الإعلام اللبناني المسموع مدين لـ«بودكاست» بإطالة عمره

بعدما كانت الإذاعات وراء بريق أهم نجوم الشاشة

ماغي فرح
ماغي فرح
TT

الإعلام اللبناني المسموع مدين لـ«بودكاست» بإطالة عمره

ماغي فرح
ماغي فرح

لا يزال الإعلام المسموع في لبنان يحوز اهتمام شريحة لا يُستهان بها من اللبنانيين، فالإذاعات، منذ أيام الحرب (1975 - 1990)، شكّلت صلة التواصل الوحيدة بينهم وبين العالم الخارجي. وجاء الـ«بودكاست»، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليُحييها من جديد ويطيل عمرها. ومعظم الإذاعات، اليوم، تركن إليها؛ كونها تسمح للشخص بأن يستمع إلى برنامج إذاعي في الوقت والمكان الذي يرغب به، بينما كان الأثير في الماضي القريب يحتاج إلى موجة محددة لا بد من اختيارها، لضمان سماع برامج هذه الإذاعة أو تلك.

عارف العبد

من ناحية ثانية، يتطلب العمل الإذاعي مهارات عدة تنفع أيضاً في عالم الإعلام المرئي. ويكمن أبرز هذه المهارات في حسن القراءة، وإتقان مخارج الحروف وأصول اللغة وقواعدها، إضافة إلى طبقات صوت جيدة، كلها تؤلف مدخلاً للمرئي، وخلفية مهنية لا يستهان بها. ومن هنا يمكن التفريق بين الحضور الذي يتمتع به مذيع ذو خبرة، وآخر يفتقدها، ومن ثم تكون طريق الأول إلى الشاشة الصغيرة أسرع، وتسهم خبراته الإذاعية في نضج أدائه. وهكذا تُعرَف الإذاعة بـ«الرسالة ذات الاتجاه الواحد»؛ كونها تصل مباشرة إلى المتلقي وتؤثر عليه من خلال حاسة السمع، وبناءً عليه يكون تأثير الصوت مضاعفاً، وينفرد في إيصال المعلومة للمستمع، من دون أن يتلهى هذا الأخير بأدوات الانبهار وغيرها في عالم المرئي.

من الشاشة إلى الإذاعات

غير أن اللافت أخيراً في لبنان هو تحوّل عدد كبير من نجوم الشاشة الصغيرة إلى الإعلام المسموع. وهنا نذكر، على سبيل المثال لا الحصر، زافين قيوميجيان، ودنيز رحمة فخري، وميراي مزرعاني، وسنا نصر، ونجاة شرف الدين، وغيرهم. وفي الوقت نفسه شكّلت أسماء معروفة في الإعلام المسموع محطات مضيئة في هذا المجال، فطبعت ذاكرة اللبنانيين، وبقيت، لدى الرعيل الجديد من المذيعين والمذيعات، مثالاً يُحتذى به. وكما ماغي فرح ووردة الزامل، كذلك غابي لطيف، التي وجدت، في هذا المجال، مهنة نهائية لها، بعيداً عن الشاشة الصغيرة.
ومن ناحية ثانية، حفرت أصوات مذيعين كُثر في ذاكرة اللبنانيين، كالراحل حكمت وهبي في راديو «مونتي كارلو»، وكذلك يولا سليمان، وميريلا يزبك، ومذيعو الأخبار سعيد غريب، وجورج ضاهر، وجورج مغامس، وإلياس كرم، في إذاعة «صوت لبنان». ولا يمكن هنا أن نمرّ مرور الكرام على بقية الفريق الإذاعي الذي يكمل هذه الدائرة ويُعدّ لبّ مطبخها. فكما مهندس الصوت، هناك أيضاً المخرج الإذاعي... وهما عنصران أسهما في الإضافة للمذيع والإذاعة معاً.

