المثقفون المغاربة وعادة القراءة في الصيف

لا يميزون بين الفصول.. ويرون أن الصيف ليس عطلة من الكتابة والقراءة

عبد الصمد الكباص  -  محمد اشويكة  -  عزيز الراشدي
عبد الصمد الكباص - محمد اشويكة - عزيز الراشدي
TT

المثقفون المغاربة وعادة القراءة في الصيف

عبد الصمد الكباص  -  محمد اشويكة  -  عزيز الراشدي
عبد الصمد الكباص - محمد اشويكة - عزيز الراشدي

هل يحافظ المبدعون والكتاب المغاربة على عادة القراءة في فصل الصيف، أم تراهم يتخففون من «هم» القراءة والكتابة معا، وينشغلون كالجميع بأجواء العطلة بحثًا عن الراحة والاستجمام، في انتظار مرور أشهر الصيف وظهور تباشير ما يسمى بـ«الدخول الثقافي»؟
ثم ماذا تعني «العطلة» بالنسبة للمثقف المغربي، قارئا وكاتبا؟ وهل يمكن للمبدع أن يقتطع لنفسه عطلة من فعل القراءة والكتابة، أم أن من سكنه جن الإبداع لا يحتاج «العطلة» ما دام في حاجة متواصلة إلى تجديد صلته بالأدب؟
يرى الكاتب والباحث عبد الصمد الكباص أن «العطلة صيغة مختلفة في تدبير العلاقة مع الزمن»، مشددا على أن العلاقة التي يضبطها الالتزام الصارم بمواعيد بعينها، تحول الحياة إلى ما يشبه انضباطا آليا محكوما بالمنطق الممل للتكرار. ففي العطلة، يضيف الكباص، «يتغير مفهوم المردودية والنجاعة الذي يحكم منطق العمل، فتتيح للذات أن تتذكر نفسها، عبر خلق أسلوب في الحياة، يقاوم الإيقاع الرتيب للأيام العادية التي يؤول فيها الزمن تأويلا اقتصاديا محضا»، لذلك تبقى العطلة، في النهاية، «مسألة إيقاع».
عن علاقته كفرد بالعطلة، يقول كاتب «الرغبة والمتعة»: «أحس أنني في عطلة عندما يكون بإمكاني أن أنصرف عن الكتابة بحرية، وعندما يكون من حقي أن أستغني عن الهاتف المحمول، فلا أكون مجبرا على الرد على مكالمته. لا عطلة بالنسبة لي والهاتف المحمول مفتوح، لأن المحمول هو إرادة الآخر تتلاعب بحريتي».
وعن علاقته، ككاتب ومبدع بالعطلة، يقول مؤلف «الحدث والحقيقة» و«الجسد والكونية»: «أن أعطل علاقتي بالكتابة مسؤولية صعبة، لكن أن أتحرر من الالتزام بها كموعد، فذلك ما أعمل عليه أيام عطلتي التي تكون فيها الأولوية لاكتشاف مذاقات جديدة للحياة، أساليب مختلفة في صنع اللحظة، الإنصات للذات، خلق الفراغات اللازمة للدماغ لكي يتنفس».
وعن علاقته، ككاتب ومبدع مشغول بهم القراءة بالعطلة، يقول الكباص: «القراءة شيء آخر غير الكتابة. إنها سفر في حد ذاتها. لذلك لا يمكن الاستغناء عنها في الأسفار. في العطلة، وخصوصا في فصل الصيف، أكف عن قراءة كتب من طينة تلك الأعمال التي تلتهم أيامي في العادي من الأوقات، أقصد كتب الفلسفة. العطلة اختيار آخر للأمكنة والناس والكتب. لذلك أفضل قراءة السير والروايات أيام عطلتي. بل إن ذكريات عطلي مرتبطة بأعمال بعينها، وبمؤلفين وبأسماء شخصيات».
بالنسبة للقاص والناقد السينمائي محمد اشويكة، «لا يحتاج الكاتب إلى عطلة كبقية الموظفين والعمال، وإنما هو في حاجة دائمة إلى تجديد صلاته العنكبية بالحياة، يواجهها وتواجهه، يقارعها وتقارعه، فيها مَعِينُهُ، منها يستمد طاقة الكتابة والمقاومة معا، فهي لا تمنح نفسها بسهولة لكل الناس». لذلك، يرى كاتب «الصورة السينمائية.. التقنية والقراءة» و«مجازات الصورة» أن «الكتابة حالة سفر وترحال دائمين، تشبه ملاحقة الحياة الهاربة من حولنا»، لذلك، يعتبر العطلة السنوية، صيفية كانت أم شتوية، ربيعية أم خريفية، «فرصة لتأمل التغيرات الجارية من حولي، والمتسارعة الإيقاع، خاصة وأن علاقتي بالقراءة والكتابة ومشاهدة الأفلام ثابتة بحكم الشغف والعمل معا، فالمجالات التي أتحرك في سياقها دائمة الوصل بالثقافة، لذلك يصعب فك الارتباط بين الجانبين».
