قيادات إخوانية {منشقة} تعد بمفاجأة في مصر مع {متمردي} شباب الإخوان

حالة سخط داخلية.. ونصف أعضاء الجماعة يرفضون دخول الانتخابات الرئاسية وبقوا في بيوتهم بعد سقوط مرسي

مصري يطالب بإعدام قادة الإخوان أمام أكاديمية الشرطة بالقاهرة مقر جلسات محاكمة مرسي

د. كمال الهلباوي

حسين عبد الرحمن

د. إبراهيم الزعفراني

أحمد بان
مصري يطالب بإعدام قادة الإخوان أمام أكاديمية الشرطة بالقاهرة مقر جلسات محاكمة مرسي د. كمال الهلباوي حسين عبد الرحمن د. إبراهيم الزعفراني أحمد بان
TT

قيادات إخوانية {منشقة} تعد بمفاجأة في مصر مع {متمردي} شباب الإخوان

مصري يطالب بإعدام قادة الإخوان أمام أكاديمية الشرطة بالقاهرة مقر جلسات محاكمة مرسي

د. كمال الهلباوي

حسين عبد الرحمن

د. إبراهيم الزعفراني

أحمد بان
مصري يطالب بإعدام قادة الإخوان أمام أكاديمية الشرطة بالقاهرة مقر جلسات محاكمة مرسي د. كمال الهلباوي حسين عبد الرحمن د. إبراهيم الزعفراني أحمد بان

كشفت قيادات إخوانية سابقة في تنظيم الإخوان المسلمين عن وجود تحركات جدية داخل صفوف جماعة الإخوان للتمرد والخروج على أوامر السمع والطاعة لقيادات الجماعة وهو ما تمثل في حدوث تصدعات جديدة وانشقاقات جماعية في صورة أحزاب وحركات أعلنت عن نفسها مؤخرا، منها حركة إخوان بلا عنف التي تكونت عقب أحداث 30 يونيو وحزب التيار المصري تحت التأسيس الذي شكله مجموعة من شباب الإخوان الذين خرجوا خروجا كاملا عن الجماعة وقياداتها.
وعلى الرغم من أنها ليست الحالة الأولى للانشقاق على الجماعة وقياداتها حيث سبقتها محاولات من أبو العلا ماضي وعبد المنعم أبو الفتوح اللذين انشقا على الجماعة بشكل درامي وكونا حزبي الوسط ومصر القوية على الترتيب، على الرغم مما سبق فإن ما كشفته قيادات إخوانية لـ«الشرق الأوسط» من حالة تململ وإحباط وغضب داخل الجماعة يؤكد ما يتردد في الكواليس عن وجود تمرد في صفوف الإخوان سيما في الأوساط الشبابية التي سادت بينها الرغبة في الاستقلالية عن الجماعة والتمرد على أفكارها وهو ما يعتبره المراقبون هدما لمبدأ السمع والطاعة الذي قامت الجماعة على أساسه وضمن لها البقاء طوال الفترة الماضية، الأمر الذي يثير سؤالا ملحا حول ما تمثله تلك التحركات الداخلية للإخوان المتمردين من تهديد للجماعة الأم سيما في ظل تأكيد القيادي الإخواني الدكتور كمال الهلباوي لـ«الشرق الأوسط» عن وجود مفاجأة كبرى يعد لها مع شباب الإخوان والمنشقين على الجماعة.

