البصرة... تعافي القراءة أم صرعة مؤقتة؟

مكتبات أهليّة انتشرت في مناطقها على نحو لافت حتى باتت ظاهرة

المكتبة الأهلية في البصرة القديمة (الشرق الأوسط)
المكتبة الأهلية في البصرة القديمة (الشرق الأوسط)
TT

البصرة... تعافي القراءة أم صرعة مؤقتة؟

المكتبة الأهلية في البصرة القديمة (الشرق الأوسط)
المكتبة الأهلية في البصرة القديمة (الشرق الأوسط)

شهدت البصرة في السنوات الخمس الأخيرة تأسيس مكتبات أهليّة انتشرت في مناطقها على نحو لافت حتى باتت ظاهرة. وأسّس المكتبات شباب لا يجمعهم مع المهنة سوى حب الكتاب والقراءة، والهروب من البطالة والإحباط السياسي إلى خلق فرص عملهم بأيديهم.
وبعد أن كان شارع المطابع بالعشار، وسط المدينة، لا يضم سوى مكتبات: «المكتبة العلمية»، و«الفكر المعاصر»، و«بدر»، صار المربع المحصور بين ساحة أم البروم وشارع الكويت يضم مكتبات ناشئة أخذت تشقُّ طريقها وتتناسل بسرعة: «شهريار»، و«الصحراء»، و«جيكور»، و«الرصافي». وسبقها أو تبعها في مناطق أخرى: «المعقدين»، و«الهجّان»، و«ماركيز»، و«الرافدين»، و«وتر»، و«الحداثة».
يرى أحمد الأحمد، وهو أمين مكتبة الرافدين (34 سنة)، أن «ازدياد المكتبات يعود لشحة فرص العمل ولبساطة متطلبات المشروع، فالأمر لا يتعدى إيجار محل مناسب وتجهيز ديكور معقول، ودور النشر في شارع المتنبي ستجهزك بالكتب»، لافتاً إلى أن بعض تجار الكتب ببغداد يزوِّدون مكتبات المحافظات بالكتب بطريقة الدفع بالآجل، أو طريقة «التصريف»، بمعنى أنها تحاسبك على قدر مبيعاتك فقط وليس على إجمالي الكمية المسحوبة، لكنّ بعض تجار الجملة «المهمين» يعملون بالدفع المباشر.

المكتبة العلمية في منطقة العشار (الشرق الأوسط)

