ميتودولوجيا برامج البحث العلمي عند لاكاتوس

لاكاتوس
لاكاتوس
TT
20

ميتودولوجيا برامج البحث العلمي عند لاكاتوس

لاكاتوس
لاكاتوس

إن نقد الوضعانية المنطقية، استدعى التناول التاريخي للظاهرة العلمية، واستلزم النظر إلى العلم في حركيته وتطوره التاريخي. في هذا الاتجاه، حاول إيمر لاكاتوس (1922 – 1974)، (الفيلسوف المجري المناهض للنازية والمعتقل السياسي من 1950 إلى 1953، وقد قضى منها سنة كاملة في سجن انفرادي نتيجة أفكاره النقدية، والمحاضر في مدرسة لندن للاقتصاد)، أن يؤسس رؤية إبستيمولوجية تاريخية سميت بـ«ميتودولوجيا برامج البحث العلمي». فما الذي نعنيه ببرنامج البحث؟ وما هي الآفاق التي يرسمها للبحث الإبستيمولوجي التاريخي في نهاية القرن الماضي؟
يتكون برنامج البحث عند لاكاتوس، من مجموعة قواعد منهجية علمية، توضح مسارات البحث التي ينبغي أن نتجنبها، والمسارات التي ينبغي أن نسلكها. هذا يذكرنا بـ« النماذج الموجهة» لكون، وبـ«الاستراتيجيات العقلية» لتولمن.
يعتبر لاكاتوس النظريات العلمية برامج بحث، ويتشكل كل برنامج بحث من «نواة صلبة»، وكشاف سلبي للبرنامج يمنعنا من توجيه التفنيد إلى هذه النواة الصلبة. كما أن الفرضيات المساعدة، تشكل «الحزام الواقي» للنواة الصلبة، أما الكشاف الإيجابي، فيعترف بالمشكلات ويوجه الباحثين نحو تنمية برنامج البحث.
فالنواة الصلبة، هي عبارة عن فرضيات عامة، تشكل أسس البرنامج ومنطلقاته الأساسية في بلورة أي مشروع علمي أو تحول مفهومي. والنواة الصلبة في علم الفلك الأرسطي مثلاً، تتكون من فرضيتين أساسيتين هما:
1 - الكون ينقسم إلى عالمين: عالم ما فوق القمر، وعالم ما تحت القمر. الأول لا يعتريه الفساد ولا يصيبه التغير، أما الثاني فهو عالم التغير والفساد.
2 - حركات الأجرام السماوية دائرية، أما الأرض فهي ثابتة.
أما النواة الصلبة في الفيزياء النيوتونية مثلاً: هي قوانين الحركة وقانون الجاذبية الكونية.
ما يمكن ملاحظته، هو أن النواة الصلبة، لا يمكن أن تدحض، ولا يمكن مراجعتها، لأننا إذا حاولنا تغييرها، فسوف نغير البرنامج ككل. لذلك، فهي تشكل جوهر البرنامج، الذي به يتحدد وتبنى على أساسه كل الفروض الأخرى.
وإذا كانت النواة الصلبة، هي ما يميز برنامج بحث عن غيره بواسطة القرار المنهجي لكل الفاعلين في هذا البرنامج، فإن الحزام الواقي يتشكل من الفرضيات المساعدة التي يجب أن تتحمل حدة الاختبارات، ويجب أن تتعدل مرارًا، لكي تحمي النواة الصلبة من كل التكذيبات التي تهدد، ليس فقط النواة الصلبة، بل البرنامج ككل. وأي عدم تطابق بين برنامج من برامج البحث وبين معطيات الملاحظة، ينبغي أن ينسب لا إلى الفرضيات التي تشكل نواته الأصلية، بل إلى أي جزء آخر من أجزاء البنية النظرية. وأن تشابك الفرضيات، الذي يشكل هذا الجزء الآخر من البنية، هو ما يسميه لاكاتوس، الحزام الواقي، وهو لا يقوم فقط على فرضيات مساعدة صريحة تكمل النواة الصلبة، بل يقوم أيضًا على الفرضيات الضمنية. ويزيد من مضمون البرنامج ومن قوته التفسيرية. وقد يستبدل بحزام واق آخر، حفاظًا على النواة الصلبة وحرصًا على تقدم البحث العلمي، الذي يضمنه برنامج البحث. وقد تجلى اشتغال «الحزام الواقي» في البرنامج الأرسطي مثلاً، حينما حاول بطلميوس معالجة الشذوذ، الذي كان يلاحظ أثناء دوران الأفلاك السماوية. فلكي يتم الحفاظ على «النواة الصلبة» في البرنامج الأرسطي، وضع بطلميوس ما يسمى بأفلاك التدوير، لكي يبقي على الحركة الدائرية التي تشكل فرضية مؤسسة للبرنامج الأرسطي، وأي تعديل يمس «النواة الصلبة»، يعني الخروج عن البرنامج وتغييره. وهذا ما لاحظناه مع تيكوبراهي حينما تخلى عن «النواة الصلبة» في البرنامج الكوبرنيكي، معتبرًا أن جميع الكواكب - إلا الأرض - تدور حول الشمس، وأن الشمس ذاتها تدور حول أرض ثابتة.
إن الذي يوجه أعمال البرنامج وأبحاثه، هو ما سماه لاكاتوس بـ«الكشاف». وينقسم إلى كشاف سلبي وكشاف إيجابي. فالأول مرتبط بالنواة الصلبة، أما الثاني فهو متعلق بالحزام الواقي.