بسام برّاك

التواصل من القلب

لا يختلف اثنان على أن الإعلامية ماغي فرح تركت بصمتها في الإعلام المسموع. وشهرتها على الشاشة الصغيرة، التي كوّنتها بعد مشوار طويل في إذاعة «صوت لبنان»، لم تستطع أن تغلب نجوميتها في المسموع، إذ بمجرد أن يرنّ صوتها في أذن سامعها، تعود به الذكريات إلى الأيام الذهبية للإذاعة، وهي لا تزال حتى اليوم تشكّل مثلاً أعلى للعاملين في الإذاعات يتمنّون، يوماً ما، بلوغه.
في لقاء مع «الشرق الأوسط»، قالت ماغي: «الإعلام المسموع تراجع من دون شك... فكلّ جديد يطرأ على صعيد التكنولوجيا، يسهم بتراجع وسائل الإعلام عامة»، إلا أنها تستدرك فتضيف: «ثمة توجه، اليوم، نحو المسموع عالمياً، حتى الكتب باتت تعتمد السمعي في إصدارها... وأحياناً يفضّل الشخص أن ينفرد مع السمعي؛ كي لا يضيّع وقته ببهرجة البصري».
بالنسبة لماغي، فإنها تعشق الأثير، ولو خُيِّرت، اليوم، بين المرئي والمسموع، لاختارت الأخير، وهي تبرّر ذلك قائلة: «الأثير له خصوصيته ويضعك على تواصل مباشر مع الآخر، ينبع من القلب فيلامس الروح... يحضر فيه العقل والمضمون والقلب والدفء من وراء الميكروفون». ثم تشدد على أنه من الصعب تحقيق النجومية في الإذاعة؛ لأن الشهرة أمر آخر لا يمكن مقارنتها بها، «ففي الماضي، عندما ذكر لي الراحل الشاعر جورج جرداق أنه يوجد نجمان عربيان فقط في عالم الإذاعة؛ أحدهما مذيع مصري، والثاني أنا، لم أستوعب الأمر، لكنني، اليوم، بتُّ أعرف الفارق بين الشهرة والنجومية؛ فالأولى يمكن أن تنتهي بين ليلة وضحاها، بينما الثانية تطبع ذاكرة الناس، ويبقى البحث جارياً عن صاحبها لمتابعته... النجم الإذاعي لا تاريخ انتهاء لمشواره».
من جهة أخرى، توالى على الإعلام المسموع في لبنان مدرّبون إذاعيون كُثر، بينهم الراحل عمر الزين. عمل الزين في الإخراج الإذاعي، وفي التمثيل الدرامي، وتدريب المذيعين على الإلقاء. وتخرّج تحت يديْ عمر الزين غالبية نجوم الشاشة الصغيرة والإذاعة، لقد كان، بأسلوبه اللغوي الأنيق، وإتقانه قواعده المطلوبة، يغري تلامذته بحب العربية، وكان يملك تقنية تدور في «السهل الممتنع»، يستخدمها في تدريس تلامذته؛ من مذيعين ومذيعات في مؤسسات إعلامية مرئية ومسموعة. وبعد رحيله، حمل بعضهم رسالته راغبين في إكمالها. ولعلّ بين أبرزهم، اليوم، مذيع نشرات الأخبار في الـ«إل بي سي آي» يزبك وهبي، والإعلامي بسام برّاك.

براك «وريث» الزين

عندما رحل عمر الزين في عام 2007، سلَّم بسام برّاك الأمانة، إذ اعتبره أفضل مَن يكمل مسيرته في تدريب المذيعين، بعدما لاحظ تفوقه اللغوي، عندما كان يدربه كغيره من المذيعين. وفي الجلسة الخامسة لتدريبه، قال له: «انتهى دوري معك، لقد صرت جاهزاً للقاء الميكروفون».
يتذكر برّاك «أستاذه» الزين بحسرة، ولا سيما أنه يحافظ على أغراضه الخاصة، فحقيبته وقلمه وأوراقه وأجندته بمثابة كنز يخبئه برّاك؛ لقيمتها الكبيرة عنده. وراهناً، لبرّاك رأيه بمذيعي اليوم، فيقول: «في رأيي إن المذيعين الرجال (في لبنان) أفضل من المذيعات، بشكل عام، باستثناء قلة قليلة مثل لينا دوغان، وريمي درباس. إن زملائي الشباب تدرّبوا أيضاً على يد عمر الزين، فتزيّنوا بقواعده الثابتة في هذا المجال، وأحدثوا الفارق». وبالنسبة له، فإن المدرسة الأولى، بالنسبة للمذيع، هي الإذاعة، «ومن لم يمرّ فيها، فإن إطلالته التلفزيونية تبقى غير مكتملة... قمة الإبداع تكمن عندما يمرّ المذيع عبر الأثير، ومن بعده على الشاشة».
وعمّا إذا كان لا يزال يتبع قواعد الراحل الزين في تدريباته للآخرين، أم اضطر إلى تطويرها، قال بسام برّاك: «لم أضطرَّ إلى تطويرها، بل إلى التجانس مع هذه المرحلة. الركائز تبقى نفسها؛ من حروف، ولغة، وعملية تقطيع النص، واستخدام الصوت، إلا أن بعض الأدوات تتبدّل؛ خدمةً لبثٍّ مباشر، وحوارات في النشرة، وإطلالات وقوفاً أو جلوساً، وجميعها تتطلب التعديل بنغمة الصوت، لكن المشكلة تكمن بالذين يقدّمونها، إذ ليس الجميع على دراية بهذه الموضوعات والقواعد الأساسية للمهنة».
ووفقاً لبرّاك، فإن «المظاهر الخارجية، اليوم، تغلب على أصول اللغة، وحتى على أبسطها؛ من فاعل ومفعول به». ويعلّق: «هناك أزمة عند عدد كبير من المذيعات، اللاتي لا يعرفن قراءة النص مع الفواصل المطلوبة، ولا حتى كيفية استخدام الضمة والفتحة وأوزان المفاعل. عليهن أن يتدرّبن على طريقتنا ويتطوّرن من دون شك... إلا أن إطلالات الشهرة تبقى السائدة أكثر من غيرها». وعن عُمر الإعلام المسموع يقول برّاك مختتما:ً «لا يزال حاضراً، لكنه يتلاشى تباعاً، وهو يحتاج إلى تركيز أكبر؛ كي لا يندثر. ويا ليت المجال الإذاعي وحقبته الذهبية يعودان؛ لأنه يقدم قدرات إعلامية من نوع آخر».