تشهد جماعة الإخوان المسلمين، التي حظرت أخيرا وتصنيفها ضمن الجماعات الإرهابية، حالات تصدع وانشقاقات داخلية بعضها انشقاقات هادئة أو صامتة آثرت الانزواء والبعد عن الأضواء بينما أعلن البعض الآخر تمرده صراحة على الجماعة وخروجه خروجا كاملا على تعاليمها وتشكيل كيانات سياسية بديلة.
«أنصار محمد» كانت الخروج الجماعي الكبير الأول على جماعة الإخوان المسلمين في عهد الشيخ حسن البنا وكان ذلك عام 1939 عندما قرر محمد عطية خميس الانشقاق مع مجموعة من الرافضين لأوامر حسن البنا وفضوا بيعتهم له وكان من بينهم الشيخ حافظ سلامة قائد المقاومة الشعبية آنذاك. لتتوالى بعد ذلك الانشقاقات في فترتي الخمسينات والستينات من قبل رموز الإخوان، وكان من أبرزهم الشيخ حسن الباقوري وزير الأوقاف الأسبق ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، الذي كان أخطر انفصال لأحد كوادر الجماعة عندما فصل بقرار فردي من المرشد حسن الهضيبي بسبب قبوله وزارة الأوقاف وهو الانشقاق الذي صاحبه خروج عدد كبير من القيادات منهم الشيخ محمد الغزالي والدكتور عبد العزيز كامل، والشيخ عبد المعز عبد الستار. ثم جاءت مرحلة انشقاق أبو العلا ماضي في نهاية الثمانينات من القرن الماضي وقيامه بتشكيل حزب الوسط مع كوادر إخوانية منشقة أعقبه واقعة الخروج الشهير للقيادي ثروت الخرباوي عام 2002 عن الجماعة وكشفه بعض أسرارها التي دعته للانشقاق عليها والتي تواكبت مع قرار تجميد عضوية القيادي مختار نوح المحامي بالجماعة قبل أن يعلن هو استقالته اعتراضا على سيطرة التيار المتشدد على الجماعة بحسب تصريحاته.
وتعد مرحلة ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 وما أعقبها من أحداث هي محطة جديدة للخروج الكبير والتمرد على جماعة الإخوان المسلمين؛ حيث استقال الدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد آنذاك، تلاه خروج الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ومجموعة من الشباب الذين كونوا معا حزب مصر القوية بعد أن تحدى الإخوان وأصر على الترشح في الانتخابات الرئاسية على غير رغبة الجماعة. ولم تمر سوى شهور قليلة حتى لحق القيادي الإخواني الكبير الدكتور كمال الهلباوي المتحدث باسم التنظيم الدولي للإخوان بقائمة المتمردين على الجماعة بإعلانه استقالته على الهواء احتجاجا على ترشيح خيرت الشاطر في انتخابات الرئاسة.
وإذا كانت تلك الانشقاقات هي محطات مؤثرة في الجماعة، فإن فترة ما بعد سقوط نظام الإخوان وعزل الرئيس مرسي قد شهدت تغيرا نوعيا في الاحتجاجات الداخلية بالجماعة بعد ارتفاع أصوات الغاضبين والساخطين على أداء القيادات مما أدى إلى حالة تمرد مستتر لكن أصداءه آخذه في الظهور العلني في صور مختلفة وبدعم من قيادات إخوانية منشقة رغم محاولات إنكارها أو تجاهلها من قبل الجماعة نفسها.
