هل أحرقت شمس الحقائق شموع محمد حسنين هيكل؟

المتصالح مع طهران.. وزير الدعاية الذي يكرّر سقوطه

هل أحرقت شمس الحقائق شموع محمد حسنين هيكل؟
TT

هل أحرقت شمس الحقائق شموع محمد حسنين هيكل؟

هل أحرقت شمس الحقائق شموع محمد حسنين هيكل؟

كان يتحدّث عما سماها خطة الرئيس الأميركي الأسبق دوايت آيزنهاور لعزل مصر عن العالم العربي وتغيير ملامح الحياة فيها، في عهد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، ومعها اتجهت مصر إلى الاتحاد السوفياتي في عز الاشتغال بوأد المعسكر الغربي للشيوعية.
وعاد بذات النبرة والبنية الهيكلية لخطاب الكلمات مسترسلا، يحاول الثورة على صورة التحليلات الواقعية بعلاج هو الداء. كيف لا، وهو المكروه اليوم كما الأمس من كل التيارات والأحزاب السياسية، عدا مرحلة صانع بريقه في المرحلة الناصرية، ليكون في دفتر مخضرمي الصحافة العربية.

في كل مرحلة يمتدح محمد حسنين هيكل قائدها، وبعدها لا يلبث أن ينقلب على من رسم الإطراء لهم. فبعد عبد الناصر، صاغ مقالاته في صحيفته «الأهرام» التي رأس تحريرها قرابة العقدين مدادًا من ذهب لحقبة الرئيس أنور السادات، قائلاً عنه: «سيظل السادات قائدًا تاريخيًا لشعبه، وهي قيادة يتضاءل أمامها كرسي الرئاسة إلى جوار مقعد القائد والزعيم الذي يمثله السادات نفسه». لكنه عاد منقلبًا عليه رغم انتصارات «حرب أكتوبر»، وبعدها انقلب على الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك رغم أن مبارك كان مَن كسر قيودًا أمنية كانت تحيط بمعصميه بعد أن شمله الإيقاف بعد اغتيال السادات.
ومع مرحلة الثورة المصرية في يناير (كانون الثاني) 2011 كان متحمّسا لأفكار الثورة الشبابية، وانتقد «المجلس العسكري» الذي قاد الجمهورية إلى مسار تأمين الانتقال نحو المرحلة الديمقراطية. وقبل وصول «الإخوان المسلمين» إلى الحكم كان من أشد الناقمين عليهم واصفًا وصولهم إلى السلطة بأنه «كارثة»، لكن بعد سقوط «الإخوان» بأيام عقد هيكل اجتماعًا مع قيادات من حزب الحرية والعدالة الإخواني لبحث سبل إعادة الجماعة إلى الواجهة، وذلك في سبتمبر (أيلول) من عام 2013، رغم اتهامه للجماعة من قبل بإحراق مكتبته ومنزله.
وبعد إنقاذ الجيش لمصر نتيجة فشل محمد مرسي وجماعته في السلطة، قال إنه يرفض ترشح الفريق عبد الفتاح السيسي (وزير الدفاع آنذاك) في أعقاب سقوط نظام مرسي. وأضاف هيكل: «أعرف أن الرجل يواجه مأزقًا شديدًا، وفي آخر لقاء لي معه رأيت أمامي رجلاً حائرًا ولديه أسباب حقيقية للحيرة، فهو يواجه مأزقًا حقيقيًا»، كون الجيش المصري سيفقد بريقه، لكن وكالعادة، عاد وكأن الكلمات لا تحفظ في أرشيف الصحافة الذي يعشق هيكل تقليب صفحاته، ليقول إن الرئيس السيسي «أنقذ مصر» من محاولات صياغة خريطة جديدة للمنطقة.
الواقع أن تصريحات هيكل تحاط دومًا بكم هائل من الجدل واللغط لما تتضمنه عادة من مغالطات تاريخية وتحليلات يعتبرها أهل الشأن بعيدة عن أبجديات التحليل الرصين، وهذا ما وضعه في مرمى كثيرين انتقدوا طروحاته، لا سيما تلك التي توهم القارئ والمتابع له بأنه كان في مطابخ الظل وراء العديد من القرارات حول الشرق الأوسط.
ومن أحدث تحليلاته المثيرة للجدل واللغط ما ورد في حوار صحافي أجرته معه صحيفة «السفير» اللبنانية يوم 21 من شهر يوليو (تموز) الماضي، وخلاله عاود هيكل الظهور على خلفيات أحداث كبرى في المنطقة، كان أبرزها «عاصفة الحزم» التي أغضبت إيران لأنها قوضت مخطط طهران الإقليمي المنطوي على دعم ميليشيا الحوثي وترسيخ هيمنتها على اليمن.
هيكل قال في حواره الشهير، الذي وقف فيه صراحةً في صف إيران - وهو المعتاد خلال حواراته الأخيرة على القول إن إيران صاحبة النصر الأكبر بعد الاتفاق النووي مع قوى المجتمع الدولي - إن «السعودية ودول الخليج أضعف من أن تشاغب على الاتفاق». ثم اعتبر أن السعودية، التي دعمت مصر بعد ثورتيها في يناير 2011 و30 يونيو (حزيران) 2013 «دولة غير قابلة للبقاء»!
من ناحية أخرى، دافع هيكل خلال الحوار مع «السفير» عن نظام بشار الأسد رغم الأعداد الهائلة من الضحايا والنازحين والمشردين، بفعل الفظائع التي يقترفها نظام الأسد بحق الشعب السوري. كذلك دافع عن حزب الله ذراع إيران في المنطقة، معتبرًا أن قتاله ضد السوريين داخل الأراضي السورية قتال «الدفاع عن نفسه، وليس في معركة إثبات نفوذ»، وذلك رغم ما تكشفه دول الخليج من أن الحزب في قفص الاتهام بسبب سعيه إلى ضرب استقرار الخليج من بابي البحرين والكويت.
ولم ينسَ هيكل خلال الحوار المذكور مع «السفير» - التي سوّقت لقب «الأستاذ» على هيكل، وجعلت منطلق أسئلتها من باب إيران ومن ثم قياس ذلك على الداخل اليمني وعلاقة الخليج باليمن - القول إنه يرى من مصلحة مصر التقارب مع إيران، وهي (أي مصر) التي طوت تلك الصفحة التي أحدثها حكم محمد مرسي في عامه الوحيد.

