح لمؤسسة أو هيئة مدنية أو مدرسة في المدينة قامت بنشاطات ثقافية وازنة في تأثيرها. أما الفرع الخامس والأخير فهو «جائزة مدينة بيبلوس للموسيقى» ولها لجنة تحكيمية تتشكل من ثلاثة موسيقيين بارزين هم: مارسيل خليفة، وخالد مزنر وهاروت فازليان.
أما جائزة مدينة بيبلوس للآداب، فلها لجنة من ثمانية أشخاص، بينهم الروائيان حسن داود وشريف مجدلاني، وكذلك تشمل جيرار بجاني وكارلوس شاهين، وعدد من الأجانب بينهم المسؤولة عن ملحق الكتب في جريدة «لوموند» جوزيان سافينو، ومانويل دوران إلى جانب شارلز دانتزغ.
هذه ليست الجوائز الأولى التي تطلقها المدينة، لكنها هذه المرة تأتي ضمن سياق سياحي، وفي خضم فورة تحاول البلدية أن تجعل منها وكأنها جزيرة بعيدة عن كل الصخب السياسي والأمني الدائرين في المنطقة.
المنسق العام للجائزة، جيرار ياغي يهتبر يرى أنه «من الأفضل للشباب أن يهتموا بأمور ثقافية وفنية أو أدبية، على أن يقضوا وقتهم بما يمكن أن يعود على حياتهم بالسلبية. نحن نحاول أن نعزز الإيجابيات في حياة الناس، ولا سيما المبدعون والشبان منهم، وهذه هي إحدى الطرق». ولا يستبعد ياغي أيضًا أن تتم الاستفادة من الأعمال الفائزة، لتقدم في حال توافرت لها المواصفات، ضمن مهرجانات بيبلوس، خاصة العمل الذي يفوز عن فئة الموسيقى.
كل الخيارات مفتوحة أمام جبيل، كبلدة صغيرة، تحولت إلى بقعة نموذجية في المنطقة، فقد حصدت المدينة جوائز عدّة في السنوات الأخيرة منها جائزة التفاحة الذهبية وجائزة أفضل مدينة سياحية عربية لعام 2013. كما حصلت على لقب ثاني أقدم مدينة في العالم، وتوجت شجرة الميلاد فيها على رأس السنة الحالية، كواحدة من بين أجمل أشجار الميلاد في العالم، مما جعلها قبلة لكل اللبنانيين والسياح القادمين إلى البلاد.
جبيل، مدينة الأبجدية، التي منها خرج الحرف، تعتبر اليوم من أقدم المدن المسكونة في العالم. فيها آثار فينيقية وبيزنطية وإسلامية، يقال إن من شجرها بني أسطول معاوية بن أبي سفيان البحري، وليس في مصر. كانت منذ الألف السادس قبل الميلاد مرفأ للصيد لكنها ارتفعت إلى مصاف المدن الهامة أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. تنام اليوم على كم كبير من الآثار، وقد اكتشف فيها مؤخرًا، قريبا من السرايا، وفي باطن الأرض، موزاييك بيزنطي بطول 17 مترًا، أعيد طمره بسبب صعوبة نقله من المكان. فهذه المدينة التي تتوسل كل سبيل، لتبرز على الخريطة السياحية والتجارية، وصلت اليوم إلى إعلان جوائزها والأدب جزء من طموحها. فإلى من ستذهب جوائز بيبلوس؟ وكيف بمقدورها أن تنافس جوائز من وزن كتارا وبوكر، فلربما أن السؤال غير مطروح أصلا، لأن لكل جائزة تطلعاتها ومراميها التي قد تختلف جذريًا عن غيرها، طالما أن الأدب بحد ذاته قد لا يكون مقصودًا.
موقع الجائزة الإلكتروني:
www.prixdelavilledebyblos.org



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