إذن، ما الذي نعنيه بالكشاف؟ وكيف يشتغل داخل برنامج بحث ما؟
يقر لاكاتوس، بأن كل برامج البحث العلمي تتميز بـ«نواتها الصلبة»، وأن الكشاف السلبي لبرنامج ما، يمنعنا من توجيه التفنيد ضد هذه «النواة الصلبة». فهذه الأخيرة، لا يمكنها أن تعدل، لأن ذلك يمس بالبرنامج ككل. لذلك، فالكشاف السلبي يختزل دوره في الحفاظ على النواة الصلبة خلال تطور البرنامج. ويحول كل الصعوبات والشذوذ التي تواجهه إلى أمثلة تثبت وتؤكد نجاحه.
فالمشكلات يجب ألا تعترض النواة الصلبة، بل فقط الحزام الواقي الذي شيده الكشاف السلبي، من أجل ضمان استمرار البرنامج، عن طريق تعديل الفرضيات المساعدة التي يتضمنها، أو تغييرها. وأنجح برنامج بحث هو الذي يمكننا من استيعاب كل المشكلات، ويكون مضمونه التجريبي أوسع وأكثر تقدمًا من منافسيه.
أما الكشاف الإيجابي، فيتمثل في السياسة العامة أو النظام العام، الذي يتبناه فريق من العلماء، قصد تحديد طبيعة المشكلات المراد معالجتها وطرق تناولها، ويشتمل على مجموعة من التلميحات أو الاقتراحات المتمفصلة جزئيًا، عن طريق تغيير وتطوير المتغيرات القابلة للتفنيد لبرنامج البحث، والكيفية التي يتم بها تعديل، واستبدال الحزام الواقي القابل للتفنيد». كما يعمل على إنقاذ العلماء من كثرة الشواذ، عن طريق تطوير تقنيات البحث.
عمومًا، يعتبر الكشاف الإيجابي استراتيجية تعمل على إنتاج وإعادة إنتاج الوقائع، والتنبؤ بأخرى جديدة. إنه يتميز بمرونة تمكنه من دفع برنامج بحث ما إلى الأمام، على الرغم من الصعوبات التي تعترضه، فهو يغفل كل التفنيدات. فكثير من الفروض، لم يجد لها مثلاً نيوتن تفسيرًا. لذلك، فالتحققات وليس التفنيدات، هي التي تجعل البرنامج يستمر في طريقه على الرغم من الحالات المستعصية.
إن الميتودولوجيا التي يدعو إليها لاكاتوس، تعتبر الإنجازات العلمية الكبرى، ليست سوى بحث، يمكن تقييمه بحسب درجات التقدم والتفسخ، حيث تشتمل الثورات العلمية على برنامج بحث واحد، يتخطى البرنامج القائم ويحل محله.
إن هذه الميتودولوجيا، بمثابة صياغة لعقلانية التقدم العلمي ورؤية للتاريخ الإبستيمولوجي وتطوره، أو بالأحرى، تاريخ للمعرفة الموضوعية، وذلك بالاعتماد على إعادة قراءة ونقد للمذاهب والمناهج التي حاولت تناولها باعتبارها برامج بحث. إن المقارنة بين البرامج المتنافسة وتقييمها، جعل لاكاتوس يضع معايير تحدد مدى تقدم أو ركود برنامج ما، حيث يعتبر أن برنامج بحث ما متقدم، مادام كان نموه النظري متقدمًا عن نموه التجريبي، ومادام كان يحتفظ بالتنبؤ بوقائع جديدة إلى حد ما. ويكون راكدًا إذا تخلف نموه النظري عن نموه التجريبي.
إن هذه الميتودولوجيا تؤكد على ضرورة التشبث ببرنامج البحث، على الرغم من عدم الاتساق المنطقي والتجريبي، الذي يمكن أن يتميز به. معنى ذلك، أن لاكاتوس يدعو إلى نوع من الوثوقية تجاه برنامج البحث الذي يشتغل ضمنه العلماء. كما أن ميتودولوجيا برامج البحث العلمي، تستند إلى البحث التاريخي، الذي يمكنها من فهم طبيعة البرامج، ومدى تقدمها أو تفسخها، كما يفيد كذلك، في تغيير معدلات التقدم والتفسخ، بالإضافة إلى أنه يكشف عن حرب خفية بين برامج البحث. ربما هذا ما دفع بهاكينغ إلى اعتبار ميتودولوجيا لاكاتوس رؤية ارتجاعية، لأنها تريد دائمًا الالتفات إلى ماض يمكنها من فهم حقيقة تطور المعرفة عبر امتدادها التاريخي. وبهذا المعنى، يمكننا أن نتحدث مع لاكاتوس، عن ميتودولوجيا تاريخية لبرامج البحث العلمي، ترسم الحدود بين تاريخ داخلي وتاريخ خارجي يؤطر منطق الكشف العلمي، أي النمط العقلاني لنمو المعرفة العلمية.
وبشكل عام، تعتبر وجهة نظر لاكاتوس، بمثابة إضافة مغايرة داخل ما يسمى بالاتجاه اللاوضعاني. فهو حاول أن يطور دحضانية بوبر، ليغازل بها رؤية كون المتمثلة في النموذج - الموجه، ويختلف بإنشاء ميتودولوجيا تنكب على المحك التاريخي في نقد الميتودولوجيات الأخرى، ومحاولة إعادة بنائها من جديد عقلانيًا، على أساس ميتودولوجيا برامج البحث العلمي. وهذا ما يؤكد أن لاكاتوس يشكل لحظة أساسية من لحظات الوعي التاريخي في فلسفة العلم.



«الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم

«الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم
TT
20

«الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم

«الروائي المريب»... خيانات المثقّفين ومؤامراتهم

يكتب السوريّ فوّاز حدّاد في «الروائي المريب» (رياض الريّس، بيروت، 2025) عن كاتب غامض يُدعى «أسعد العرّاد»، بطريقة أشبه بـ«كوميديا سوداء» تقع في مفترق الطرق بين التوثيق الساخر، والتأريخ الرمزيّ، والانقضاض السردي على نُخب صنعت ثقافتها من ولاءاتها وارتكاساتها في ظلّ نظام يستخفّ بها ويوظّفها بطرق مشينة لخدمته.

بطل الرواية، أو بالأحرى اللابطل، هو «الروائيّ الشبح»، كاتب ينشر رواية واحدة ثم يختفي. لا يُعرف اسمه الحقيقيّ، وليس له صورة، إنّما يتجسّد فقط من خلال روايته. الغائب، الذي لا يحضر في اللقاءات والندوات والمقاهي الأدبية، يصبح فجأة محور الهجوم، والقلق، والحسد، والافتراء؛ لأنّه كسر القاعدة، كتب من دون أن يكون من «القطيع الثقافيّ».

«الشبح» هنا ليس أسطورة أدبية، إنّما هو رعب وجوديّ للوسط الثقافيّ السوريّ الموصوف في الرواية. هو من يُسقط، دون أن يتكلّم، كلّ الأقنعة عن المثقّف السلطويّ، عن النقّاد المأجورين، عن ثقافة الولاء والانبطاح، فغيابه هو الذي صنع حضوره الطاغي.

تدور الرواية، التي تبدو كأنّها جزء ثانٍ من روايته «المترجم الخائن» من حيث الاشتغال على الفساد الثقافيّ والشلل العابرة للحدود، في دمشق، لكن دمشق ليست فضاءً محايداً، هي مسرح الجريمة الثقافية المستمرّة. تنتقل الرواية من مقهى الروضة إلى اتّحاد الكتّاب، من أروقة الجرائد الرسمية إلى صالونات النميمة الأدبية، من كواليس وزارة الثقافة إلى دهاليز المخابرات والقصر الجمهوريّ في زمن الأسدين، حيث تتقاطع السلطات وتُطبخ المصائر.