أحمد نزيلي، ابن عضو مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين ومسؤول المكتب الإداري للجماعة بالجيزة، أحد أبرز شباب الإخوان الذين شاركوا في ثورة 25 يناير منذ اللحظة الأولى، وهو واحد من مجموعة من شباب الإخوان الذين تمردوا على الجماعة وأعلنوا انشقاقهم عنها عام 2011 وكونوا ما يعرف حاليا بحزب التيار المصري. وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، قال: «كنت جزءا من شباب الإخوان المشاركين في ائتلاف شباب ثورة 25 يناير والذين ظلوا بميدان التحرير طيلة 18 يوما وبعدها فكرنا في تكوين حزب يجمع شباب الثورة ويحقق أهدافها في الوقت الذي سعت فيه جماعة الإخوان إلى الضغط علينا للانضمام إلى حزب الحرية والعدالة بينما كانت قناعتنا برفضنا التام لأن يكون للجماعة حزب سياسي إيمانا منا أن دورها هو دعوي فقط لكن مقاليد الإدارة وقتها كانت في يد من يريدون ذراعا سياسية لأفكارهم وهي أولى نقاط الاختلاف بيننا بالإضافة إلى اختلافنا معهم في انحيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية وفي برنامجهم الرأسمالي الذي تخلت عنه أميركا بعد ريغان!». وأضاف: «كونا النواة الأولى لحزب التيار المصري من مختلف الشخصيات حيث لا يمثل شباب الإخوان المنشقون فيه سوى نسبة سبعة في المائة تقريبا ورغم مرور ثلاث سنوات فإننا ما زلنا تحت التأسيس لأن عددنا هو ثلاثة آلاف عضو فقط حتى الآن وذلك بسبب مشاكل التمويل، كما أن الحراك لم يهدأ على الأرض خلال الفترة الماضية مما جعلنا في حالة انشغال واشتباك مستمر مع الشأن العام». وأكد نزيلي لـ«الشرق الأوسط» أنهم اتخذوا موقفهم ذلك لتوضيح الصورة لجماعة الإخوان بأن قراراتهم ليست على صواب خاصة ما يتعلق برفضهم للخلط بين الأنشطة السياسية والاجتماعية للجماعة لأنه يكون في غير صالح الجماعة وهو ما حدث بالفعل.
وكشف أحمد نزيلي أن موقفه المتمرد على قيادات الإخوان تسبب في التحقيق معه مرتين حتى فصلوه قبل استكمال التحقيق الثالث. وأفصح لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «حينما تدخل طرف للوساطة مع مكتب الإرشاد بشأننا فإن خيرت الشاطر قال بالحرف: (العيال دي ما تنفعشي تكمل معانا في الجماعة!). والشاطر للعلم يعشق تنفيذ الإبداع لكنه لا يبدع في التنفيذ!».
وحول تعاملهم الحالي مع الجماعة، قال أحمد نزيلي: «إننا لا نهتم بجذب أعضاء من جماعة الإخوان ولكننا كمجموعة تعبر عن شباب الثورة نحاول التواصل مع التيارات السياسية الأخرى وهو أسهل من مهمة الكلام مع الإخوان طالما ظلوا على إغراقهم في المظلومية والكربلائية إذ لا بد أولا أن يعقدوا مصالحة مع النفس ويعيدوا حساباتهم وألا يظل الكلام معهم صعبا وقد حاولنا مرارا إقناعهم بوجوب وقف الدم بعد الثالث من يوليو (تموز) والتعامل مع الدولة كدولة وليس في إطار معركة حربية، وإقناعهم بأن مرسي لن يعود لكنهم لم يقتنعوا ولم يفهموا أن قمة نجاحهم آنذاك قبول الخسائر المحدودة لصالح الاستمرار في المشهد».
