من التاريخ: الثورة العُرابية واحتلال مصر

من التاريخ: الثورة العُرابية واحتلال مصر
TT

من التاريخ: الثورة العُرابية واحتلال مصر

من التاريخ: الثورة العُرابية واحتلال مصر

تابعنا الأسبوع الماضي فترة من تاريخ مصر تولى فيها الزعيم الوطني أحمد عُرابي من خلال الجيش مطالب الإصلاحات السياسي في البلاد وفي الجيش، وكيف أن هذه الثورة أسفرت عن الضغط على الخديو توفيق حاكم مصر، التي كانت تتبع من الناحية النظرية فقط الدولة العثمانية رغم كونها تدار على أساس الحكم الذاتي منذ اتفاقية لندن 1840. أيضًا تابعنا كيف استطاعت حكومة شريف باشا إدخال الإصلاحات في البلاد وإقامة حياة نيابية سليمة على أساس مجلس نواب جرى انتخابه من قبل الشعب انتخابًا حرًا مباشرًا فانعقد أول برلمان مصري حقيقي على النمط الغربي في 1881، كما تم إقرار دستور البلاد في فبراير (شباط) 1882 وجعل الحكومة مسؤولة أمامه.
لكن حقيقة الأمر أن القوى الخارجية، خصوصا بريطانيا، كانت تخشى الاستقلال الفعلي للبلاد، ولذا دأبت على التدخل في شؤونها الخاصة، ولا سيما بعد تفاقم الخلافات بين التيار الوطني بقيادة عرابي والخديو. ومن ثم بدأت هذه القوى تأخذ صف الأخير وتطالب بعزل عرابي عن منصبه كوزير للحربية وإقالة الحكومات الوطنية. وتبع ذلك إصدار بريطانيا مذكرة مشتركة مع فرنسا بها نفس المطالب، كما أرسلت بحريتها إلى الإسكندرية استعدادًا للضغط على مصر لتنفيذ أهدافها، بينما كانت الدولة العثمانية في ثبات سياسي عميق غير قادرة على حماية البلاد.
وبمجرد أن تطورت الأحداث اقترحت فرنسا مؤتمرًا دوليًا لمناقشة المسألة المصرية وسبل تسوية الخلافات بين الخديو والحركة الوطنية، خصوصا أن الضغوط الداخلية فرضت على الخديو أن يعين عرابي وزيرًا للحربية، إلا أن بريطانيا كانت تعد العدة من أجل احتلال البلاد وسايرت التوجه الدبلوماسي الدولي لكسب الوقت لتجهيز جيوشها صوب الإسكندرية.
وعندما بدأت المناوشات بين المصريين وبعض الأجانب بسبب خلاف أسفر عما عُرف بـ«مذبحة الإسكندرية» التي راح ضحيتها بعض الأجانب، ضاق المصريون ذرعًا من التدخل الأجنبي في البلاد وشعروا أن البريطانيين على أبواب الاحتلال. وعندما عاد الأمن فاستتب وسيطرت الدولة المصرية على مقاليد الأمور، استغل البريطانيون الفرصة وبدأوا التحرش بالجيش المصري مطالبين بوقف بناء التحصينات في القلاع المصرية في الإسكندرية. وعلى الرغم من أن حكومة إسماعيل راغب كانت تدرك أهداف لندن وأبدت مرونة في التعامل مع الوضع، واصل البريطانيون ضغوطهم من أجل إيجاد مبرّر لاحتلال مصر، وبالفعل أقدم الأسطول البريطاني على قصف الإسكندرية.
أما على الصعيد الدولي، فقد عقد «مؤتمر الأستانة» (إسطنبول) بمشاركة أوروبية واسعة يوم 23 يونيو (حزيران) 1882، وأقر ما عُرف بـ«بروتوكول النزاهة»، إذ أعلنت الدول المشاركة ومنها بريطانيا أن لا أطماع لديها في مصر ولا نية لها بالتدخل في شؤونها، ولكن المبعوث البريطاني إلى المؤتمر أصر على إضافة جملة: «... في ما عدا الأحوال القهرية». وحقًا، كانت هذه الجملة الأساس الذي استندت إليه بريطانيا لاحتلال مصر.
«مؤتمر الأستانة» أصدر قرارًا ينص على إرسال الدولة العثمانية جيشًا إلى مصر لمساندة الخديو توفيق وإخماد الثورة العرابية، غير أن الخطط البريطانية كانت محسومة سلفًا، ففي غضون أسبوعين كانت القوات البريطانية على أهبة الاستعداد لاحتلال مصر بعدما أقر البرلمان في لندن التمويل اللازم للحشد العسكري المطلوب بتوفير ما قيمته 2.3 مليون جنيه، وبدأت الإمدادات العسكرية تأتي من كل الاتجاهات: منها الهند والقواعد والمراكز البريطانية في المتوسط.
وفي هذه الأثناء، بدأت الحركة الوطنية تنقم على الخديو الذي اعتبرته دمية في أيدي الأجانب، خصوصا القنصل البريطاني. وباشر الأعيان والنواب البرلمانيون دعم الحركة الوطنية وإن دون معاداة الخديو علنًا، خصوصا بعدما أعلن الخديو عزل القائد أحمد عرابي من وزارة الحربية. كذلك أخذ الشعب يساند عرابي في تحركه لتحصين البلاد ضد المعركة المرتقبة ضد الجيش البريطاني في البلاد. وواقع الأمر أن التحصينات المصرية كانت مركزة في نواحي الدلتا والغرب. ولقد ساورت عرابي وبعض القيادات العسكرية فكرة ردم قناة السويس لمنع الأسطول البريطاني من عبورها وفتح جبهة شرقية جديدة ضد الجيش المصري، إلا أن رئيس الشركة أعطى تأكيدات لأحمد عرابي بأن الأسطول البريطاني لا يستطيع أن يستخدم القناة لأغراض عسكرية، ووعده بعدم حدوث ذلك تحت أي ظرف من الظروف، وهو ما أجّل فكرة الردم لبعض الوقت. ولكن عندما أدرك عرابي أن تأكيدات رئيس الشركة كانت مجرّد خديعة كان الوقت قد فات لتدارك الأمر.