* «الحالم بالسياسة من باب الصحافة»
محمد حسنين هيكل، العجوز ذو التسعين عامًا، يوصف بـ«الحالم بالسياسة من باب الصحافة». كان مستشارًا إعلاميًا لعدد محدود من الزعماء السياسيين المصريين، ورغم أنه تدرج بقوة وبزغ نجمه كمحلل لخريطة الشرق الأوسط، يظل خروجه بعد المرحلة الناصرية كارثيًا، فكثير من التحليلات تسقط خارج دفة الحدث، وقراءاته تساق إلى هوامش غير مرتبة. لا حقيقة تقع ولا تحليل يصيب، وربما في وصف الكاتب محمد علي إبراهيم، عن حسنين هيكل أنه «كان مؤسسة ذاتية نجح في ترسيخها وتسويقها في عقول الأجيال المتلاحقة. وكانت النتيجة أنه أساء للتاريخ والباحثين».
يُعد هيكل مدافعًا متحمسًا عن إيران وأعوانها في المحيط العربي، مع أن أول كتبه كان عن إيران، وحمل عنوان «إيران فوق بركان» الصادر عام 1951، واليوم وفق رؤيته يرى أن الخليجيين لديهم مخاوف وصفها بـ«غير المبرّرة» من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من دون أن يتطرق حتى في صولاته التلفزيونية الأخيرة إلى شيء من النقد حول إيران.
وفي أواخر عام 2013، لم يرَ هيكل أن حزب الله حقًا تنظيم إرهابي، وفي تبريره ما ذهب إليه استشهد بالأمم المتحدة - التي ينتقدها غالبًا - فقال إنها لم تستطع أن تجعل الحزب في قائمة التنظيمات الراعية للإرهاب. ومن ثم، انغمس في تمرير فكرة «المقاومة» والمواجهة ضد إسرائيل، مطالبًا بأن يكون حزب الله وزعيمه حسن نصر الله ضمن الحسابات. فهو يراه فاعلاً ولاعبًا رئيسيًا في المنطقة، بينما لا يرى قص أجنحة إيران في سوريا ولبنان والعراق، وهذا ما يجده محللون تفسيرًا لمعارضته «عاصفة الحزم» التي أعادته إلى الواجهة الإعلامية بعدما اتخذ قرارًا بالركون للراحة، فعاد حاملاً لواء المعارضة ضد العاصفة، في ظل مشاركة القوات المصرية ضمن قوات التحالف، حفاظًا على الأمن القومي العربي.
أما موقفه الوحيد الثابت الذي لم يتغيّر عنه منذ الستينات، رغم تكالب الظروف وتغير هوى الأحداث، فهو موقفه السلبي من الخليجيين؛ إذ لم يقف هيكل ولو بالكلمة الحق مع الخليجيين الذين أسهموا في إنقاذ مصر ودعموها في مراحل حاسمة وتحدّيات جمّة وأخطار متلاحقة تطاردها، بل هو يعتبر الخليج فرصة له أن يعوم بين خيراته، واللعنات أكثر من شكره.
ثمة محللون وكتّاب عرب مقتنعون بأنه مصاب بـ«عقدة الخليج والسعودية»، إذ لا تتغير صيغة خطاباته تجاه قادة الخليج، بل بدأت تأخذ الطابع الثوري على السعودية مع صعود الثورة الخمينية في إيران، وهو ما يجد التفسير من تقارب تيارات الود مع طهران وكذلك جماعة الإخوان المسلمين مع هيكل.
ولقد ألف المؤرخ العراقي سيار الجميّل، عام 1999، كتابًا عنونه بـ«تفكيك هيكل»، آخذًا البعد النقدي في ما يعتمد عليه هيكل في وثائقه ومستنداته وبعض مقالاته وتصريحاته، وقبلها ارتباطاتها الشخصية والفكرية. وجعله تحت مجهر نقدي واستعراض شامل وردود تاريخية خاصة في علاقة المملكة الأردنية متخذًا - أي الجميّل - وضع الطبيب المشخّص لكل السموم التي يحاول تسويقها عن دور الأردن ملكًا وشعبًا في القضايا العربية، ومثلها دور المغرب والعراق إزاء القضايا العربية، وهي للعلم أدوار لا تروق للصحافي السياسي هيكل.