تقدم الرواية ثنائية مثيرة: «فريد جسّام» و«حسين كرّوم»، كنموذجين للمثقف المرتزق، المنتفع، السلطويّ، الموهوم بعظمة لا تتحقّق. كلاهما يشعر بالخطر من «الروائيّ الشبح»، يحاولان تحويل الهجوم عليه إلى مسألة وطنية، سياسية، آيديولوجية. يندفعان في حملة تشويه معلنة وسرّية، يشكّلان عصابة، يجنّدان أتباعاً، ينسّقان مع الأجهزة، في سبيل القضاء على الرواية وكاتبها.

يفكّك فوّاز حداد في روايته فكرة «المثقف التقدّميّ» أو «المفكّر الراديكاليّ» الذي يتحوّل إلى رقيب ثقافيّ، إلى معوّق للحداثة، إلى وكيل أمنيّ بغطاء ثقافي. ويمثّل كلّ من «جسّام» و«كرّوم»، ومن ورائهما سلطة مزدوجة: سلطة حقيقية داخل المؤسسات، وسلطة رمزية تحكم من تحت الطاولة.

ينوّع الكاتب بين أساليب كتابة مختلفة في روايته، تراه يسخر، يتهكّم، يروي، يسجل، يفضح. كأنّ الرواية «سيرة ثقافية لمجتمع أدبيّ»، تتحوّل تدريجياً إلى هجاء مرير، ثمّ إلى كشف بوليسيّ، ثمّ تعود إلى كابوس ساخر. وتراه يكتب عن سلوكيات الكتّاب بالموازاة مع تعرية «المؤسّسة الثقافيّة» بوصفها سلطة مضادّة للحرّية، تستدرج الكتّاب إلى مسالخها، وتكافئ الطيّعين، وتغتال المتمرّدين.

في المفارقة الكبرى، تصبح الرواية ذاتها موضوعاً للرواية، فـ«الروائي الشبح» لا يُكتب عنه فقط، بل تتحوّل روايته «لقاء لا ينتهي» إلى بؤرة أساسية تدور حولها الأحداث، ومنها تتفرّع المؤامرات. شخصيات الرواية تقرأ الرواية، تناقشها، تشتمها، تدافع عنها، تحاول منعها، تتمنّى موت كاتبها. هكذا تصبح «الرواية» نوعاً من الشاهد والمجرم في آنٍ واحد. شهادة ضدّ عصر، وجريمة ضدّ مَن يملك الجرأة على الكتابة.

تمتدّ الرواية إلى ما يقرب من 520 صفحة، مقسّمة إلى قسمين رئيسين، يتضمّن كلّ قسم مجموعة من الفصول التي تتراوح بين السرد الروائيّ، والأفكار التحليلية والنقدية، وحتى القصص الساخرة المدرجة ضمن المتن السرديّ. هذه البنية ضرب من التنقيب داخل بنية الرواية نفسها، بما يجعلها نصّاً يتحدث عن الكتابة الروائية وهو يكتبها في الآن نفسه.

ويتوزّع الزمن في الرواية بين مرحلتين: زمن الرواية الأولى «لقاء لا ينتهي»، وزمن الرواية «الحالية» التي تبدأ مع لحظة وفاة الرئيس الأب وانتقال السلطة للابن الذي هرب. التوازي بين المرحلتين، بالإضافة إلى أنّه يصنع مقارنة سياسية، يرسم جدلية أعمق: الماضي الذي دُفِن، والماضي الذي لا يُدفن.

تقدّم الرواية صورة المثقّفة السلطوية، بوصفها جزءاً من لعبة السلطة الثقافية. «الحسناء»، كما تُرسم، ليست سوى تجلٍّ لثقافة «تسليعية» للجسد، حيث الجسد الأنثوي يُستثمر في الصعود الثقافي أو التسلق السياسي. هي «جرأة معلبة»، أو «تحرر مصمم خصوصاً لخدمة النظام». في حين أنّ «صفاء»، مثقفة متحررة، تُقدّم على نحو متناقض: جميلة وواعية، ناقدة وخائفة، تمتلك القدرة على المواجهة، لكنها محاطة بمن يريد تهميشها أو احتواءها. يَظهر في علاقتها مع «الشبح» ما يشبه العلاقة المستحيلة: امرأة تبحث عن معنى في رجل لا وجود له، ورجل يهرب من العالم بحثاً عن صدق لا تجده هي في العالم المحيط.

أحد أقوى عناصر الرواية هو قدرتها على استخدام الرمزية الساخرة كأداة تشريح. لا يمرّ شيء من دون سخرية مريرة: اتحاد الكتّاب، الجوائز الأدبية، الصحافة الثقافية، حلقات النقد، المؤتمرات، حتى «الثقافة القومية التقدّمية» ذاتها، تسقط واحدة تلو الأخرى.