وبالفعل بدأ الأسطول البريطاني بقصف الإسكندرية ضاربًا عرض الحائط بقرارات المؤتمر الدولي حول مصر، واندلعت الحرب بين الجيش الوطني المصري وقوة الاحتلال البريطاني.
المصادر التاريخية اختلفت في تقييم عديد الجيش المصري في ذلك الوقت، فبينما تقدّر بعض المصادر أن عديد الجيش المصري كان يتراوح ما بين سبعة عشر ألفًا إلى ما يفوق العشرين ألفًا، ترى مصادر أخرى أن العدد وصل إلى قرابة خمسة وثلاثين ألفًا، ولكن حقيقة الأمر أن الجيش النظامي القادر على المقاومة لم يتعدّ بأحسن الأحوال الخمسة عشر ألفًا، أما الباقيون فكانوا عبارة عن قوات مجنّدة غير مدرّبة ولا تملك الخبرة العسكرية الكافية، وذلك في حين ناهزت القوات البريطانية في البحر المتوسط قرابة خمسين ألفًا، مع أن بعض المصادر الأخرى قدرتها بنيف وعشرين ألفًا.
كان فتح جبهة مصر الشرقية أخطر التطوّرات، إذ كانت الدفاعات المصرية ضعيفة جدًا هناك. وبالتالي، عندما احتل الأسطول البريطاني بورسعيد ثم الإسماعيلية على قناة السويس اضطر عرابي إلى حشد دفاعاته في الدلتا بينما كانت القوات البريطانية قد دخلت في عدة معارك بالقرب من كفر الدوّار، في غرب الدلتا، انتهى أغلبها بصدّ هذه الهجمات.
ولكن بما أن الجبهة الشرقية كانت في حالة ضعف شديد، تحرّك عرابي مباشرة إلى التل الكبير (شرق الدلتا) للإشراف على التحصينات المصرية المعدّة لصد الهجوم البريطاني المتوقع ووضع صيغة للمعركة. وهناك، نزلت القوات البريطانية بكل ثقلها على التل الكبير حيث دارت المعركة الفاصلة بين الطرفين. بدأت المعركة بمناوشات من الجانب البريطاني أسفرت عن سقوط عدد من المواقع الأمامية، خصوصا منطقة القصّاصين (على طريق القاهرة - الإسماعيلية). وعندما حاولت القوات المصرية إعادة الاستيلاء عليها مُنيت بهزيمة أسفرت عن إصابة قواد الجيش، في أعقاب أسر رئيس أركان الجيش المصري، وهو ما وضع الجيش في وضع خطير للغاية قبيل نشوب معركة التل الكبير الشهيرة.
تشير المصادر التاريخية إلى أن معركة التل الكبير لم تكن معركة بالمفهوم الحقيقي، ذلك أن الجيش البريطاني تحرك مساء يوم 21 سبتمبر (أيلول) من القصّاصين إلى التل الكبير تحت جنح الظلام. وما كان الجيش المصري على استعداد مطلقًا لأنه لم يكن قد اكتشف التحرك البريطاني، الذي باغت القوات المصرية عند الفجر، ولم تطل المواجهة كثيرًا، إذ انقضت القوات البريطانية على قوات عرابي من الجانبين ومن الوسط بعدما طوقتها. وهكذا انهارت قوات عرابي، الذي غادر أرض المعركة بعد الهزيمة متوجهًا إلى القاهرة. وفي العاصمة المصرية عقد عرابي لقاءات موسعة مع الأعيان والمساندين واتضح بعد المداولات أن قبل لمصر بمواجهة عسكرية مع مثل تلك القوات البريطانية الغازية. وعندها تم الاتفاق على التسليم، وفعلاً خرج عرابي بزيّه العسكري واستسلم للبريطانيين، وهكذا وقعت مصر فريسة للاحتلال البريطاني.
أعقب الاحتلال تأليف حكومة مصرية جديدة برئاسة شريف باشا، وأجريت محاكمة القادة العسكريين على رأسهم أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي، وصدر عليهم الحكم بالإعدام، إلا أن الحكم عدّل إلى النفي المؤبد لهم، ونفذ الحكم اعتبارًا من 28 ديسمبر (كانون الأول) 1882. ولقد تفاوتت فترات نفي هؤلاء الزعماء، ولا سيما بعدما أصدر الخديو عباس حلمي حكمًا بالعفو عنهم بعدما تدهورت حالاتهم الصحية كثيرًا. ومن ثم عادوا إلى البلاد أيضًا في أوقات متفرقة. فعاد البارودي بعدما كفّ صره، ثم عاد عرابي في أول أكتوبر (تشرين الأول) 1901 وقبله بشهر عاد علي فهمي، رفيق عمره. ولكن الشعب لم يستقبلهم بمثل ما ودّعهم به بعدما رضخت البلاد للاحتلال البريطاني. ولقد عبر محمود سامي البارودي عن حالته النفسية السيئة في المنفى بأبيات شعر عكست حالته وحال الوطن المغلوب على أمره بقوله:

عناءٌ ويأسٌ واشتياقٌ وغربةٌ
ألا شدّ ما ألقاه في الدهر من غبنِ
فإن أكُ فارقتُ الديارَ فلي بها
فؤادٌ أضلّته عيونُ المها عنّي



كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
TT

كريستيان ليندنر... الزعيم الليبرالي الذي أسقط عزله الحكومة الألمانية

ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين
ليندنر اختلف مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين

رجل واحد حمله المستشار الألماني أولاف شولتس مسؤولية انهيار حكومته، وما نتج عن ذلك من فوضى سياسية دخلت فيها ألمانيا بينما هي بأمس الحاجة للاستقرار وتهدئة اقتصادها المتدهور. رجل وصفه المستشار بأنه «أناني»، وشن عليه هجوماً شخصياً نادراً ما يصدر عن شولتس المعروف بتحفظه وهدوئه. ذلك الرجل كان وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم «الحزب الديمقراطي الحر» الذي كان شريكاً في الحكومة الائتلافية الثلاثية منذ عام 2021، برئاسة «الحزب الديمقراطي الاجتماعي» (الاشتراكي)، ومشاركة حزب «الخضر». ولقد طرده شولتس من الحكومة بعد خلافات حول ميزانية سنة 2025، ما تسبب بخروج الوزراء المتبقين من «الحزب الديمقراطي الحر»، ليبقى المستشار يقود حكومة أقلية حتى إجراء الانتخابات المبكرة في 23 فبراير المقبل. ثم إن شولتس تعرض لانتقادات كثيرة لهجومه الشخصي على ليندنر، خاصة من المستشارة السابقة أنجيلا ميركل التي وصفته بأنه كان «خارجاً عن السيطرة». لكن مع ذلك، فإن الصورة التي رسمها المستشار عن وزيره قد تحمل شيئاً من الواقع؛ إذ خرجت انتقادات من أوساط الديمقراطيين الأحرار لليندنر و«تصرفه بشكل أحادي» في دفع المستشار لإقالته. وقبل ذلك طالته انتقادات بعدما أصبح «الوجه الأوحد» لـ«الحزب الديمقراطي الحر» إبان الانتخابات الماضية عام 2021 وقبلها عام 2017. ولعل الحزب تسامح مع تصرفات ليندنر «الأنانية» تلك لنجاحه بإعادة الحزب إلى الخارطة السياسية بعد انهياره تقريباً عام 2013 وفشله بدخول البرلمان للمرة الأولى في تاريخه. إلا أن مستقبل الرجل الذي أعاد حزبه إلى الحياة... هو نفسه في خطر. فهل يستمر ليندنر بالبناء على تاريخه حتى اليوم للنهوض مجدداً؟