تراجع الإعلام المسموع

من ناحية أخرى، مَن منا لا يتذكر أهالينا يحملون الترانزيستور ويتنقلون به في أرجاء البيت، كي يتابعوا الأخبار المحلية والعالمية؟
لعل عبارات «هنا لندن» من راديو الـ«بي بي سي»، و«معكم صوت أميركا»، و«إليكم نشرة الأخبار» من «صوت لبنان»، وغيرها، لا تزال ترنّ في آذان بعضنا حتى اليوم، تُذكّرنا بالإعلام المسموع في فترته الذهبية، عندما كان يشكل صلة الوصل الوحيدة مع آخر الأخبار. فأيام الحرب الأهلية اللبنانية، وانقطاع التيار الكهربائي، والتفجيرات الأمنية، وغيرها من فترات قاسية عاشها اللبنانيون، كان الراديو ملاذهم الوحيد.
ولكن ماذا عن وضع هذا الإعلام، اليوم؟ وهل يشهد تراجعاً إلى حد الاندثار؟
الدكتور عارف العبد، الإعلامي والأستاذ الجامعي، الذي يدرس مادة الإذاعة والتلفزيون في كلية الإعلام بالجامعة اللبنانية، يرى تراجعاً ملحوظاً للإذاعة، مقارنة بما كانت عليه في الماضي. ويحمِّل العبد وسائل التواصل الاجتماعي المسؤولية الكبرى في ذلك. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال العبد: «لا أقول إن الإعلام المسموع اندثر، لكنه ما عاد يحقق نجاحات الماضي، فخفَتَ وهجه». واعتبر أن الإذاعة، اليوم، «بالكاد تُسمَع من قِبل الناس، بينما هم يقودون سياراتهم من المكتب إلى المنزل، أو خلال مشوار يستغرق بعض الوقت. وهذا، بعدما كانت الإذاعات، في الماضي القريب، المصدر الإخباري الوحيد الذي يضع مُتابِعها على تماس مع الحدث». ثم أردف موضحاً: «صحيح أن الـ(بودكاست) أعاد للإذاعة بعض اعتبارها، إلا أنه لم يتمكن بعدُ من وضعها من جديد على خريطة الإعلام المؤثر». ثم يشير إلى أن غالبية طلابه يختارون، الآن، قسمي التلفزيون والسوشيال ميديا للتخصّص فيهما، مقابل ابتعاد القسم الأكبر منهم عن التخصص في المجال الإذاعي.


مقالات ذات صلة

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

المشرق العربي المسؤول الإعلامي في «حزب الله» محمد عفيف خلال مؤتمر صحافي بالضاحية الجنوبية لبيروت (أ.ف.ب) play-circle 00:40

محمد عفيف... صوت «حزب الله» وحائك سياسته الإعلامية

باغتيال مسؤول العلاقات الإعلامية في «حزب الله» محمد عفيف تكون إسرائيل انتقلت من اغتيال القادة العسكريين في الحزب إلى المسؤولين والقياديين السياسيين والإعلاميين.

