بعد نصف قرن من الصمت.. ثورة في الأدب السوري

أعمال شعرية ونثرية توثق لاستبداد عائلة الأسد

من المظاهرات السورية
من المظاهرات السورية
TT

بعد نصف قرن من الصمت.. ثورة في الأدب السوري

من المظاهرات السورية
من المظاهرات السورية

نصف قرن من الصمت، وسيادة نصوص الثرثرة المدحية، التمجيدية في الأوثان الأسدية، وتصحر الإبداع، جاءت الثورة السورية لتقلب الموازين رأسا على عقب، وتطلق عقال الألسن والأقلام. وإن كان من المبكر جدا أن نطلق أحكاما على هذا الأدب الثوري، والحدث ما زال في ريعانه، ومآسيه تجري أمام عيوننا، فإن مسألة الإبداع الفعلي لهذا الحدث الجلل في تاريخ سوريا الذي لم يشهده بلد آخر في العالم، لا ينضج إلا بعد برود البركان، وانقشاع الدخان، والتروي في الحكم، والنظر إلى الماضي الأليم عن بعد، وتجرد. إذا كان الألم أبا الإبداع فإن هؤلاء الأطفال الذين عاشوا المأساة بكل مقاييسها من قتل، وتشريد، وتجويع، وفقدان الأهل، وتدمير منازلهم على مرآهم، واغتصاب أمهاتهم وتعذيبهن على مسمعهم، هم من سيخرج من بينهم أدباء يفاجئون العالم بأعمالهم الإبداعية، فالجرح البليغ لا يوجع مع حزة السكين، وبلاغة الصرخة لا تنطلق، كرصاصة، إلا بعد حين.
ومهما يكن من أمر فإن هذه الثورة، ومنذ انطلاقة الصرخة «الدرعاوية»: حرية، حرية..، وهاج الشعب السوري المقيد وماج ليكسر قيدا أسديا - بعثيا في معصميه المدميين منذ زهاء نصف قرن، ومادت الأرض السورية تحت أقدام الطواغيت، حتى انطلقت أقلام متمرسة، وأخرى شابة، وسال الحبر مسيل الدمع والدم، بلاغة في الكلمة، وإبداعا في النص، ما يتطابق وفداحة الحدث وصفا للامعقول، وتجسيدا «للصرخة السورية »: حرية التي كانت بمثابة الحد الفاصل بين ما قبل، وما بعد. فثورة السوريين بكل عنفوانها وآلامها، ومآسيها، حققت ثورة في الأدب بمقاييس هذه الثورة التي وقفت صلبة في وجه نظام العائلة الأسدية وإجرامها في حربها المفتوحة ضد عدوها الأول: الشعب السوري.
صور لمشاهدات يومية، لوقائع الأجساد والأحجار المفتتة على وقع البراميل المتفجرة، والأنفاس المتقطعة بسلاح الكيمياء، وأصوات صليل الحديد في الزنازين، وصراخ المعذبين في الأقبية العتمة. وصف المعاناة، ومشاهد الرعب صفة طاغية على هذا الأدب المنبثق من أعماق المرارة.
في أسلوب أدب اليوميات والشهادات، انطلقت التجربة الأولى مع الكاتبة سمر يزبك في كتابها «امرأة في تقاطع نيران»، رصدت من خلاله الأشهر الأولى من الثورة.
رواية «طبول الحب» للكاتبة مها حسن تغوص في أحداث الثورة السورية عن طريق قصة حب تربط «ريما» الأستاذة المهاجرة في جامعة السوربون، التي عاشت تجربة زواج فاشلة مع أنطوان ثم ترتبط بقصة حب مع شاب سوري (المحامي يوسف سليمان) المقيم في سوريا عبر «فيسبوك» لتقرر على أثرها العودة إلى سوريا لتنقل آراء المثقفين من الثورة. عبارة عن رصد آراء لنماذج ثقافية عبر فن الحوار في صلب الرواية.
الروائية ابتسام تريسي في روايتها «مدن اليمام» التي تحيي فيها شخصية حنظلة (لرسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي) فحنظلة الذي يأخذ دور أحد الرواة لا يكاد يصدق أن السوريين يقتتلون، ويقول مستغربا: «عشنا حياتنا في خديعة المواطنة والممانعة والصمود والتصدي». وتحكي الرواية قصة ابن الكاتبة نور في سجون السلطة وعن عمليات اغتصاب الأطفال، ومجزرة حماه في قالب من المشاهدات الواقعية.
في روايتها الثانية «لمار»، توثق استبداد عائلة الأسد، راصدة عملية صعودها سلم السلطة، وتحليل ظروفها النفسية والاجتماعية والبيئية، عبر استعارة أسماء وهمية شكلت قصة تسلل العائلة إلى أروقة السلطة، وصولا إلى سدة الحكم في البلاد وبدء حقبة سوداء في تاريخ سوريا.
رواية «السوريون الأعداء» لفواز حداد تؤرخ للنظام القمعي في سوريا من المجزرة الكبرى في حماه وحتى اندلاع الثورة عبر تتبع حياة ثلاثة أشخاص.
رواية «القنفذ»: سيرة حياة طويلة جدا لإسلام أبو شكير، سيرة ليوم في حياة بشار الأسد يقول الكاتب: «ابن أبله هامشي شاءت الأقدار أن تختاره العائلة القابضة على السلطة في سوريا وريثا للحكم» رواية تزاوج بين الحقيقة والخيال.
في القصة القصيرة أبدع مصطفى تاج الدين موسى في «مزهرية من مجزرة».. مجموعة من قصص قصيرة لمجازر لا تنتهي: سريالية في السرد تغوص كالشفرة في الشرايين. تترك في الذاكرة بصمة دم لا تمحى. «هطلت القذائف كمطر غزير على ساحة القرية حيث كان فيها حفل زفاف متواضع.. الطفل كان وبسعادة يلهو بالتقاط الأيدي المقطوعة من بين الأشلاء البشرية وهو يظنها دمى، فجمع عدة أياد.. في البيت داخل غرفة الجلوس، التقط المزهرية عن الطاولة ورمى عنها الورود ليدس بها تلك الأيدي.. بعد أن نام.. ثمة يد من الأيدي في المزهرية مالت إليه بهدوء، لتمسح بحنان على شعره الناعم».
كتاب آخرون خاضوا مخاض الثورة واندلاعها، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: «أيام في بابا عمرو»، و«عائد إلى حلب» لعبد الله مكسور، «انسي دمشق: تحولات الثورة السورية بين الشخصي والعام» لعمر يوسف سليمان، «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، لخالد خليفة. «إلى ابنتي»، لهنادي زحلوط، «لم أتمدد يوما على سكة قطار»، لأحمد باشا..
في الشعر كان الإنتاج بغزارة النثر (لا يسعنا في هذا المقام أن نذكر كل الأعمال الشعرية لشعراء سوريين وعرب):
ديوان «وقائع الحرب القائمة لخلف الخلف»، المتخيل يحكي الواقع في كلمات مدماة تنقش صورة كئيبة لنظام جعل الأخ يقتل أخاه:
« أصبح الموت يأتي في أي وقت
يأخذ الناس بنزهات جماعية لزيارة الأبد الذي لن يعودوا منه
يأخذهم بوسائل نقل مختلفة،
الرصاص، المدافع، الصواريخ، البراميل المتفجرة، السيارات المفخخة، الهاون
الساطور، السيف، السكين، الخنق باليدين»
«هيييه
أيتها الحرب انتظرينا
نحن ذاهبون لدفن إخوتنا الذين قتلهم أعداؤنا
وسنعود إلى القتال
وأعداؤنا ذهبوا لدفن إخوتنا الذين قتلناهم وسيعودون إلى القتال
حتى نفرغ لك
يمكنك أن تتسلي بكتابة قصص عن الشهداء».
و«بانوراما الموت والوحشة» للشاعرة رشا عمران: ثمانون نصا عن الدم السوري، تجربة وجودية عبثية سريالية بكل ما تحمل الكلمة من معنى. مشاهد من الموت السوري اليومي تضع فيه الشاعرة جسدها كرمز لسوريا الجريحة.
«وما كان لشيء أن يحول دون تفتتي
كنت أراقب أعضائي موزعة على البلاط
تلك اليد أعرفها جيدا، وأعرف أصابع القدم اليسرى المبعثرة
..
أعرف بقعة الدم أسفل الجدار، وأعرف السرة الملقاة تحت السرير كمنديل عتيق،
وحده الرأس بكل تفاصيله، الرأس المعلق أمام الشاشة السوداء كمسمار في فراغ الحائط
كان غريبا عني..
..
وفي آخر الليل أعيد أعضائي المبعثرة إلى أمكنتها
..
لكنني إذا ما استيقظت صباحا سأدرك أنني
استيقظت كجثة مكتملة».