أما حسين عبد الرحمن المتحدث الإعلامي لحركة إخوان بلا عنف فقد صرح لـ«الشرق الأوسط» أن الحركة قامت لأن لهم تحفظات على إدارة القيادات للمشهد السياسي منذ اعتصام رابعة العدوية، حيث «تحفظنا على إدارة الاعتصام والتحريض على العنف والمشاركة فيه من قبل القيادات وكانت نقطة التحول حينما أعلنا مع 658 شابا من شباب الإخوان عن تركهم للاعتصام عقب أحداث الحرس الجمهوري التي وقعت قبل ساعات من بدء شهر رمضان الماضي، ومن هنا ترسخت الفكرة لدى شباب الإخوان بتكوين إخوان ضد العنف وهو ليس انشقاقا كاملا عن الإخوان ولكنها دعوة لنبذ العنف على اعتبار أن دور جماعة الإخوان هو دور دعوي بالأساس وقمنا بعمل استمارات على شاكلة استمارات تمرد وجمعنا في البداية 1738 توقيعا ثم ارتفعت إلى 22 ألفا وانتهينا إلى بلوغ عدد الموقعين معنا من أعضاء الإخوان إلى 45 ألف عضو منهم الشباب وكبار السن وإن كانت نسبة النساء محدودة». وأضاف عبد الرحمن: «إننا أردنا أن نكون إيجابيين ولا يكون اعتراضنا على الجماعة بتركها وإنما بإصلاحها من الداخل دون الانسحاب».
وعن أهم تحفظات الحركة على قيادات جماعة الإخوان قال حسين عبد الرحمن: «نطالب بأن يكون وضع المرشد رمزيا وأن يكون القرار التنفيذي بيد مجلس شورى الجماعة وأن يكون مكتب الإرشاد جزءا من شورى الجماعة، كما هو في صميم الشريعة، لأن بعض الأشخاص المحسوبين على أبناء القيادات متحكمون في معظم الشعب والمكاتب الإدارية بنسبة أكبر من 70 في المائة، كما يقومون بإفشال الآخرين تنظيميا ومنع ترقيتهم من أعضاء إلى أمناء شعب وحتى المناصب السياسية التي تتولاها قيادات الجماعة في حزب الحرية والعدالة كانوا من داخل شورى الجماعة، وعلى سبيل المثال كنا معترضين على ترشح الدكتور سعد الكتاتني لأكثر من منصب بداية من رئاسة مجلس الشعب ثم لجنة تأسيسية الدستور وصولا لرئاسة حزب الحرية والعدالة، وكنا نرى أن عصام العريان أفضل من الكتاتني في رئاسة الحزب حتى لا نكرر تجربة تزاوج السلطة وبعض المناصب التي كانت في عهد مبارك».
وعن نشاط الحركة حاليا، يقول المتحدث الإعلامي لحركة إخوان بلا عنف إنه في ظل اتساع حالة السخط العارم داخل الكتلة الصامتة من الجماعة «نعمل على تشكيل لجنة تقصي حقائق لكتابة تقرير رسمي عام عن الفترة منذ بدء اعتصام رابعة وحتى الثلاثين من ديسمبر (كانون الأول) الماضي لتقييم دور القيادات في التحريض على العنف وبمجرد ثبوت تورطهم في ذلك ستجري إحالتهم للجنة التأديب المنصوص عليها في اللائحة الداخلية لجماعة الإخوان والتي تتكون من ستة أعضاء من مجلس شورى الجماعة وثلاثة من مكتب الإرشاد، وذلك تمهيدا لإصدار قرار فوري بفصل من يحرض على العنف أو من يثبت ارتكابه لفساد مالي حيث يوجد سخط عارم بين أعضاء الجماعة بسبب تحويل النفقات المخصصة للعمل الخيري إلى الإنفاق على الحشد والمسيرات وهو ما أدى إلى تضاؤل العمل الخيري الذي قامت الجماعة من أجله بالأساس إلى واحد في المائة بعد أن كان 45 في المائة من حجم إنفاق الجماعة».