ويبرز الجميّل كأحد الناقدين بل وأشدهم شراسة في مواجهة هيكل، رغم تكرار قول الأول إنه لا يبحث عن مجد سوى أنه - والحديث ما زال عن سيار الجميّل: «مؤمن بأن هيكل يلعب دورًا خطيرًا عندما يتلقف الناس كتبه أو يجلسون للاستماع إلى حكاياه.. من دون أن ينبههم أحد إلى طبيعة ما يكتبه أو ما يقول».
الدكتور الجميّل الذي قال عن هيكل إنه «بارع في اللف والدوران.. يستطيع أن يجعل من اللون الأبيض أسود ومن الأسود أبيض.. لكنه يفر من الميدان حين يرى أن هناك من سيجادله أو يعلمه أسلوب الكشف عن الحقيقة»، فتح النار مجدّدًا على الصحافي والكاتب المصري الذي يراه البعض قامة تاريخية عالية عبر كتاب «بقايا هيكل»، مستعرضًا في فصول عدة نشرت بعضها صحف مصرية ومنها صحيفتا «الوفد» و«روز اليوسف» ما يعطي الانطباع بالرأي بأن هيكل يجد المعارضة حتى من طيف واسع من المصريين، رغم هرميته التي شكّلها بين الباحثين والطلبة في مصر.
يقول المؤرخ الجميّل إن اتهاماته للعديد من الزعماء بعد رحيلهم مباشرة تلفيقية وخطيرة من القصص والأكاذيب عنهم ولا أساس لها من الصحة، بعد أن يكون قد مدحهم وهم أحياء، ومنهم: أنور السادات والملك حسين والملك سعود والملك فيصل والملك الحسن الثاني والملك إدريس وشاه إيران وغيرهم.
من جهة ثانية، يعتبر المفكر والكاتب السعودي علي العميم أن الجميّل لم يوفق في عرض المادة الكبيرة عن هيكل، لكنه رغم ذلك يعد ما أنجزه بداية جادة وجدية لدراسة شاملة وموسعة ودقيقة لهيكل. وأردف العميم الذي صفّ ذلك الرأي في كتابه «شيء من النقد.. شيء من التاريخ» أن أقوى السجالات وأمتنها التي تعرضت لمنهجية التفكير لدى محمد حسنين هيكل هو كتاب فؤاد زكريا «كم عمر خريف الغضب.. هيكل وأزمة العقل العربي»، الذي ألفه بعد كتاب هيكل «خريف الغضب». ولقد قدّم زكريا من خلاله طروحات نقدية كاشفًا عن أقنعة عربية كان يحرص هيكل عليها.
أما الكاتب التونسي سيد الحمادي، الذي ظل دهرًا في خصام مع هيكل قبل أن يركن إلى الصمت بعد طول انتظار منه لهيكل للرد على كتابات دقيقة سبقه بها سيّار الجميّل، فيرى خلال حديث مع «الشرق الأوسط» أن «هيكل يبتعد عن مرافئ الحقيقة رغم وضوحها»، معتبرًا أنه وإن كان لهيكل من بعض توثيق صحيح خاصة في حقبة العهد الناصري فإن كشف الرئيس محمد نجيب (أول رئيس لجمهورية مصر العربية) حول تنميقه للأكاذيب يعد نقطة تستحق مراجعة لأجيال اليوم تبحث عن الحقيقة وليس الكلام بالصوت والتعبير عنها بمواقف شخصية، على حد وصفه. وأضاف أن علاقة هيكل بدول الخليج دومًا ما تكون بعيدة عن فهم الذهنية العربية لطبيعة العلاقات بين الخليجيين ومواقف الدول التي تظل، في رأي الكاتب التونسي، ثابتة، عادًا إياه «مجرد شخص يحاول قراءة التاريخ ويسعى إلى إسقاطه على سراب الوحدة الذي كان هيكل يمتصّ منه طوال عقود». ويخلص الحمادي إلى القول: «إن ما سيكسر طوق هيكل اليوم هو هيكل نفسه مهما تعدّدت النصوص ردًا عليه؛ نظير الوجودية التي ينغمس فيها دون مراعاة للأطراف الأخرى أو مناقشتها في وثائق ليست ذات صدقية، خاصة ما عرضه منها في برنامجه الذي يراه (فخًا) وبثته قناة الجزيرة».