قد يكون كريستيان ليندنر أصغر زعيم انتُخب ليرأس حزبه «الديمقراطي الحر»، عن عمر 34 سنة فقط عام 2013، بيد أنه لم يكن ناجحاً على الدوام. وبعكس حياته السياسية وصعوده السريع إلى القمة، فشل ليندنر في مشاريع أعمال أطلقها عندما كانت السياسة ما زالت هواية بالنسبة إليه. واعترف لاحقاً بإخفاقاته تلك، مستعيناً بعبارة «المشاكل هي مجرد فرص شائكة» لكي يدفع نفسه إلى الأمام.

وبين عامَي 1997 و2001 أسس شركات خاصة مع أصدقاء له، انتهت بالفشل آخرها شركة «موماكس» التي انهارت وأفلست بعد أقل من سنة على إطلاقها.

هذه «الإخفاقات» التي طبعت مغامراته التجارية وهو في مطلع العشرينات قد تكون دفعته للتوجه إلى السياسة بجدية أكبر. وبالفعل، نجح عام 2001 بدخول البرلمان المحلي في ولايته شمال الراين-وستفاليا وهو ابن 21 سنة ليغدو أصغر نائب يدخل برلمان الولاية. ولصغر سنه وقسمات وجهه الخجولة كسب ليندنر آنذاك لقب «بامبي» بين أعضاء الحزب نسبة للغزال الصغير عند «ديزني».

«بامبي» في «البوندستاغ»

في عام 2009، فاز ليندنر بمقعد في البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) ليعود عام 2012 إلى ولايته أميناً عاماً للحزب في الولاية ونائباً محلياً مرة أخرى.

وبعدها ساعدت إخفاقات الديمقراطيين الأحرار في الانتخابات العامة عام 2013 بتسليط الضوء على ليندنر، الشاب الكاريزماتي الطموح الذي وجد فرصة سانحة أمامه للصعود داخل الحزب. ويومذاك فشل الحزب بتخطي عتبة الـ5 في المائة من أصوات الناخبين التي يحددها القانون شرطاً لدخول «البوندتساغ». وعقد أعضاؤه اجتماعاً خاصاً لمناقشة النتائج الكارثية التي لم يسبق للحزب أن سجلها في تاريخه، وانتخب ليندنر، وهو في سن الـ34، زعيماً للحزب مكلفاً بتأهيله وإعادته للحياة... وبذلك بات أصغر زعيم ينتخب لـ«الحزب الديمقراطي الحر».

شاب أنيق وجذّاب

شكّل سن ليندنر وأناقته وشخصيته عاملاً جاذباً للناخبين الشباب خاصة. وقاد حملة مبنية على أساس جذب الشباب ونفض صورة الحزب القديم التقليدي عنه، كما ساعده حضوره على وسائل التواصل الاجتماعي في التواصل مع مستخدميها من الشباب وتقريبهم إلى الحزب.

وغالباً ما نُشرت له صور من حياته الشخصية على «إنستغرام»، منها صورة لإجازة مع فرانكا ليهفيلدت، زوجته الصحافية التي كانت تعمل في قناة «دي فيلت»، ولقد عقدا قرانهما وهو في الحكومة عام 2022 في حفل ضخم وباذخ بجزيرة سيلت حضره عدد كبير من السياسيين. وينتظر الزوجان مولودهما الأول في الربيع المقبل.