نظرا لتعدد انشغالاته الإبداعية، يتحدث صاحب «القردانية» عن «ثلاثي القراءة والكتابة والمشاهدة»، مشددا على أن العطلة، بمفهومها الرسمي، تمنحه «فرصة مضاعفة لقراءة ما أريد، وتجاوز الكتابة تحت الضغط رغم أنني مدين لذلك الإكراه الجميل. صحيحٌ أن الإيقاع البيولوجي يتغير لأن عادات النوم والأكل تتبدل بدورها، فَلَيْلُ العطلة يستحوذ على نهار الأيام الأخرى الجائرة، إنه محفز مثالي على صفاء التأمل وطارد للغط النهار، وما السفر إلا وقود للكتابة كالقراءة والمشاهدة، فقد يجد المرء نفسه محاطا بجملة من الروافد التي تنعش الخيال وتبعث في النفس القدرة على قنص أفضل اللحظات».
يعترف اشويكة بأن أفراد أسرته قد يعيبون عليه، من حين لآخر، ميله للوحدة، لكنهم اعتادوا على إيقاعها وأدركوا بفعل الوقت أنها تعبير رفيع عن الحب، فيها درءٌ لكل السلبيات التي يُحْتَمَلُ أن تأتي من خارج تلك الدوائر المستعصية للحروف والصور التي لا يتأثر تعاطيها بأي ارتباط عائلي ما دامت غير متناقضة مع ميولاتهم، ولا مؤثرة في إيقاعهم، بل هي بانية لجزء من تاريخي المشترك معهم خاصة إذا اعتبرنا أن أفراد الأسرة يتقاسمون التفاعل فيما بينها، يتبادلون العطاء والشغف، ويؤثرون ضمنيا في بعضهم البعض، فلا ضير في أن تكون القراءة والكتابة والمشاهدة والموسيقى أواصر تأسر أفراد أسرتي وتجمعهم في آن.
من جهته، يرى القاص والروائي عبد العزيز الراشدي، الذي يقضي عطلته في إقامة أدبية بـ«فرجينيا» بالولايات المتحدة، تتمحور الغاية منها حول الكتابة، أن الصيف سيكون مختلفا بالنسبة إليه مقارنة بأغلبية المثقفين المغاربة، نظرا للأهداف المسطرة من هذه الإقامة الأدبية. ويقول: «سوف أسعى خلال ما تبقى من العطلة إلى مناوشة نصّ أدبي لم تُتح لي الفرصة لإكماله، كما سأسعى لقراءة بعض النصوص التي أحضرتُ معي. العطلة بالنسبة لي عطلة من العمل المعتاد، لكنها ليست عطلة من الكتابة والأدب والقراءة».
لكن، هل تؤثر طبيعة الصيف وارتباط الكاتب بـ«عطلة» المحيطين به في علاقته بالكتابة والقراءة؟ يجيب صاحب رواية «مطبخ الحب»: «حين أمضي الصيف لوحدي، لا تتبدل عاداتي، لأنني لا أكون مجبرا على مسايرة أحد في إيقاعه. لكن عندما أمضي الصيف مع العائلة، تكثر العوائق والتحديات، لأن الناس غالبا ما ينظرون إلى اهتماماتك بعين ساخرة. هناك بؤس فكري في المجتمع العربي يجعل مشهد قارئ على الشاطئ مشهدا مستفزا ويدعو للسخرية. وغالبا ما يلومك الناس حين تقرأ في الصيف، ويقولون: يا رجل، ارتح قليلا فالصيف للمتعة، مع أنني لا أعرف متعة أروع من كتاب».
وعن سؤال ماذا يقرأ في الصيف، وأي كتاب أو كتب يختار قراءتها في عطلته؟ اعترف كاتب رحلة «يوميات سندباد الصحراء»، بأنه لم يقرأ كتابا من اختياره منذ مدة، مفسرا ذلك بكونه يعيش إيقاع بحث خاص يعدّه، وأن كلّ قراءاته في هذا الاتجاه.
هكذا، لا يبدو الكتاب المغاربة مهتمين بالتمييز بين فصول السنة لتسجيل نوع من التراخي الذاتي في فعل القراءة والتواري خلف متطلبات السفر وتلبية رغبة العائلة للتخفف مؤقتا من الشواغل اليومية في انتظار انقضاء العطلة الصيفية والدخول في دوامة الدخول المدرسي والجامعي والثقافي، ليبقى فعل القراءة ذريعة تبقي المبدع متحفزا للخلق والكتابة، بشكل يربط القراءة بـ«حالات من السعي والبحث الدائم عن المعرفة»، بينما «تعين المبدعين على الكتابة وأعبائها وتجعلهم في قلب المشهد الثقافي ومنتجه المتواتر»، كما «تؤدي إلى تقوية اللغة والأفكار وتوسعة الأفق»، لذلك كتب الشاعر محمد بشكار، تحت عنوان «رحلة القراءة في الصيف»: «حقا، لا غيم يمكن أن يتسرَّح فيئا أو مظلة وارفة في قيظ هذا الصيف المرجلي، أرهف من كتاب لا نهائي يشد الحواس عميقا بالمتعة الفكرية واللغة الخلاقة، وكأن لا غلاف يحد امتداده الجمالي، بل يستمر في الانكتاب في الرأس بجاذبية الصورة وقوة الإيحاء، حتى بعد إغلاق دفتي الكتاب، لينتج عنه عمل آخر في الشعر أو الفكر يحمل توقيع القارئ».



انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية
TT

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

انفتاح على الأدب العربي ونوافذ خاصة على الثقافة العراقية

صدر حديثاً عن دار «سطور» ببغداد كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» للمؤلّف السعودي محمد رضا نصر الله، الذي عُرف منذ السبعينيّات إعلامياً اتخذ من الصحف والمجلات والتلفزيون وسيلة للتعبير عن أفكاره ورؤاه.

انفتح عنوان الكتاب على لفظ أصوات وهي تلاحق الأَثر المسموع الذي يصل الآذان جرّاء تَمَوُجات قادمة من مصدر ما ينتمي إلى الأدب المكتوب بجنسيه المعروفين الشعر، والنثر، وما يتناسل منهما من أنواع أدبيّة معروفه، وأنماط، فضلاً عن أصوات الفكر التي تعامل معها المؤلّف بروح الأدب، وخفايا أخرى اتخذت من المجتمع ظواهر حاول المؤلّف نصر الله أن يقف عندها موقفاً يبعده عن أسلوب العرض، ليقرّبه نحو ممارسة النقد، وحضور المساءلة المنفتحة على البيئات الحاضنة للأدب سواء كانت تاريخيّة أم جغرافيّة أم اجتماعيّة أم لسانيّة؛ تلك التي تحيل على مقولات عامرة بالمعنى.