يتجلّى ذلك في شخصيات مثل: كبير النقّاد الذي لا يقرأ شيئاً لكنه يحكم على كلّ شيء. المفكّر الراديكاليّ الذي يرى الثورة في كلّ مكان إلا في نفسه. الوسيط الثقافيّ الذي يفتح بوابات العالم لكلّ من يدفع الثمن. الروائيّ القادم من الريف الذي يخون قريته حين يحاول الانتماء للعاصمة. الشبكة الثقافية الدولية التي تمنح الجوائز لا لمن يكتب جيّداً، بل لمن يكتب ما يُطلب منه. هذه الرمزية تنقلب أحياناً إلى هجاء صارخ، وأحياناً إلى مرآة قاتمة يرى فيها القارئ الواقع الثقافيّ كما لو أنه يرى «مسلخاً» فكرياً.

«جسّام»، «كرّوم»، «كبير النقاد»، «المفكر الراديكالي»؛ هم شخصيات كاريكاتورية بقدر ما هم واقعيون، لا لأنهم هزليون، بل لأنّهم مأساويون: أدوات ميتة تتحرّك داخل نظام فاسد لا مكان فيه للكتابة الحرّة. إنّهم أيتام المؤسّسة.

يشير فوّاز حدّاد في روايته إلى أنّه ربّما لا يحتاج صاحب الموهبة في بلاد تُعادي الحقيقة إلى رقابة رسمية، فهناك رقابة أشدّ ضراوة: رقابة الأقران، رعب الوسط الثقافيّ من كلّ صوت لا ينتمي إلى طيفه، كلّ كتابة لا تخضع لقوانين سوق الولاء، كلّ موهبة لا تحتاج إلى «توصية» لتكون. وتراه يرسم ملامح مشهد تُنتهَك فيه الموهبة لا عبر منعها من الكتابة، بل عبر الإحاطة بها بـ«تواطؤ جماعيّ» خفيّ، لا يمكن مسّه قانونياً، لكنه يُنفَّذ بإتقان: تجاهل، وتشويه، واختزال، وتهميش، وتضليل، وتصفية رمزية، حيث الكارثة لا تقع حين تُقمع الموهبة من قِبل سلطة سياسية، بل حين تصبح الأوساط الثقافية نفسها هي القامعة، هي اليد غير المرئية التي تخنق الكتابة الحرة تحت شعار «تقييم نقدي» أو «الغيرة الأدبية» أو «السجال الموضوعيّ».

يلفت الروائيّ إلى أنّ الشبح الذي يتقصّونه في الرواية ليس مريباً لأنّه أجرم، بل لأنّه كتب شيئاً لا يشبههم، رواية جاءت من خارج سردياتهم المُعلّبة، لم تُمهَّد لها في الملاحق الثقافية، ولم تُصنَع على مقاس الجوائز. كانت الكتابة فعلاً ذاتياً متمرّداً، فكان لا بدّ من محاصرته جماعيّاً.

تطرح «الروائي المريب» كلّ هذه التفاصيل عبر صمت الروائيّ، وضجيج الوسط الذي أحاطه. كأنّ حدّاد يكتب شهادة روائيّة عن «الاستقبال المُفخّخ»، وعن «الجمهور المصنوع»، وعن «الناشر الذي لا ينشر إلّا لِمن يُضمن صمته بعد النشر»، وهو بذلك ينقّب في البنية التحتّية للثقافة والمثقّفين، ويستخدم السخرية والفكاهة السوداء كوسيلة للفضح، والتمثيل، والتطهير. يكتب رواية جارحة، لكنها تفتح العيون على واقع أسود مرّ يراد تبييضه بالدعاية والتزييف.

يكتب فوّاز حدّاد أكثر من خاتمة لروايته، كانت الأولى مرآة للعصر الذي كُتبت فيه، أما النهاية الجديدة، فهي أشبه بتوقيع على مستقبل سوريّ لا يزال قيد التكوين. لكن المفارقة المُرّة التي لا تفوته هي أن سقوط النظام لا يعني سقوط أدواته. فحداد يُلمّح، بذكاء، إلى «قدرة الشخصيات على التلوّن»، على العبور من زمن إلى زمن، من خطاب إلى نقيضه، دون أن تتخلى عن آلياتها في الإقصاء والتواطؤ. وهكذا، فإن الرواية لا تسعى لطمأنة القارئ، بل لتقويض استكانته، ولتشير له: حتى النهاية ربّما تحتاج إلى رواية أخرى... وزمن آخر.