للعلم، كان ليندر متزوجاً قبل ذلك من صحافية أخرى كانت نائبة رئيس تحرير «دي فيلت» أيضاً، هي داغمار روزنفلت، التي تكبره سناً ولم ينجبا أطفالاً معاً. لكنهما ظلا متزوجين من 2011 وحتى 2018 عندما أعلن طلاقهما وكشف عن علاقته مع ليهفيلدت.

أيضاً، لا يخفي ليندنر حبه للسيارات السريعة، وكان قال غير مرة قبل دخوله الحكومة مع حزب «الخضر» بأنه يهوى السيارات القديمة ويملك سيارة بورشه قديمة ومعها يملك رخصة للسباقات. وبجانب هذه الهواية يحب اليخوت ويملك رخصة للإبحار الرياضي وأخرى للصيد.

صورة شبابية عصرية

هذه الصورة التي رسمها ليندنر لنفسه، صورة الرجل الأنيق الذي يهتم بمظهره (لدرجة أنه خضع لزرع شعر) ويمارس هوايات عصرية، ساعدته على اجتذاب ناخبين من الشباب خاصة، وجعلته ينجح بإعادة حزبه إلى البرلمان عام 2017 بحصوله على نسبة أصوات قاربت 11 في المائة.

في حينه دخل في مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع المستشارة أنجيلا ميركل التي فاز حزبها بالانتخابات، وكانت تبحث عن شركاء للحكم إثر حصولها على 33 في المائة من الأصوات. وفعلاً، بدأت ميركل مفاوضات مع الديمقراطيين الأحرار و«الخضر»، لكن ليندنر انسحب فجأة من المفاوضات بعد 4 أسابيع، ليعلن: «أفضل عدم الحكم من الحكم بشكل خاطئ».

ليندنر كان يختلف آنذاك مع سياسة ميركل المتعلقة بالهجرة وفتحها أبواب ألمانيا أمام مئات آلاف اللاجئين السوريين قبل سنتين. ويومها واجه الانتقاد لتفويته على حزبه فرصة الحكم، وهي فرصة خشي بعض الحزبيين ألا تُتاح مُجدداً.

ائتلاف مع اليسار

غير أن الفرصة أتيحت مرة أخرى في الانتخابات التالية عام 2021 عندما حقق «الحزب الديمقراطي الحر» نتائج أفضل من الانتخابات السابقة، حاصلاً على نسبة 11.5 في المائة من الأصوات. ومع أن «الحزب الديمقراطي الحر» حزب وسطي ليبرالي يؤيد الحريات الاقتصادية، ويعدّ شريكاً طبيعياً لحزب «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» (يمين معتدل)، قرر ليندنر عام 2021 الدخول في ائتلاف حاكم مع الاشتراكيين و«الخضر»؛ ذلك أن الأخير يعتبر نقيضاً فكرياً للديمقراطيين الأحرار الذين يرون سياساته البيئية مكلفة وكابحة للتقدم الاقتصادي.

وهكذا تسلم ليندنر إحدى أهم الوزرات؛ إذ عُيّن وزيراً للمالية وثاني نائب للمستشار. وحقق بذلك حلمه الذي غالباً ما كرره خلال الحملات الانتخابية بأنه يريد أن يصبح وزيراً للمالية، وحتى إنه عرّف نفسه في إحدى الحملات ممازحاً: «تعرّفوا على وزير ماليتكم المقبل!».

خلفيته العلمية والفكرية

اهتمام ليندنر بالسياسة الاقتصادية ينبع من اهتماماته منذ تخرّجه من الجامعة؛ حيث درس العلوم السياسية ثم القانون والفلسفة في جامعة بون المرموقة (واسمها الرسمي جامعة راينيشه فريدريش - فيلهامز).

ثم إنه لم ينضم فور مغادرته المدرسة للخدمة العسكرية التي كانت إجبارية آنذاك، وأجّلها للدراسة وإكمال مغامراته التجارية، لكنه عاد لاحقاً وانضم إلى جنود الاحتياط ووصل لرتبة رائد. ورغم فشل مغامراته التجارية، بقيت اهتماماته السياسية منصبّة على الجانب المالي، ومن هنا جاء طموحه بأن يصبح وزيراً للمالية في الحكومة الفيدرالية.

وفكرياً، يؤمن ليندنر وحزبه بتقليص الإنفاق العام وخفض الضرائب وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة. ودائماً عارض خططاً عدّها متطرفة يدعمها «الخضر» لاستثمارات أكبر في الطاقة النظيفة بحجة تكلفتها العالية وتأثيرها على الشركات والأعمال. وكانت المفارقة أنه تسلّم حكومة كانت مسؤولة عن تطبيق سياسات تروّج للطاقة البديلة وتزيد من النفقات الاجتماعية وترفع من الضرائب.