وكشف عبد الرحمن لـ«الشرق الأوسط» عن سعى الحركة إلى إجراء انتخابات جديدة بالجماعة مع استقطاب الرموز الإخوانية المنشقة وأنهم يحاولون إقناع الدكتور كمال الهلباوي للعودة لعمل مراجعات حقيقية للأفكار بمشاركة منشقين آخرين مثل الدكتور ثروت الخرباوي.
وعن المقاومة التي تلاقيها الحركة من قبل القيادات الكلاسيكية بجماعة الإخوان أكد حسين عبد الرحمن أن هناك مقاومة مما يطلق عليهم الجيل الثاني والثالث من القيادات الرئيسة الذين يعتبرون التخلص من قيادات الصف الأول بمثابة التخلص منهم أيضا ولذلك فهم يصورون الشباب الذي تمرد على الجماعة على أنهم تابعون لجهات أمنية ومخابراتية بهدف شق صف جماعة الإخوان في محاولة لتشويه أي توجه إصلاحي داخل الجماعة.
وأشار إلى أن قيادات جماعة الإخوان ساهموا في انهيار ما بناه حسن البنا خلال السنوات الماضية في سنة حكم الرئيس مرسي، مؤكدا معارضة شباب الحركة لأدائه وانتقادهم له خلال المائة يوم الأولى وطالبوه بالاعتذار للناس واستبدال المائة يوم بخطة سنوية لتفويت الفرصة على الخصوم لكنه لم يستمع لهم.
وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط» أكد القيادي الإخواني السابق ثروت الخرباوي تواصله مع حركة إخوان بلا عنف بالفعل هو والدكتور الهلباوي واستعداده للتعاون معهم إيمانا منه بالهدف الإصلاحي الذي قامت الحركة من أجله. ويعد الخرباوي من أشهر القيادات المنشقة عن جماعة الإخوان ووجه لهم نقدا لاذعا في كتاباته وآرائه الساخطة على أدائهم السياسي كما تنبأ بسقوطهم، ففي تصريحات سابقة لـ«الشرق الأوسط» قال «إن جماعة الإخوان تأكل نفسها من الداخل لأنها تقوم على السمع والطاعة ولا تصلح أن تكون مؤسسة تدير دولة وهي بطبيعتها ستضمحل وتنتهي، تجربة الدكتور مرسي كرئيس لمصر ستكون الختام للإخوان وبها يضع تتر النهاية على جماعة الإخوان المسلمين»!
أما القيادي الإخواني الدكتور إبراهيم الزعفراني الذي ظل لعقود طويلة بالجماعة قبل انشقاقه عنها 2011 فقد صرح لـ«الشرق الأوسط» بأنه اعتزل العمل السياسي مؤخرا بعد تحفظه على أداء القيادات داخل الجماعة، واعتراضا على إعمال مبدأ الأبوية والأخوية، مشيرا إلى غياب قيمة العدل التي هي أساس الدعوة التي قامت الجماعة عليها. واستطرد قائلا: «لقد اعترضت على الخلط بين العمل الدعوي والسياسي وكان الدكتور عصام العريان والجزار يرون نفس ما رأيته أنا والدكتور أبو الفتوح لكنهما رأيا الاستمرار في الوجود محاولة للإصلاح الداخلي لكني لم أستطع الصبر فخرجت مستقيلا دون أن أفقد علاقتي بباقي الإخوة ولا احترامي لهم».
وأضاف الزعفراني أن عدد المتمردين على الجماعة محدود، ولكنه عاد يؤكد وجود أفكار تدور بشكل جدي بين شباب الإخوان توجه اللوم بشدة للقيادات الإخوانية، كأفكار شبابية توجه انتقادات حقيقية، «وأنا آمل أن تتاح الفرصة لأفكارهم المتفتحة ويلعبوا دورا كبيرا لمصر لأن هناك كتلة كبيرة من الإخوان تعمل بصدق لوجه الله وإخلاصا لهذا البلد».