* استنطاق الموتى
يقول هيكل في التباسات تتكرر: «إن الجزر الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، قد جرى التنازل عنها لإيران مقابل استقلال البحرين وإمساك الأقلية السنية بالحكم فيها»، زاعمًا مشاركته في مفاوضات خلال عهد جمال عبد الناصر. وكان حينها رد وزير الخارجية البحريني الشيخ خالد آل خليفة ببضعة أحرف عبر الطائر الأزرق «تويتر»: «حسنين هيكل لا يستنطق إلا الموتى وأصحاب الآخرة.. إن كانت لديه وثيقة واحدة تثبت مزاعمه عن البحرين وجزر الإمارات فليبرزها.. وإلا فليصمت».
ومن السعودية، كان السفير السعودي في القاهرة ومندوب المملكة الدائم بالجامعة العربية، أحمد قطان، في منحى تفكيك هيكل بصيغة رسمية قوية، إذ قال بعد تزايد هجوم هيكل على السعودية إن «علاقة المملكة ومصر ستبقى قوية رغم أنف هيكل، فالرجل لا علاقة له بالحقائق ويقول كلامًا مغلوطًا»، في معرض إجابة عن تساؤل أثناء لقاء السفير بصحافيين أوائل شهر أغسطس (آب) الحالي.
والحقيقة أن هجوم هيكل على السعودية ليس وليد الأمس ليتكرر اليوم، بل كان منهجه منذ بواكير طلعته، إبان رئاسته لتحرير «الأهرام»، ذا توجهات تتحدى القيادة السعودية في عهد الراحل الملك سعود. وفي ما بعد تجاهل دور الملك فيصل رحمه الله بعد «نصر أكتوبر»، وكذلك دور المملكة الحاسم في تحرير الكويت، معتبرًا آنذاك أن السعودية تقود «حربًا صليبية»، لكن الصحافة المصرية فسرت خلفيات هجومه بالقول إنه «يزعجه أن تظل السعودية آمنة ومستقرة وصانعة تنمية».
هيكل عاش أزمنة الحضور الأولى التي اشتعل بريقه خلالها في ظل عبد الناصر. وكان ذراعًا إعلامية في زمن «الانتكاسة» وفشل الوحدة العربية. يشابه زمن النصر الصوتي، وبالصوت يحضر حاليًا، بأراجيف الحكواتية، فلا يزال يحاول النيل من كل وحدة عربية أو وقفات جادة لإعادة بلورتها ما لم تكن ناصرية المكان والهوى، رغم خسارتها فكرًا ومشروعًا آنذاك. وهذا بينما تسعى دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، اليوم إلى لمّ الصف العربي، لمواجهة التحديات والاضطرابات، وعلى وجه الخصوص الشرق الأوسط.
من جهة أخرى، علّق السياسي المصري مصطفى الزهار، لـ«الشرق الأوسط»، قائلاً إن ما يعاب على محمد حسنين هيكل ومسانديه أخذ تصريحاته التي تجانب بعضها الحقيقة وكأنها رأي رسمي، مشددًا على أن هيكل يحمل الكثير من المغالطات التي لا تدعم وجود بلاده وتحدياته منذ الماضي وحتى اليوم، وأن «هيكل غير جيد للحديث عن التاريخ المصري وليس العربي فقط».