وتفضي قراءة الكتاب إلى الوقوف عند ظواهر ثقافيّة تنتمي إلى ثقافة الوطن العربي جميعه من مشرقه إلى مغربه، وهذا دليل على سماحة الفكر الذي حمله المؤلّف واتساع معرفته بالثقافة العربيّة القديمة والحديثة، بل تجد في الكتاب أشتاتاً من الإحالات التي تلاحق ما في آداب الشعوب الأخرى، ولا سيّما تلك التي لها أثر في ثقافتنا المعاصرة.

من هنا وجدتُ المؤلّف منفتحاً على الأدب العربي من دون أن يشعر بعقدة الانتماء إلى أدبه الوطني، فهو يتحدّث عن الأدب العراقي والمصري والمغربي والخليجي والفلسطيني، والسوري، والسوداني بوصف كلّ منها جزءاً من أدب أكبر هو الأدب العربي بتيّاراته المحافظة المعروفة، ومحاولات التجديد فيه. وبالنظر لسعة حجم الكتاب (449 صفحة)، فإنّ هذه المقالة ستلاحق مضمون الكتاب من خلال النافذة التي رأت الأدب العراقي، واتخذت منه وسيلة للقراءة، والتحليل المفضي إلى بيان ما ودّ المؤلّف قوله فحسب؛ بسبب حجم المقالة وحرصها على عدم الاتساع.

بدءاً لا بد من التأكيد على أن المؤلّف امتلك معلومات مهمّة عن الأدب العراقي مصدرها القراءة، والملاحقة الميدانيّة، والانفتاح الثقافي على أحوال العراق، والمشاركة في قسم من فعّالياته التي كانت علامة في تاريخ الثقافة العراقيّة مثل: مهرجان المربد، فضلاً عن علاقاته المتميّزة مع أدباء العراق ممن رحل إلى دار البقاء، أو ممن يعيش الآن منتجاً للثقافة والفكر، وعندي أنّ المؤلّف في انفتاحه الثقافي على الحياة العراقيّة كان جزءاً من حال الثقافة السعودية في جميع عصورها وهي ترنو صوب بغداد، والكوفة والبصرة، والموصل ليكون لها تواصل تامّ، ورغبة حميمة في جمع الشمل لمن يقرأ ويكتب بحروف لها تاريخها المضيء بعمر آلاف السنين، فهو - المؤلّف - متحسّس لتراب العراق، وروحه منغمرة في مياه دجلة والفرات - بحسب قوله - في إشارة كنائيّة إلى قربه من العراق أرضاً وشعباً، وقد زاره في أوائل الستينيّات كما ذكر، ولي أن أشير هنا إلى أنّ الموضوعات العراقيّة في الكتاب ظهرت مستقلة في مقالات سأتخذها مجالاً للقراءة، فضلاً عن ظهورها مختلطة مع مقالات أخرى لا شأن لها بالعراق لكنّ طبيعة الحديث في المقالة أفضى إلى الإحالة على ما في العراق، مثالها مقالة «صور معهم» التي تحدّث فيها نصر الله عن البحرين، وعن والده، والشاعر المصري أمل دنقل، ثمّ كانت الإحالة على ديوان بدر شاكر السياب «إقبال وشناشيل ابنة الجلبي» المُهدى إلى المؤلّف من غيلان ولد السياب البكر، وقد طوّف الحديث بالمؤلّف إلى استرجاع زيارته إلى جيكور في عام 1979.