الأحمد أشار إلى أن تجارة الكتب «لاقت رواجاً في السنوات الأخيرة بسبب توجّه إعلامي عام للترويج للثقافة بوصفها مظهراً مدنياً يُراد له أن يبرز بعد سنوات العنف التي مرّت بالعراق، هذا التوجّه وافقه إقبال شبابي على الكتب بسبب انتشار ما عُرفت بالشوارع الثقافية التي أُنشئت في مدن كثيرة بالعراق، على غرار شارع المتنبي البغدادي».
وخلال سنوات معدودة انتشرت في مدن الفرات الأوسط والجنوب شوارع ثقافية أهمها الفراهيدي (البصرة)، والرصيف المعرفي (ميسان)، والحبوبي (ذي قار)، والجواهري (النجف). تضم هذه الشوارع بسطات كتب لشباب مندفع وَجدَ في الكتاب ملاذه.
ولكن هل يعكس هذا التوسع بالشوارع الثقافية وتأسيس المكتبات ظاهرة انتعاش قرائي؟
يلفت محمد فؤاد، وهو أمين مكتبة بصريّة، النظر لنقطة جوهرية: أن واقع القراءة في المدينة محدود ولا يستطيع استيعاب جميع المكتبات الحالية. إذ يقول: «لا يوجد في البصرة قرّاء لكل هذا العدد من المكتبات والكميات الهائلة من الكتب الصادرة والمستوردة. المبيعات محدودة، والأغلبية تكتفي بالتفرج وقضاء الوقت بالمطالعة والحوار. الشيء الوحيد المؤكّد أن هذه المكتبات لن تستطيع الاستمرار طويلاً وسيأكل بعضها بعضاً. البقاء للأقوى».
وتقف تحديات ارتفاع بدلات الإيجار، وتضخم أسعار الكتب بالجملة، ومحدوديّة القدرة الشرائيّة للزبائن (وأغلبهم من طلاب الجامعات) بوجه استمرارية المكتبات الناشئة، خصوصاً أن أغلبها لا تمتلك رأس مال مريحاً لأصحابها يضمن لهم الاستمرار، كونهم أفراداً، بلا تنظيم مؤسساتي أو جهات داعمة.
يعيش في البصرة قرابة أربعة ملايين نسمة، وفق تقديرات، لكنّ جمهور القراء لا يعدو بضعة آلاف، تقتصر احتياجات أغلبهم في القراءة على متطلبات الدراسة وإعداد البحوث والرسائل الجامعية، فيما يتوزّع الباقي على رواد القراءة المنتظمة والمطالعين الجدد، وهم على أي حال أقليّة لا تسد حاجة السوق.
ورغم عدم توفر إحصائيات دقيقة لمعدلات القراءة في العراق عموماً، يظل بإمكاننا الاستدلال على تراجع الإقبال على الكتاب من فحص ومراقبة بعض الظواهر، ومنها، عدم إقامة دورة جديدة لمعرض البصرة الدولي للكتاب العام الماضي، كما أنه لا إشارة حتى الآن لإقامته في هذا العام.
وكان معرض البصرة الدولي للكتاب، بدورته الأولى، قد أُقيم في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، غير أن أنباء تواردت عن تذمّر دور النشر العربية من انخفاض الإقبال وضعف المبيعات، مما دعا المنضمين إلى تنظيم المعرض كل عامين بدلاً من إقامته سنوياً. ويرى مثقفون أن مشكلة مكتبات البصرة في ضيق قاعدة القراءة واقتصارها على نخبة محدودة من القراء، تتكرر كل مرة، لا يمكنها أن تديم استمرار منافذ البيع، وإذا لم يحصل تغيير في توجه دور النشر وصنّاع الكتاب لاستقطاب عامة الناس للقراءة عبر توفير كتب تلبّي حاجات الفرد، فلن يقف أحد في وجه نهاية وشيكة لـ«نهضة» سوق الكتاب.
دور نشر «دوليّة»
في الأقضية والنواحي
بعد مدة وجيزة من مباشرة المكتبات البصريّة (الشبابيّة) التنافس في سوق الكتب، قرر عددٌ من أصحابها تحويل نشاطها من بيع الكتاب إلى طباعته، في مغامرة شائعة مؤخراً، مستفيدين من تسهيلات الطبع في الدول المحيطة بالعراق، وانخفاض تكاليف الطباعة والشحن نسبياً، وزيادة أعداد «المؤلفين».
هكذا وفي غضون أشهر قليلة باتت البصرة تضم سبع دور نشر تطبع كتبها في لبنان وسوريا وإيران، وتوزّع الكتاب داخل المدينة وبغداد في أفضل الأحوال. يعتمد أغلب دور النشر المحلية على تمويل المؤلفين لكتبهم، بالأخص أولئك الذين يبدأون خطواتهم الأولى، ولا فرصة لهم مع دور النشر المعروفة. وتلجأ الدور لإعادة نشر كتب أدبية كلاسيكية عالمية أو ترجمات قديمة لكتب مشهورة لانتهاء حقوق مؤلفيها، ما يوفّر لها هامشاً مالياً مساعداً. ويمثّل طلاب الدكتوراه وأساتذة الجامعة ممن يرغبون في طباعة أطروحاتهم وبحوثهم هدفاً مغرياً لتلك الدور؛ لأن الكوادر التدريسية تدفع بشكل جيد، ولا ترهق صاحب المشروع بالمطالبة بالمبيعات أو متابعة خطة التوزيع.
وسوى تسلم المخطوطة من المؤلف وتسليمها للمطبعة خارج البلاد، وتنظيم عملية شحن الكتاب، لا تكاد تلك الدور تفعل شيئاً. وهي بذلك، وبشكل دقيق، متعهد طبع وليست دار نشر.
تُستثنى مما سبق دار واحدة أو داران تنهضان بأعمال تحرير وتنسيق متن الكتاب، وإنشاء غلاف له، والمشاركة في توزيعه عبر شبكة شبه محلية.
اللافت أن دور النشر تلك، والتي يقبع بعضها خارج مركز مدينة البصرة، في الأقضية أو النواحي، تشير في منشوراتها وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي إلى كونها دوراً دولية تشارك في معارض الكتاب العربي الموزّعة على مدار السنة؛ لكن الواقع يشير إلى مشاركة 10- 20 في المائة منها فقط في المعارض وبصورة غير دورية، لارتفاع تكاليف المشاركة من تأجير الأجنحة وشحن الكتب وتدبير السكن.