بولا أسطيح (بيروت)
يوميات الشرق «SRMG Labs» أكثر الوكالات تتويجاً في مهرجان «أثر» للإبداع بالرياض (SRMG)

«الأبحاث والإعلام» تتصدّر مهرجان «أثر» للإبداع بـ6 جوائز مرموقة

حصدت «SRMG Labs»، ذراع الابتكار في المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG)، 6 جوائز مرموقة عن جميع الفئات التي رُشّحت لها في مهرجان «أثر» للإبداع.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
يوميات الشرق تضم المنطقة المتكاملة 7 مباني استوديوهات على مساحة 10.500 متر مربع (تصوير: تركي العقيلي)

الرياض تحتضن أكبر وأحدث استوديوهات الإنتاج في الشرق الأوسط

بحضور نخبة من فناني ومنتجي العالم العربي، افتتحت الاستوديوهات التي بنيت في فترة قياسية قصيرة تقدر بـ120 يوماً، كواحدة من أكبر وأحدث الاستوديوهات للإنتاج.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
العالم سيارة عليها كلمة «صحافة» بالإنجليزية بعد تعرض فندق يقيم فيه صحافيون في حاصبيا بجنوب لبنان لغارة إسرائيلية في 25 أكتوبر (رويترز)

اليونيسكو: مقتل 162 صحافياً خلال تأديتهم عملهم في 2022 و2023

«في العامين 2022 و2023، قُتل صحافي كل أربعة أيام لمجرد تأديته عمله الأساسي في البحث عن الحقيقة».

«الشرق الأوسط» (باريس)
المشرق العربي صحافيون من مختلف وسائل إعلام يتشاركون موقعاً لتغطية الغارات الإسرائيلية على مدينة صور (أ.ب)

حرب لبنان تشعل معركة إعلامية داخلية واتهامات بـ«التخوين»

أشعلت التغطية الإعلامية للحرب بلبنان سجالات طالت وسائل الإعلام وتطورت إلى انتقادات للإعلام واتهامات لا تخلو من التخوين، نالت فيها قناة «إم تي في» الحصة الأكبر.

حنان مرهج (بيروت)

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)
TT

استنفار الإعلام المرئي اللبناني على مدى 24 ساعة يُحدث الفرق

إدمون ساسين (إنستغرام)
إدمون ساسين (إنستغرام)

تلعب وسائل الإعلام المرئية المحلية دورها في تغطية الحرب الدائرة اليوم على لبنان.

نوع من «التجنيد الإجباري» فرضته هذه الحالة على المحطات التلفزيونية وموظفيها ومراسليها، فغالبيتهم يمضون نحو 20 ساعة من يومهم في ممارسة مهامهم. وبعضهم يَصِلون ليلهم بنهارهم في نقل مباشر وموضوعي، وآخرون يضعون دمهم على كفّ يدهم وهم يتنقلون بين مناطق وطرقات تتعرّض للقصف. أما رؤساء التحرير ومقدِّمو البرامج الحوارية اليومية، فهم عندما يحوزون على ساعات راحة قليلة، أو يوم إجازة، فإنهم يشعرون كما السمك خارج المياه. ومن باب مواقعهم ومسؤولياتهم الإعلامية، تراهم يفضلون البقاء في قلب الحرب، وفي مراكز عملهم؛ كي يرووا عطشهم وشهيّتهم للقيام بمهامهم.

المشهدية الإعلامية برمّتها اختلفت هذه عن سابقاتها. فهي محفوفة بالمخاطر ومليئة بالصدمات والمفاجآت من أحداث سياسية وميدانية، وبالتالي، تحقن العاملين تلقائياً بما يشبه بهرمون «الأدرينالين». فكيف تماهت تلك المحطات مع الحدث الأبرز اليوم في الشرق الأوسط؟

الدكتورة سهير هاشم (إنستغرام)

لم نتفاجأ بالحرب

يصف وليد عبود، رئيس تحرير الأخبار في تلفزيون «إم تي في» المحلي، لـ«الشرق الأوسط»، حالة الإعلام اللبناني اليوم بـ«الاستثنائية». ويضيف: «إنها كذلك لأننا في لبنان وليس عندنا محطات إخبارية. وهي، بالتالي، غير مهيأة بالمطلق للانخراط ببث مباشر يستغرق ما بين 18 و20 ساعة في اليوم. بيد أن خبراتنا المتراكمة في المجال الإعلامي أسهمت في تكيّفنا مع الحدث. وما شهدناه في حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) الشعبي، وفي انفجار مرفأ بيروت، يندرج تحت (الاستنفار الإعلامي) ذاته الذي نعيشه اليوم».