الشاعر ياسر الأطرش يستلهم صرخة السوري المهان أحمد عبد الوهاب ويجعلها عنوانا لديوانه: «أنا إنسان».

«أنا إنسان
عبرت المكان كي أفضي إلى ما كان
ويا تاريخ فتشني، أنا رجل قتلت جميع أوثاني
أنا رجل بلا أوثان
أنا الساحات في قلبي
وفي قلبي الذي فيه مغنيها وثائرها، ممشط شعر أرصفة تداريها
حناجر أمة ثقبت دجى التابوت وانسلت مع الفجر
لتطلع صوت من غابوا، وتغرق ضجة الطغيان».



مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي
TT

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

مجلة «القافلة» السعودية: تراجع «القراءة العميقة» في العصر الرقمي

في عددها الجديد، نشرت مجلة «القافلة» الثقافية، التي تصدرها شركة «أرامكو السعودية»، مجموعة من الموضوعات الثقافية والعلمية، تناولت مفهوم الثقافة بالتساؤل عن معناها ومغزاها في ظل متغيرات عصر العولمة، وعرّجت على الدور الذي تضطلع به وزارة الثقافة السعودية في تفعيل المعاني الإيجابية التي تتصل بهذا المفهوم، منها إبراز الهويَّة والتواصل مع الآخر.