تشابه بيئة العمل
ورغم نشاط الدور البصريّة -بالأخص قبل التداعيات الاقتصادية لحرب روسيا وأوكرانيا- وارتفاع عدد الإصدارات، فإن ذلك لم يُنتج تطوراً في أدوات صناعة الكتاب في المدينة التي لا تزال تفتقر إلى مصممي غرافيك ورسّامي (إليستريتور) جيِّدي التعامل مع ما وصل إليه فن التصميم من صرعات. ويبدو أن كلية الفنون الجميلة في المدينة بأقسامها وكوادرها لا تزال بعيدة عن الإنصات لحاجة السوق العراقية في كثير من المجالات المبتكرة، بالأخص مجال الطباعة. كما أن الطريق لا تزال بعيدة لتأسيس شركات ووكالات نشر وخدمات أدبيّة متخصّصة، على الرغم من الخلفية التاريخية الثقافية للمدينة، وسعة الإنتاج الأدبي، وكثرة الكتّاب.
تشابُه بيئة العمل بين الدور في البصرة يفرض بالنهاية تشابهاً في شكل المنتج النهائي، فأدوات صناعة الكتاب في المدينة محدودة، وإلى وقت قريب كانت الدور تعتمد على مصممين عرب في تصميم أغلفتها وتنسيق الإخراج الداخلي للكتب.
يعمل اليوم في البصرة ما يقارب الـ12 داراً للنشر، تطبع إصداراتها خارج العراق وتعاني ركوداً شديداً جرّاء ارتفاع أسعار الورق والشحن حول العالم في الأشهر الأخيرة، ما ولّد شحة في جديدها بدءاً من مطلع 2022 حتّى اليوم. ورغم أن المكتبات ودور النشر البصرية حرّكت واقع الطباعة في المدينة والذي ظل لسنوات محصوراً في المطابع التجارية بالعشار ذات النتاج البدائي، وصنعت حالة مثيرة وجديدة في واقع المدينة الثقافي، فإنها تظل مسؤولة عن تحقيق قفزة حقيقية في الصناعة على عدة مستويات، مثل نقل الطباعة إلى داخل العراق لكسب الأموال والوقت، وصناعة كوادر فنيّة تجيد العمل على المطابع الحديثة، وفريق من المصممين المبتكرين.
فيما تظل الحلقة الأخيرة والأهم هي ترويج العمل الأدبي البصري ونشره، والبحث عن المواهب الجادّة لا المهووسين بالشهرة، وتنمية قرّاء يتطورون مع مكتبات مدينتهم ودور نشرها الواعدة.


مقالات ذات صلة

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

يوميات الشرق الأمير فيصل بن سلمان يستقبل الأمير خالد بن طلال والدكتور يزيد الحميدان بحضور أعضاء مجلس الأمناء (واس)

الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية

قرَّر مجلس أمناء مكتبة الملك فهد الوطنية تعيين الدكتور يزيد الحميدان أميناً لمكتبة الملك فهد الوطنية خلفاً للأمير خالد بن طلال بن بدر الذي انتهى تكليفه.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
ثقافة وفنون قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

قراءات المثقفين المصريين في عام 2024

مرَّت الثقافة العربية بعام قاسٍ وكابوسي، تسارعت فيه وتيرة التحولات بشكل دراماتيكي مباغت، على شتى الصعد، وبلغت ذروتها في حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على غزة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

كُتب المؤثرين بين الرواج وغياب الشرعية الأدبية

صانع محتوى شاب يحتل بروايته الجديدة قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا، الخبر شغل مساحات واسعة من وسائل الإعلام

أنيسة مخالدي (باريس)
كتب «حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

«حكايات من العراق القديم» و«ملوك الوركاء الثلاثة»

صدر عن دار «السرد» ببغداد كتابان مترجمان عن الإنجليزية للباحثة والحكواتية الإنجليزية فران هزلتون.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
كتب كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث

«الشرق الأوسط» (القاهرة)