هذا «المراس» - كما يسميه عبود - «زوّد الفريق الإخباري بالخبرة، فدخل المواكبة الإعلامية للحرب براحة أكبر، وصار يعرف الأدوات اللازمة لهذا النوع من المراحل». وتابع: «لم نتفاجأ باندلاع الحرب بعد 11 شهراً من المناوشات والقتال في جنوب لبنان، ضمن ما عرف بحرب المساندة. لقد توقعنا توسعها كما غيرنا من محللين سياسيين. ومن كان يتابع إعلام إسرائيل لا بد أن يستشفّ منه هذا الأمر».

جورج صليبي (إنستغرام)

المشهد سوريالي

«يختلف تماماً مشهد الحرب الدائرة في لبنان اليوم عن سابقاته». بهذه الكلمات استهل الإعلامي جورج صليبي، مقدّم البرامج السياسية ونشرات الأخبار في محطة «الجديد» كلامه لـ«الشرق الأوسط». وأردف من ثم: «ما نشهده اليوم يشبه ما يحصل في الأفلام العلمية. كنا عندما نشاهدها في الصالات السينمائية نقول إنها نوع من الخيال، ولا يمكنها أن تتحقق. الحقيقة أن المشهد سوريالي بامتياز حتى إننا لم نستوعب بسرعة ما يحصل على الأرض... انفجارات متتالية وعمليات اغتيال ودمار شامل... أحداث متسارعة تفوق التصور، وجميعها وضعتنا للحظات بحالة صدمة. ومن هناك انطلقنا بمشوار إعلامي مرهق وصعب».

وليد عبود (إنستغرام)

المحطات وضغوط تنظيم المهام

وبالفعل، منذ توسع الحرب الحالية، يتابع اللبنانيون أخبارها أولاً بأول عبر محطات التلفزيون... فيتسمّرون أمام الشاشة الصغيرة، يقلّبون بين القنوات للتزوّد بكل جديد.

وصحيحٌ أن غالبية اللبنانيين يفضّلون محطة على أخرى، لكن هذه القناعة عندهم تتبدّل في ظروف الحرب. وهذا الأمر ولّد تنافساً بين تلك المحطات؛ كي تحقق أكبر نسبة متابعة، فراحت تستضيف محللين سياسيين ورؤساء أحزاب وإعلاميين وغيرهم؛ كي تخرج بأفكار عن آرائهم حول هذه الحرب والنتيجة التي يتوقعونها منها. وفي الوقت نفسه، وضعت المحطات جميع إمكاناتها بمراسلين يتابعون المستجدات على مدار الساعات، فيُطلعون المشاهد على آخر الأخبار؛ من خرق الطيران الحربي المعادي جدار الصوت، إلى الانفجارات وجرائم الاغتيال لحظة بلحظة. وفي المقابل، يُمسك المتفرجون بالـ«ريموت كونترول»، وكأنه سلاحهم الوحيد في هذه المعركة التنافسية، ويتوقفون عند خبر عاجل أو صورة ومقطع فيديو تمرره محطة تلفزيونية قبل غيرها.

كثيرون تساءلوا: كيف استطاعت تلك المحطات تأمين هذا الكمّ من المراسلين على جميع الأراضي اللبنانية بين ليلة وضحاها؟

يقول وليد عبود: «هؤلاء المراسلون لطالما أطلوا عبر الشاشة في الأزمنة العادية. ولكن المشاهد عادة لا يعيرهم الاهتمام الكبير. ولكن في زمن الحرب تبدّلت هذه المعادلة وتكرار إطلالاتهم وضعهم أكثر أمام الضوء».

ولكن، ما المبدأ العام الذي تُلزم به المحطات مراسليها؟ هنا يوضح عبود في سياق حديثه أن «سلامة المراسل والمصور تبقى المبدأ الأساسي في هذه المعادلة. نحن نوصيهم بضرورة تقديم سلامتهم على أي أمر آخر، كما أن جميعهم خضعوا لتدريبات وتوجيهات وتعليمات في هذا الشأن... وينبغي عليهم الالتزام بها».