كما أثارت المجلة في العدد الجديد لشهري نوفمبر (تشرين الثاني)، وديسمبر (كانون الأول) 2024 (العدد 707)، نقاشاً يرصد آفاق تطور النقل العام في الحواضر الكُبرى، في ضوء الاستعدادات التي تعيشها العاصمة السعودية لاستقبال مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام في الرياض».

وفي زاوية «بداية كلام» استطلعت المجلة موضوع «القراءة العميقة» وتراجعها في العصر الرقمي، باستضافة عدد من المشاركين ضمن النسخة التاسعة من مسابقة «اقرأ» السنوية، التي اختتمها مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي «إثراء» في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وفي السياق نفسه، تطرّق عبد الله الحواس في زاوية «قول في مقال» إلى الحديث عن هذه «المسابقة الكشافة»، التي تستمد حضورها من أهمية القراءة وأثرها في حياتنا.

في باب «أدب وفنون»، قدَّم قيس عبد اللطيف قراءة حول عدد من أفلام السينما السعودية لمخرجين شباب من المنطقة الشرقية من المملكة، مسلطاً الضوء على ما تتناوله من هموم الحياة اليومية؛ إذ يأتي ذلك بالتزامن مع الموسم الخامس لـ«الشرقية تُبدع»، مبادرة الشراكة المجتمعية التي تحتفي بـ«الإبداع من عمق الشرقية».

وفي «رأي ثقافي»، أوضح أستاذ السرديات وعضو جائزة «القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيراً»، د. حسن النعمي، دور الجائزة في صناعة مشهد مختلف، بينما حلَّ الشاعر عبد الله العنزي، والخطّاط حسن آل رضوان في ضيافة زاويتي «شعر» و«فرشاة وإزميل»، وتناول أحمد عبد اللطيف عالم «ما بعد الرواية» في الأدب الإسباني، بينما استذكر عبد السلام بنعبد العالي الدور الأكاديمي البارز للروائي والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي. أما علي فايع فكتب عن «المبدع الميّت في قبضة الأحياء»، متسائلاً بصوت مسموع عن مصير النتاج الأدبي بعد أن يرحل صاحبه عن عالم الضوء.

في باب «علوم وتكنولوجيا»، تناولت د. يمنى كفوري «تقنيات التحرير الجيني العلاجية»، وما تعِد به من إمكانية إحداث ثورة في رعاية المرضى، رغم ما تنطوي عليه أيضاً من تحديات أخلاقية وتنظيمية. وعن عالم الذرَّة، كتب د. محمد هويدي مستكشفاً تقنيات «مسرِّعات الجسيمات»، التي تستكمل بالفيزياء استكشاف ما بدأته الفلسفة.

كما تناول مازن عبد العزيز «أفكاراً خارجة عن المألوف يجمح إليها خيال الأوساط العلمية»، منها مشروع حجب الشمس الذي يسعى إلى إيجاد حل يعالج ظاهرة الاحتباس الحراري. أما غسّان مراد فعقد مقارنة بين ظاهرة انتقال الأفكار عبر «الميمات» الرقمية، وطريقة انتقال الصفات الوراثية عبر الجينات.

في باب «آفاق»، كتب عبد الرحمن الصايل عن دور المواسم الرياضية الكُبرى في الدفع باتجاه إعادة هندسة المدن وتطويرها، متأملاً الدروس المستفادة من ضوء تجارب عالمية في هذا المضمار. ويأخذنا مصلح جميل عبر «عين وعدسة» في جولة تستطلع معالم مدينة موسكو بين موسمي الشتاء والصيف. ويعود محمد الصالح وفريق «القافلة» إلى «الطبيعة»، لتسليط الضوء على أهمية الخدمات البيئية التي يقدِّمها إليها التنوع الحيوي. كما تناقش هند السليمان «المقاهي»، في ظل ما تأخذه من زخم ثقافي يحوِّلها إلى مساحات نابضة بالحياة في المملكة.

ومع اقتراب الموعد المرتقب لافتتاح قطار الأنفاق لمدينة الرياض ضمن مشروع «الملك عبد العزيز للنقل العام»، ناقشت «قضية العدد» موضوع النقل العام، إذ تناول د. عبد العزيز بن أحمد حنش وفريق التحرير الضرورات العصرية التي جعلت من النقل العام حاجة ملحة لا غنى عنها في الحواضر الكبرى والمدن العصرية؛ فيما فصَّل بيتر هاريغان الحديث عن شبكة النقل العام الجديدة في الرياض وارتباطها بمفهوم «التطوير الحضري الموجّه بالنقل».

وتناول «ملف العدد» موضوعاً عن «المركب»، وفيه تستطلع مهى قمر الدين ما يتسع له المجال من أوجه هذا الإبداع الإنساني الذي استمر أكثر من ستة آلاف سنة في تطوير وسائل ركوب البحر. وتتوقف بشكل خاص أمام المراكب الشراعية في الخليج العربي التي ميَّزت هذه المنطقة من العالم، وتحوَّلت إلى رمز من رموزها وإرثها الحضاري.