كتب أحلم بقراءتها 2025

كتب أحلم بقراءتها 2025
TT

كتب أحلم بقراءتها 2025

كتب أحلم بقراءتها 2025

هناك كتب عديدة أحلم بقراءتها في مطلع هذا العام الجديد المبارك. لكني أذكر من بينها كتابين للمفكر الجزائري المرموق لاهوري عدي. الأول هو: «القومية العربية الراديكالية والإسلام السياسي». والثاني: «أزمة الخطاب الديني الإسلامي المعاصر - ضرورة الانتقال من فلسفة أفلاطون إلى فلسفة كانط». وربما كان هذا أهم كتبه وأشهرها. والدكتور لاهوري عدي اشتهر، منذ عام 1992، ببلورة أطروحة لافتة عن صعود موجة الإسلام السياسي، بعنوان: «التراجع الخصب أو الانتكاسة الخصبة والمفيدة». هذا المصطلح شاع على الألسن وبحق. ما معناه؟ ما فحواه؟ مصطلح التراجع أو الانتكاسة شيء سلبي وليس إيجابياً، على عكس ما يوحي به المؤلف للوهلة الأولى، ولكنه يتحول على يديه إلى شيء إيجابي تماماً، إذا ما فهمناه على حقيقته. ينبغي العلم أنه بلوره في عز صعود الموجة الأصولية الجزائرية و«جبهة الإنقاذ». قال للجميع ما معناه: لكي تتخلصوا من الأصوليين الماضويين اتركوهم يحكموا البلاد. هذه هي الطريقة الوحيدة للتخلص من كابوسهم. وذلك لأن الشعب الجزائري سوف يكتشف بعد فترة قصيرة مدى عقم مشروعهم وتخلفه عن ركب الحضارة والعصر، وسوف يكتشف أن وعودهم الديماغوجية الراديكالية غير قابلة للتطبيق. سوف يكتشف أنها فاشلة لن تحل مشكلة الشعب، بل وستزيدها تفاقماً. وعندئذ يلفظهم الشعب وينصرف عنهم ويدير ظهره لهم ويفتح صدره للإصلاحيين الحداثيين الليبراليين. هذه الأطروحة تذكرنا بمقولة «مكر العقل في التاريخ» لهيغل، أو بـ«الدور الإيجابي للعامل السلبي في التاريخ». بمعنى أنك لن تستطيع التوصل إلى المرحلة الإيجابية قبل المرور بالمرحلة السلبية وتذوُّق طعمها والاكتواء بحرِّ نارها. لن تتوصل إلى الخير قبل المرور بمرحلة الشر. لن تتوصل إلى النور قبل المرور بمرحلة الظلام الحالك. ينبغي أن تدفع الثمن لكي تصل إلى بر الخلاص وشاطئ الأمان. وقد سبق المتنبي هيغل إلى هذه الفكرة عندما قال:

وَلا بدَّ دونَ الشَّهْد من إِبرِ النحلِ

هذه الأطروحة تقول لنا ما معناه: الأصولية المتطرفة تشكل وهماً جباراً مقدساً يسيطر على عقول الملايين من العرب والمسلمين. إنهم يعتقدون أنها ستحلّ كل مشاكلهم بضربة عصا سحرية، إذا ما وصلت إلى الحكم. ولا يمكن التخلص من هذا الوهم الجبار الذي يخترق القرون ويسيطر على عقول الملايين، إلا بعد تجريبه ووضعه على المحك. عندئذ يتبخر كفقاعة من صابون. ولكن المشكلة أنه لم يتبخر في إيران حتى الآن. بعد مرور أكثر من 40 سنة لا تزال الأصولية الدينية المتخلفة تحكم إيران وتجثم على صدرها. فإلى متى يا ترى؟ إلى متى ستظل الأصولية الدينية القروسطية تحكم بلداً كبيراً وشعباً مثقفاً مبدعاً كالشعب الإيراني؟ بعض الباحثين يعتقدون أن هذا النظام الرجعي لولاية الفقيه والملالي انتهى عملياً، أو أوشك على نهايته. لقد ملَّت منه الشبيبة الإيرانية، ومِن الإكراه في الدين إلى أقصى حد ممكن. وبالتالي، فإما أن ينفجر هذا النظام من الداخل وينتصر محمد جواد ظريف وبقية الليبراليين الإصلاحيين المنفتحين على التطور والحضارة الحديثة. وإما أن يعود ابن الشاه من منفاه ويعتلي عرش آبائه مرة أخرى. ولكم الخيار.