أحمد بان هو نموذج ثالث لأحد القيادات الإخوانية الشابة الشهيرة المنشقة عن الإخوان في أعقاب ثورة يناير، تمردا على قياداتها، لكنه فضل الابتعاد عن العمل الحزبي وانخرط في العمل البحثي والكتابة الصحافية. وفي تصريحات خاصة لـ«الشرق الأوسط»، قال بان: «لقد ودعت حياتي القديمة مع الإخوان للأبد وقررت الانشغال بالبحث العلمي للمراجعات الفكرية من واقع تجربتي الحركية وتجربتي مع الإخوان علما بأنني لم يكن لي مشاكل مع التنظيم ولم يحدث معي أي موقف سلبي ولم أكن مهمشا لكني قررت الاستقالة، وبعدها حرصت على أن أكون على مسافة واحدة مع كل من خرجوا من الجماعة».
وعن الخروج أو الانشقاق عن جماعة الإخوان قال بان لـ«الشرق الأوسط»: «هناك من خرج من الجماعة لأسباب شخصية متعلقة بطموحه الشخصي أو لأسباب تتعلق باختلافه مع القيادة في أسلوب إدارتها. وأزعم أنني واحد من هؤلاء ولما خرجت كنت مسؤولا عن شعبة وكنت عضوا بالمكتب السياسي وشاركت معهم في تأسيس حزب الحرية والعدالة والذي اقتصرت عضويته على الأعضاء العاملين محل ثقة التنظيم بالكامل وكان عددهم 70 ألف عضو اختير منهم تسعة آلاف لتأسيس الحزب وكنت واحدا منهم كما جرى اختياري لعضوية المؤتمر العام للحزب وبعد كل ذلك استقلت بكامل إرادتي عام 2012».
وحول أجواء التمرد داخل جماعة الإخوان أكد بان لـ«الشرق الأوسط» أن الانشقاقات تسربت للجماعة منذ السنوات الأولى على تكوينها وأن هناك انشقاقا دوريا كل خمس سنوات تقريبا كان أولها عام 1933 أي بعد خمس سنوات من تأسيسها مشيرا إلى أن مؤرخي الجماعة يطلقون على هذه الانشقاقات لقب «الفتنة الأولى» و«الفتنة الثانية».. وهكذا. وحول وضع الجماعة الآن قال المنشق الإخواني أحمد بان إن تركيبة الجماعة ليست مصمتة وإنما هناك 50 في المائة من أعضائها لم يكونوا مرحبين بفكرة الدخول لمضمار المنافسة على منصب الرئيس ولا بالفوز بالأغلبية في البرلمان السابق وكانوا لا يطمحون في أكثر من 30 أو 40 في المائة من المقاعد ولكن في آخر تصويت بعد صراع خيرت الشاطر والمجموعة إياها كان فارق الأصوات أربعة أصوات فقط وبقي 50 في المائة ضد هذا الترشح.
وهؤلاء الخمسون في المائة جلسوا في بيوتهم بمجرد قيام أحداث 30 يونيو لأنهم شعروا أن الجماعة التي أعطوها أعمارهم وشبابهم قد سقطت وأصبحوا أقرب للاكتئاب والانزواء والانسحاب فخرجوا من المشهد تماما واندمجوا في جموع الشعب وليس لديهم أكثر من التعاطف مع حالة المظلومية التي يستخدمها قيادات الجماعة كأحد ميكانيزمات الدفاع والهروب من المحاسبة، ومن ثم فإن حالة المظلومية تلك سحبت جزءا بسيطا من هؤلاء الصامتين لفكرة الخروج فقط من أجل المناداة بالقصاص للدم وليس من أجل مرسي. وعلى ذلك، ينتهي الباحث أحمد بان إلى أن ما يحدث من تمرد متمثل في صورة انشقاقات هو عبارة عن انشقاق هادئ لأشخاص فضلوا الانزواء يجترون أحزانهم ولا يمارسون أي نشاط ولا ينضمون لأي كيانات أخرى سوى مجرد المشاركة في مظاهرات سلمية محدودة جدا ولذلك لا يمكن تناولها في التحليل.