هذا الأمر كان صعباً عليه تقبّله. ورغم وجود اتفاق حكومي حدّدت الأحزاب الثلاثة على أساسه العمل خلال السنوات الأربع من عمرها، عانى عمل الحكومات من الخلافات منذ اليوم الأول. وطبعاً لم تساعد الحكومة الأزمات المتتالية التي اضطرت لمواجهتها وكانت لها تأثيرات مباشرة على الاقتصاد، بدءاً بجائحة كوفيد-19 إلى الحرب الأوكرانية.

ولذا كان شولتس غالباً ما يعقد خلوات مع ليندنر وزعيم «الخضر»، روبرت هابيك، ويطول النقاش لساعات بأمل التوصل لحلول وسط يمكن للحكومة أن تكمل فيها عملها. وفي النهاية، كان من أبرز نقاط الخلاف التي رفض ليندنر المساومة فيها هي ما يُعرف في ألمانيا بـ«مكابح الدَّين العام»؛ إذ يرفض الدستور الألماني الاستدانة إلا في حالات الطوارئ، ولقد استخدمت الحكومة كوفيد-19 كطارئ للتخلي عن «مكابح الدَّين العام»، وبالتالي، الاستدانة والإنفاق للمساعدة عجلة الاقتصاد.

وأراد شولتس تمديد العمل بحالة الطوارئ كي تتمكن حكومته من الاستدانة وتمويل الحرب في أوكرانيا من دون الاقتطاع من الخدمات العامة، لكن ليندنر رفض مقترحاً تخفيض الإنفاق العام في المقابل، الأمر الذي اعتبره شولتس «خطاً أحمر».

تهم وشكوك

وحقاً، اتُّهم ليندنر بعد طرده بأنه كان يخطط للانسحاب من الحكومة منذ فترة، وبأنه وضع خطة لذلك بعدما وجد أن حزبه منهار في استطلاعات الرأي وأن نسبة تأييده عادت لتنخفض إلى ما دون عتبة الـ5 في المائة.

أيضاً، كُشف بعد انهيار الحكومة عن «وثيقة داخلية» أعدّها ليندنر وتداولها مع نفر من المقرّبين منه داخل الحزب، تحضّر للانسحاب من الحكومة بانتظار الفرصة المناسبة. وقيل إنه بدأ يخشى البقاء في حكومة فقدت الكثير من شعبيتها بسبب المشاكل الاقتصادية وارتفاع التضخّم خلال السنوات الثلاث الماضية، ما أثر على القدرة الشرائية للألمان. وبناءً عليه، خطّط ليندنر للخروج منها قبل موعد الانتخابات واستخدام ذلك انتخابياً لإعادة رفع حظوظ حزبه الذي يبدو الأكثر تأثراً من الأحزاب المشاركة في الحكومة، بخسارة الأصوات. وطرحت «الوثيقة» التي كُشف عنها مشكلة أخرى بالنسبة لليندنر - داخل حزبه هذه المرة - فواجه اتهامات بالتفرّد بالقرارات وحتى دعوات لإقالته.

طامح لمواصلة القيادة

حتى الآن، يبدو كريستيان ليندنر مصراً على قيادة حزبه في انتخابات فبراير (شباط)، وما زال لم يفقد الأمل العودة حتى إلى الحكومة المقبلة وزيراً للمالية في حكومة يقودها زعيم الديمقراطيين المسيحيين، فريدريش ميرتز، الذي يتقدّم حزبه في استطلاعات الرأي ومن المرجح أن يتولى المستشارية. وللعلم، ميرتز نفسه أبدى انفتاحاً على ضم ليندنر إلى حكومته المحتملة، وشوهد الرجلان بعد أيام من إقالة ليندنر يتهامسان بتفاهم ظاهر داخل «البوندستاغ».

ولكن عودة ليندنر للحكومة ستتطلب منه بدايةً تخطي عقبتين: الأولى أن يبقى على رأس حزبه لقيادته للانتخابات. والثانية أن ينجح بإقناع الناخبين بمنح الحزب أصواتاً كافية لتخطي عتبة الـ5 في المائة الضرورية لدخول البرلمان.