وبخصوص إيران، أحلم بقراءة مذكرات فرح بهلوي للمرة الثانية أو ربما الثالثة. وهو كتاب ضخم يتجاوز الأربعمائة صفحة من القطع الكبير. وتتصدره صورة الشاهبانو الجميلة الرائعة. ولكنها لم تكن جميلة فقط، وإنما كانت ذكية جداً وعميقة في تفكيرها. من يُرِد أن يتعرف على أوضاع الشعب الإيراني قبل انفجار الثورة الأصولية وفيما بعدها أنصحه بقراءة هذا الكتاب. مَن يرد التعرف على شخصية الخميني عندما كان لا يزال نكرة من النكرات، فليقرأ الصفحات الممتازة المكرَّسة له من قبل فرح ديبا. كان مجرد شيخ متزمت ظلامي معادٍ بشكل راديكالي لفكرة التقدُّم والتطور والإصلاح الزراعي الذي سنَّه الشاه في ثورته البيضاء التي لم تُسفَك فيها قطرة دم واحدة. كان مع الإقطاع والإقطاعيين الكبار ضد الفلاحين البسطاء الفقراء. وكان بإمكان الشاه أن يعدمه، ولكنه لم يفعل، وإنما تركه يذهب بكل حرية إلى منفاه. بعدئذ تحول هذا الشيخ القروسطي الظلامي إلى أسطورة على يد أشياعه وجماعات الإسلام السياسي أو المسيَّس. هذا لا يعني أنني أدافع عن الشاه على طول الخط، كما تفعل فرح ديبا؛ فله مساوئه ونقائصه الكبيرة وغطرساته وعنجهياته التي أودت به. ولكن ينبغي الاعتراف بأنه كانت له إيجابيات، وليس فقط سلبيات مُنكَرة. ولكن الموجة الأصولية دمرته ودمرت سمعته كلياً، وقد آن الأوان لتدميرها هي الأخرى، بعد أن حكمت إيران مدة 45 سنة متواصلة. وعلى أي حال، فإن أفعالها وأخطاءها الكبرى هي التي دمرتها أو ستدمرها. لقد أشاعت الحزازات المذهبية في المنطقة، وأعادتنا 1400 سنة إلى الوراء. هل سننتظر مليون سنة لكي نتجاوز الفتنة الكبرى التي مزقتنا؟ هنا يكمن خطأ التفكير الأصولي الرجعي المسجون في عقلية ماضوية عفى عليها الزمن. متى ستتحقق المصالحة التاريخية بين كافة المذاهب والطوائف عندنا مثلما تحققت المصالحة التاريخية الكاثوليكية - البروتستانتية في أوروبا وأنقذتهم من جحيم الانقسامات الطائفية والمذهبية؟ متى ستنتصر الأنوار العربية الإسلامية على الظلمات العربية الإسلامية؟ بانتظار أن يتحقق ذلك ينبغي على جميع الأقليات أن تلتف حول الأكثرية، لأنها هي العمود الفقري للبلاد، ولأن نجاحها سيكون نجاحاً للجميع، وفشلها (لا سمح الله) سيرتد وبالاً على الجميع.

أضيف بأن الحل الوحيد للتطرف هو الإسلام الوسطي العقلاني المعتدل السائد في معظم الدول العربية، إن لم يكن كلها. «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً»، كما يقول القرآن الكريم. وهو الذي نصّت عليه «وثيقة الأخوة الإنسانية» في أبوظبي عام 2019، و«وثيقة مكة المكرمة» الصادرة عن «رابطة العالم الإسلامي»، في العام ذاته، وهو الذي تعلمته أنا شخصياً في ثانوية مدينة جبلة الساحلية السورية، على يد أستاذ التربية الدينية الشيخ محمد أديب قسام. كان فصيحاً بليغاً أزهرياً (خريج الأزهر الشريف). كان يحببك بدرس الديانة غصباً عنك. لا أزال أتذكر كيف كان يشرح لنا الحديث التالي: «دخلت النار امرأة في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت». كأني أراه أمام عيني الآن وهو يشرح لنا هذا الحديث النبوي الشريف. هنا تكمن سماحة الإسلام ومكارم الأخلاق. فإذا كان الإسلام يشفق على الهرة أو القطة أو الحيوانات؛ فما بالك بالبشر؟ هنا يكمن جوهر الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين لا نقمة عليهم ولا ترويعاً لهم.