أما عن التجارب الخاصة بخلق كيانات بديلة كالتي يدعو إليها الدكتور كمال الهلباوي أو جماعات شباب الإخوان المنشقين قال بان لـ«الشرق الأوسط» إن هناك كيانات تحاول استغلال الحالة دون علم ومعرفة كافية بالإخوان وهناك أشخاص انشقوا بالفعل انشقاقا تاما نفسيا وحركيا عن الجماعة وكونوا كيانات أخرى مثل حزب التيار المصري الذي يكونه شباب كانوا من الإخوان قبل انشقاقهم وما زال حزبهم تحت التأسيس وكذلك حزب مصر القوية للدكتور عبد المنعم أبو الفتوح وإن كان هناك اختراق من جماعة الإخوان للحزب من خلال بعض أعضائه الذين لا يزالون على ولائهم للجماعة.
وعن إمكانية دخوله في تجربة جديدة بديلة للإخوان أكد بان أن «جماعة الإخوان تحدث إنهاكا عاطفيا وعقليا للأعضاء، ولذلك فبعد أن قضيت نحو 20 سنة معهم لم تعد لدى القدرة على خوض أي تجربة جديدة، وللعلم فقد تفاعلت مع تجربة الدكتور كمال الهلباوي في بداية الأمر ولكني اكتشفت حدوث استبدال القفص الكبير بقفص أصغر، وربما يكون أكثر نعومة، لكنه في النهاية قفص، ومن ثم فهي محاولة جديدة لسجن أعضاء جدد في هذا القفص. وعموما فإن المسألة ستستغرق وقتا سواء لتبلور مثل هذه الكيانات الجديدة أو لاختفاء الكيانات الموجودة بالفعل وهو أمر معروف في الظواهر الاجتماعية».
وشدد بان على أن أسلوب شيطنة الإخوان إعلاميا ومطاردتهم أمنيا ثبت فشله، ولا بد من تغيير هذا الأسلوب في تعامل الدولة معهم، مؤكدا أن أفضل تعامل كان في ظل عهد جمال عبد الناصر حينما كان هناك مشروع قومي باعتباره الأداة الرئيسة لكشف ضعف مشروع الإخوان وأن تراجع الدولة الوطنية عن أداء دورها هو الذي سمح للجماعات السلفية والجهادية والإخوان في التمدد بهذا الشكل.
ومن جانبه أكد الدكتور كمال الهلباوي أبرز المنشقين على جماعة الإخوان المسلمين لـ«الشرق الأوسط» صحة وجود اتصالات بينه وبين متمردي الإخوان، وقال: «أنا متواصل مع شباب الإخوان من كل الاتجاهات بمن فيهم من لم يعلن عن نفسه وإذا صدقوا فيما قالوه لي فستكون هناك مفاجآت كبيرة تتعلق برغبة هؤلاء الشباب في تكوين جماعة جديدة مختلفة تماما عن جماعة الإخوان المسلمين وإن كان الأمر يحتاج لصبر وبعض الوقت لإتمام هذا الإنجاز الكبير». وأضاف الهلباوي لـ«الشرق الأوسط» أن عدد هؤلاء الشباب بالآلاف. وحول حقيقة دوره في قيادة هذا التنظيم الجديد، قال الهلباوي: «إن هذا الشباب متحمس ولديه رغبة في نبذ العنف ويحتاج لمن يأخذ بيده ويقوده. أما عن نفسي فأقصى ما أستطيع أن أفعله أن أوجههم كمستشار لهم أو كنقطة مرجعية لدعوة سلمية لكنهم يحتاجون لخبرة في إدارة التنظيمات مثل الدكتور محمد حبيب والمحامي مختار نوح ربما يكونان الأفضل في ذلك». وعن تداعيات تكوين ذلك الكيان من متمردي شباب الإخوان على مستقبل الجماعة، قال الهلباوي: «إن الجماعة لم تعد كما كانت، ولن تعود كما كانت، ولا بد أن يعرف قياداتها المسجونون أو الهاربون أن شباب الإخوان الآن منقسمون إلى ثلاثة أقسام؛ الأول قسم معهم وهم الذين يقومون بالمظاهرات وينفذون ما يقولون. والقسم الثاني توقف حتى يستبين الحقيقة، بينما انشق القسم الثالث بالفعل بل ويستعد لإجراء محاكمات داخلية لقيادات الإخوان التي جاءت بكارثة على الجماعة كلها».