اخترت الوقوف الأول عند مقالة «خطى المتنبي الهاربة بين ميمين»، وهي مقالة تابعت إشارة د. عبد الرحمن السديري التي مؤداها أن «بسيطة» التي وردت في قصيدة للمتنبي هي على مرمى من عيون ضيوفه، في إشارة إلى مكانها السعودي المعاصر، وهذه الإشارة أوحت إلى د. عبد العزيز المانع أن يتتبّع خطى المتنبي، فعمل أولاً على تحقيق «المآخذ على شراح ديوان أبي الطيب المتنبي» للأزدي، ليتمكّن فيما بعد من تحقيق «قشر الفسر» للزوزنيّ، ولم يكتف بذلك فتناول «الفسر الصغير في تفسير أبيات المعاني في شعر المتنبي» لابن جني فحقّقه، ثمّ عكف على السير على خطى المتنبي من مصر إلى حدود العراق مستعيناً بخرائط المساحة العسكريّة في عشر رحلات بين مصر والأردن وسوريّا، ولم يتمكّن من دخول العراق بسبب سوء الأمن يومها.

رأى مؤلّف الكتاب أن يوسف الشيراوي أصدر قبل المانع كتابه «أطلس المتنبي أسفاره من شعره وحياته»، وهو من الكتب الجليلة التي تابعت رحلات المتنبي الشهيرة، ويعود المؤلّف إلى قرن من الزمن مضى ليقف عند ألويز موزيل الرحّال والمستشرق النمساوي التشيكي الذي عاش أربعة عشر شهراً في قبيلة «الرولة»، مكتشفاً امتداد الصحراء وأهلها، فضلاً عن أنه رافق قوافل «عبدة» و«سنجار» إلى النجف، وقد وقف على موقع الخورنق الوارد في قصيدة المنخّل اليشكري، تاركاً كتباً أخرى في وصف مناطق من العراق تتبّع في بعضها طريق المتنبي الهارب من الفسطاط إلى دمشق، وتبوك والجوف والسماوة والرهيمة ثمّ الكوفة في شرح دقيق متعلّق بالأمكنة.

قام د. عبد العزيز المانع بعشر رحلات منطلقاً من أرض مصر ليصل الأردن وسوريا وشمال المملكة العربيّة السعودية وصولاً إلى حدود العراق، وقد ناقش في تلك الرحلات ذوي الخبرة، وهدفه إثبات رحلة المتنبي الحقيقية على الأرض في كتاب أنيق عنوانه «على خطى المتنبي»، وإذ أنتهي من قراءة المقالة أتساءل ما دلالة لفظ الميمين في عنوانها؟ لعلّه أراد بها مصر والمانع وقد شكَّلا فضاء تلك الرحلة عن قرب.

ووقفت ثانية عند مقالة «أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق»، التي أتى فيها على طبيعة العلاقات الثقافيّة التي ربطت السعودية بالعراق من خلال وقائع ماديّة، وثقافيّة مشتركة بين البلدين من خلال أسماء عاشت في العراق وهي تردّ إلى أصول نجديّة معروفة من أمثال: عبد اللطيف المنديل، وسليمان الدخيل، وسلمان الصفواني، ومحمد القطيفي، وعبد الحسين القطيفي، وعبد الرحمن منيف، ومحمود البريكان، وآخرين، وعندي أن أسماء أخرى ربّما غابت عن المؤلّف بسبب دورها المحدود في الحياة الثقافيّة والسياسيّة، ولا عجب من كثرة تلك الأسماء إذا ما علمنا أن أصل القبائل العربيّة في العراق يردّ إلى شبه الجزيرة العربيّة، وأنّ العلاقة بين الأرضين قديمة قدم الإنسان نفسه.