* قضية التسميم المزعوم لعبد الناصر
واستشهد الزهار باتهام هيكل للرئيس السادات والتلميح إلى أنه «سمّم الرئيس جمال عبد الناصر» وفق حديثه في قناة «الجزيرة». وقال عن ذلك الاتهام إنه وبعدما رفعت عائلة السادات دعوى على هيكل تراجع عن اتهامه، واعتبر أن ما قاله أحاديث يتحدث بها المجتمع المصري، لكن الحقيقة وفق حديث الزهار أن هيكل جعلها مثار حديث رغم عدم وجود أي أدلة. ومن ثم شرح الزهار الكثير من الإشكاليات التي ترافق مقالات وحوارات هيكل، أبرزها «غياب الموضوعية في تناول الشؤون التاريخية، ومحاولته إثبات أنه يمتلك وثائق في مسيرته تغيب عن وثائق الدولة، إضافة إلى إيقاع خلافات سياسية بين الدول، وهذا أمر يحتاج إلى الدراسة والبحث لا مجرد نقل، أساء إلى كثير من الدول العربية».
وعن سر اتهاماته لدول الخليج وكيل الاتهامات لها، قال الزهار إن «مشروع هيكل لم يتخل عنه منذ ثورة الخميني في إيران ودعمه للمشروع الفارسي، الذي يحاول إلغاء المحيط بها وتعزيز العلاقة مع مصر، وكذلك تركيا»، نظرا لأسبقية هيكل في العمل مستشارا لقيادات الثورة في إيران، وهو ما عده سعيا إيرانيا لتوظيف عدد من الإعلاميين والسياسيين المصريين.
وكانت لهيكل مشاركة في صياغة كتاب معمّر القذافي «الكتاب الأخضر» الذي تحوّل منذ صدوره وحتى اليوم إلى كتاب تتقاذفه السخريات في كل البلدان العربية، لكن، ورغم الاسم الذي صنعه هيكل لنفسه في العالم العربي، يبدو أن مقولة جوزيف غوبلز وزير الدعاية في عهد هتلر، تروق له ويطبق مضمونها، عندما قال «الدعاية الجيدة أن تكذب وتكذب حتى يصدقك الناس». ورغم قرب هيكل من جمال عبد الناصر، فحتى الأخير لم يسلم من هجوم هيكل عليه في مقالات عديدة، ويورد المحامي المصري الراحل طلعت السادات، نجل شقيق الرئيس أنور السادات، أن هيكل كان يتوقع بعد النكسة (1967) أن يكون نائبا للرئيس عبد الناصر، وهو ما حاول تسويقه عبر علاقاته بالإعلام الغربي.



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.