من ناحية أخرى رفض القيادي الإخواني سيف الإسلام حسن البنا التعليق أو إبداء الرأي حول هذا التمرد الداخلي بجماعة الإخوان التي أسسها والده قبل عدة عقود، مؤكدا لـ«الشرق الأوسط» بنبرة يكسوها الحزن والأسى أنه سمع عن هذه التحركات، لكنه يرفض التعليق على مثل هذه الأمور ويؤثر الصمت في الفترة الأخيرة!
وحول تحليل ما يحدث من تمرد داخل جماعة الإخوان في إطار الظاهرة الاجتماعية وتأثيرها على مستقبل الجماعة، قال الدكتور عمار علي حسن الباحث في علم الاجتماع السياسي لـ«الشرق الأوسط»: «إن جماعة الإخوان المسلمين هي دوائر متلاصقة وهناك نواة أصلية هي الأقل عددا والأكثر تمكينا وهم من الأعضاء العاملين، بينما الدوائر الأخرى من الأعضاء المنتسبين وهو الأضخم عددا لكنهم الأقل تمثيلا وهي التي يحدث بها التصدع بينما الدوائر الضيقة تبقى كما هي. ومن ثم فكلما قام فريق من هؤلاء وتحدث عن انشقاق أنكرت الجماعة الأمر؛ فهي اعتادت جذب الناس للتعاطف معها لكن عند المواجهات فإنها تتنصل منهم ولا تعترف إلا بأعضائها العاملين فقط. وبالتالي فإنني أرى هذه الانشقاقات هامشية ويبدو الأمر في إطار توزيع الأدوار!». وأضاف أن «الحديث عن انشقاق بالمعنى العلمي، بأن يتمرد جزء معتبر صراحة، فإنني أعتقد أنه لا يحدث؛ لعدم وجود قائد يتم الانضمام إليه». وأكد عمار علي حسن أن من خرجوا عن الجماعة كان خروجهم على القيادة فقط، أما الخروج على فكر الإخوان تماما فهو لم يحدث إلا في حالات نادرة مثل حالة أحمد بان وسامح عيد وثروت الخرباوي بالإضافة لمجموعة أخرى صغيرة موجودة في محافظة البحيرة (قرب الإسكندرية).
ومن ناحية أخرى أضاف أن هناك حالة تململ من القيادة وإحباطا من أعضاء الجماعة ورغبة لدى البعض للمراجعة، لكنهم يخشون الجهر بذلك حتى لا يتهموا بخيانة الجماعة بعد استهداف التنظيم من قبل السلطة بدليل عدم استجابتهم لكل نداءات التعبئة من قيادات الإخوان. وتعليقا على تجربة الهلباوي والخرباوي التي يعدان لها مع شباب الإخوان المتمردين على الجماعة، قال الدكتور عمار علي حسن لـ«الشرق الأوسط»: «هي فكرة جيدة تشكل نقطة جذب لقادة مختلفين عن التفكير القطبي لتنضم إليهم الأجيال المتلاحقة من الشباب ولو نجحوا فإننا سنكون بالفعل أمام انشقاق حقيقي وتاريخي لجماعة الإخوان. وفي جميع الأحوال فإن الجماعة مآلها إلى زوال بعد أن ظل قياديوها مقتنعين أنها عصية على الفناء نظرا لأنهم عاشوا على المدد الذي تلقوه من السلطات المتعاقبة»، مختتما بقوله: «إن الجماعة اعتمدت على كونها محكمة التنظيم، لكنهم كانوا بلا عقل. واليوم وقد ضرب تنظيمهم في الصميم، فهم إلى نهاية، خاصة مع موت قادتهم الشيوخ في السجون أو المنفى ومن ثم لو خرج انشقاق بالمعنى السابق ولديه رغبة في الإصلاح فإنه سينجح».



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.