يممتِ الوقفة الثالثة شطرها نحو مقالة «ما لم تنقله الكاميرا... في حديث الجواهري»، وفيها أماط اللثام عمّا قاله الجواهري خارج حدود اللقاء الإعلامي الذي أجراه معه، وقد كشف المؤلّف عن كرم الشاعر، ومعرفته ببعض العوائل السعودية وأحوالها، وفي لقاء اليوم الثاني بعد المقابلة حاول الجواهري التقرب من السعودية مذكّراً مؤلّف الكتاب بقصيدته التي مدح فيها الأمير فيصل بن عبد العزيز حين زار العراق ممثّلاً لأبيه التي منها:

«فتى عبد العزيز وفيك ما في... أبيك الشهم من غرر المعاني»

تلك القصيدة التي مدح فيها الملك عبد العزيز، والأمير فيصل معاً، وقد نشرت في جريدة أم القرى في الثلاثينيات من القرن المنصرم، ثمّ قدّر للجواهري زيارة المملكة مشاركاً في مهرجان الجنادريّة في 21- 7- 1994.

ووقفت في وقفة رابعة عند «جنتلمانية الاستعمار بين الطيب صالح والجواهري»، وفيها أماط المؤلّف اللثام عن رؤية النقد الآيديولوجي الذي عدّ الطيب صالح أنموذجاً للمثقف العربي المنبهر بحضارة الغرب، والمتمثّل لقيمها الإمبرياليّة من خلال روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»، فضلاً عن عدّه منيف الرزاز في رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» أنموذجاً للمثقف الثوري المدافع عن قضايا الفلاحين، وكأنّ المؤلف أراد أن يكشف عن مضمر ذلك النقد الذي أثبتت الأيام خطله وهو يعتمد الصراع الذي يختزل العالم بين معسكرين لا ثالث لهما: الماركسي والرأسمالي رافضاً أن يكون الفن من أجل الفن نفسه، وقد استعان برأي الشاعر الجواهري الذي تباكى على عصر الملكيّة العراقيّة في مذكراته رغم معارضته الشديدة لذلك النظام بعد أن تخلّص من أهواء الآيديولوجيا.

وفي الوقفة الخامسة قرأت مقالة «مذكرات الجواهري» التي كان متنها مفاجأة للمؤلف، وقد وعى فيها الشاعر طبيعة الحياة السياسيّة التي عاشها في العراق وخارجه، وقد كتبها نثراً ذهبيّاً صافياً مسبوك العبارة بديباجة تكشف عن أسلوب رفيع، وهو الشاعر المطبوع فكأنه - والكلام للمؤلّف - جمع بين الصناعتين: الشعر والنثر، فقد وجد المؤلّف تلك الذكريات سرديّة صادقة انفتحت على تجربة الشاعر الاجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة التي لاحق فيها حياة قرن كامل وهو يسبر أغوار الأمكنة بين بغداد والمنافي التي اختارها.

وأخذني الكتاب نحو ريادة د. علي جواد الطاهر في تدريس الأدب السعودي وصناعة معجم مطبوعاته، ففي تلك المقالة سرد المؤلّف حكاية الطاهر الذي نزل الرياض أستاذاً في جامعتها في الستينيّات، فكان عليه أن يلمّ مبكّرا بشؤون الأدب السعودي بدءاً من كتاب «وحي الصحراء» لمحمد سعيد عبد المقصود، وعبد الله عمر بلخير، مروراً بكتابي «شعراء نجد المعاصرون» لعبد الله بن إدريس و«أدب الحجاز» لمحمد سرور الصبان، وانتهاء بما وجد من جرائد ومجلّات تسدّ حاجة قلمه، حتى قدّر له الاجتماع بأهمّ أدباء السعودية من أمثال: حمد الجاسر، وعبد الله بن خميس، وعبد الله بن إدريس، وقد طرح عليهم فكرة مشروعه الموثّق لتاريخ النشر في البلاد في معجم يعنى بالمطبوعات السعودية، فكان له أن بدأ بنشر أجزاء من ذلك المعجم في مجلّة العرب التي أحبها أولاً، ثمّ طوّر فيما بعد تلك المقالات كتاباً مستقلاً، فكانت للطاهر يد بيضاء في تاريخ الثقافة السعودية، وليس هذا بالغريب على شخصيّة الطاهر التي كانت دائمة الحضور ثقافيّاً بعيداً عن الإقليميّة والنظر الذي يضيقُ بالمكان.