من ناحيته، يشير صليبي إلى أن المراسلين يبذلون الجهد الأكبر في هذه الحرب. ويوضح: «عملهم مرهق ومتعب ومحفوف بالمخاطر. لذلك نخاف على سلامتهم بشكل كبير».

محمد فرحات (إنستغرام)

«إنها مرحلة التحديات»

وبمناسبة الكلام عن المراسلين، يُعد إدمون ساسين، مراسل قناة «إل بي سي آي»، من الأقدم والأشهر في هذه المحطة. وهو لا يتوانى عن التنقل خلال يوم واحد بين جنوب لبنان وشماله. ويصف مهمّته خلال المرحلة الراهنة بـ«الأكثر خطراً». ويشرح من ثم قائلاً: «لم تعُد هناك خطوط حمراء أو نقاط قتال محددة في هذه الحرب. لذا تحمل مهمتنا التحدّي بشكل عام. وهي محفوفة بخطر كبير، لا سيما أن العدو الإسرائيلي لا يفرّق بين طريق ومبنى ومركز حزب وغيره، ويمكنه بين لحظة وأخرى أن يختار أهدافه ويفاجئ الجميع... وهذا ما وضع الفرق الصحافية في خطر دائم، ونحن علينا بالتالي تأمين المعلومة من قلب الحدث بدقة».

وفق ساسين، فإن أصعب المعلومات هي تلك المتعلقة بالتوغّل البرّي للجيش الإسرائيلي، «فحينها لا يمكن للمراسل معرفة ما يجري بشكل سليم وصحيح على الأرض... ولذا نتّكل أحياناً على مصادر لبنانية من جهة (حزب الله)، و(اليونيفيل) (القوات الدولية العاملة بجنوب لبنان) والجيش اللبناني والدفاع المدني، أو أشخاص عاشوا اللحظة. ومع هذا، يبقى نقل الخبر الدقيق مهمة صعبة جداً. ويشمل ما أقوله أخبار الكمائن والأسر، بينما نحن في المقابل نفتقر إلى القدرة على معرفة هذه الأخبار، ولذا نتوخى الحذر بنقلها».

«لبنان يستأهل التضحية»

في هذه الأثناء، يتكلم مراسل تلفزيون «الجديد» محمد فرحات «بصلابة»، عندما يُسأل عن مهمّته الخطرة اليوم.

محمد كان من بين الفريق الإعلامي الذي تعرّض لقصف مباشر في مركز إقامته في بلدة حاصبيا، وخسر يومذاك زملاء له ولامس الموت عن قرب لولا العناية الإلهية، كما يقول. ويتابع: «لقد أُصبت بحالة إنكار للمخاطر التي أتعرّض لها. في تلك اللحظة عشت كابوساً لم أستوعبه في البداية. وعندما فتحت عيني سألت نفسي لبرهة: أين أنا؟»، ويضيف فرحات: «تجربتي الإعلامية ككل في هذه الحرب كانت مفيدة جداً لي على الصعيدين: الشخصي والمهني. من الصعب أن أُشفى من جروح هذه الحرب، ولكني لم أستسلم أو أفكر يوماً بمغادرة الساحة. فلبنان يستأهل منا التضحية».

العلاج النفسي الجماعي ضرورة

أخيراً، في هذه الحرب لا إجازات ولا أيام عطل وراحة. كل الإعلاميين في مراكز عملهم بحالة استنفار. ولكن ماذا بعد انتهاء الحرب؟ وهل سيحملون منها جراحاً لا تُشفى؟

تردّ الاختصاصية النفسية الدكتورة سهير هاشم بالقول: «الإعلاميون يتعرضون لضغوط جمّة، وفي الطليعة منهم المراسلون. هؤلاء قد لا يستطيعون اليوم كشف تأثيرها السلبي على صحتهم النفسية، ولكن عند انتهاء الحرب قد يكون الأمر فادحاً. وهو ما يستوجب الدعم والمساندة بصورة مستمرة من مالكي المحطات التي يعملون بها». وأضافت الدكتورة هاشم: «ثمة ضرورة لإخضاعهم لجلسات علاج نفسية، والأفضل أن تكون جماعية؛ لأن العلاج الموسمي غير كافٍ في حالات مماثلة، خلالها يستطيعون أن يساندوا ويتفهموا بعضهم البعض بشكل أفضل».