ووجدتُ المؤلّف في «أيها العراقي هلَّا خرجت من مزرعة البصل؟» ينادي بصوت عالٍ العراقي المعاصر الذي يريده أن يخرج من دائرة الزعامة القاتلة التي يرى فيها نفسه كبيراً في ظل تعدد رؤوس الكبار؛ تلك التي ترى في نفسها ما يراه هو، وقد أحال على قصيدة الشاعر العراقي علي الشرقي «مزرعة البصل»، التي فضح فيها الرؤوس الأولى في أول عهد الحكم العراقي الوطني، وهي تتشابه وحجم رأس البصل!، يبدو أن التاريخ يعيد بعض أنساقه المضمرة كي تكون ظاهرة للعيان، فكانت وقفتي السابعة مع تلك المقالة.

وكانت الوقفة الأخيرة عند مقالة «الجاحظ يحذّر العرب»، التي فضح فيها مبكّرا الخصومات بين العرب والشعوب الأخرى، وبين العرب أنفسهم، وكأنّ المؤلف أراد التأكيد على أن الحياة العراقيّة المعاصرة ترفض رفضاً كليّاً الصراعات القوميّة، والإقليميّة، والقبليّة في ظلّ مجتمع حديث متسامح تتنوع في مقاماته الثقافة، وتتوزّع لتكون في النتيجة وجهاً من وجوه تسامح الإنسان مع نفسه والآخر.

إنّ كتاب «أصوات في الأدب والفكر والاجتماع» كتاب ثقافة حاول أن يقرأ عدداً من الموضوعات التي تشمّ من متونها رائحة الأدب بمفهومه الذي يتماس وطبيعة المجتمع العربي، وهو يتساوق والدعوات التي تحيل على أهميّة الممارسات التي تكشف عن وظائف ثقافيّة تتماس وحاجة المجتمع، فضلاً عن إحالته على عدد ليس بالقليل من المتون الأدبيّة ذات النَفَس الثقافي المبهر لتظلّ الحاجة ملحّة لإعادة طبعة في متن جديد بعد أن يقف من الملاحظات الآتية موقف المصحح الوفي لكتابه:

أولاً: جاء في الصفحة 239 أنّ (الأديب العراقي هلال ناجي الذي يعمل لدى د. علاء حسين الرهيمي عميد كلية آداب جامعة الكوفة) والكلام ملتبس بلا شك؛ لأنّ الأستاذ المحقّق الثبت هلال ناجي - رحمه الله - لم يعمل موظفاً في جامعة الكوفة، بل كان ملحقاً ثقافيّاً في القاهرة في الستينيّات، تمّ تفرّغ للتحقيق والمحاماة، فأرجو أن يفكّ ذلك الالتباس لصالح الحقيقة، والمقالة.

ثانياً: جاء في الصفحة 310 من الكتاب عن محمد حسين آل نمر أنه أيّد (ثورة 23 تموز 1958. بقيادة عبد الكريم قاسم)، والصحيح (14 تموز)، وأنها لم تكن ثورة بل انقلاب عسكري ليس غير، وهذا ما أدركه المؤلّف فيما بعد في ص325.

ثالثاً: تحدّث المؤلّف في الصفحة 315 من الكتاب عن اغتيال الشاعر محمود البريكان محدّداً إياه (في منزله بالزبير)، والصحيح الذي لا خلاف عليه أنّ الاغتيال كان في بيت البريكان في البصرة حي الجزائر يوم 28 فبراير (شباط) 2002.

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - -

* أكاديمي وناقد من العراق.