لا يطيل بيدرو ألمودوفار الغياب. في الـ73 من عمره، يعود المخرج السينمائي الإسباني النشيط مع فيلم جديد هو الـ36 على قائمة أعماله المنوّعة ما بين أفلام قصيرة وطويلة. في «أسلوب حياة غريب - Strange Way of Life» الذي يُعرض للمرة الأولى ضمن مهرجان كان السينمائي الشهر المقبل، يتصدّر المشهد ممثلان هما إيثان هوك وبيدرو باسكال.
قلّما يُفرد ألمودوفار صدارة أفلامه للرجال، فهو معروف بكونه المخرج النسويّ الأول والأكثر التزاماً بقضايا النساء؛ ليس عبر اختياره بطلاتٍ إناثاً فحسب، بل كذلك من خلال طرحه مواضيع تمسّ المرأة بشكل خاص. الدراما القصيرة المرتقبة والتي تعالج علاقة عاطفية بين رجُلَين، هي ثاني أفلام ألمودوفار الناطقة بالإنجليزية، وقد تكون أوّلها حيث البطولة المطلقة للرجال.
ملصق فيلم Strange Way of Life المرتقب عرضه في مهرجان كان 2023
أفلام كرّست ألمودوفار مخرجاً نسوياً
منذ فيلم «نساء على حافة انهيار عصبي – Women on the Verge of a Nervous Breakdown» عام 1988، ارتسمت ملامح ألمودوفار السينمائية النسويّة. اتّضح أنه صوت السيّدات على الشاشة الفضية، يسمع ما في دواخلهنّ ويغوص عميقاً في تركيبتهنّ النفسية. يتعاطف مع انكساراتهنّ ويؤمن بأنهن قادرات على النهوض من جديد؛ كما في «Women on the Verge of a Nervous Breakdown» حيث «بيبا» التي هجرها حبيبها تنجح في تخطّي الحزن والغضب، من دون أن يعني ذلك أنّ الانكسار أمام الهَجر أمرٌ معيب أو مخجل.
تتكرّر ثيمة المرأة المنتصرة على خيبات العلاقات العاطفية في أفلام عدّة لألمودوفار. في «زهرة سرّي – The Flower of my Secret» عام 1995، تعيد «ليو» اكتشاف القوة والأمل بعد أن تحاول الانتحار بسبب زواج فاشل وزوج خائن. تختبر الضياع والانهيار بكل مراحلهما، قبل أن تستوعب أنّ لبعض العلاقات تاريخ صلاحية.
بطلات فيلم Women on the Verge of a Nervous Breakdown
مع مرور الأفلام، بات ألمودوفار يلقَّب بـ«مخرج النساء»، إذ إنه تمسّك باستكشاف حكاياتهن. يستخرج الضحكة من قلب التراجيديا، ويخترع جمالاً وسط أقسى المواقف التي يواجهنها. كما لو أنه يضع أرواح بطلاته على طاولة التشريح لينبش أنبلَ ما فيها، على غرار ما حصل في فيلم «صوت الإنسان – The Human Voice» عام 2020.
أما في «تحدّث إليها – Talk to Her» (2002) الحائز على «أوسكار»، فيعتني رجلان بحبيبتيهما الغارقتين في غيبوبة. يشكّل الفيلم مساحةً يحتفي فيها ألمودوفار بالذكور الذين لا يخبئون دموعهم، والمتصالحين مع سِماتهم الأنثوية كالإحساس المرهف والتفاني.
ابحثوا عن الأمّ
تبقى الأم شخصية محورية في أفلام ألمودوفار؛ من «كعب عالٍ – High Heels» عام 1991 إلى «أمهات متوازيات – Parallel Mothers» عام 2021، مروراً بـ«كل شيء عن أمي – All About my Mother» (1999)، و«العودة – Volver» (2006)، و«جولييتا – Julieta» (2016).
تتنوّع الزوايا التي يعالجها في الأفلام المتمحورة حول موضوع الأمومة. في «High Heels» و«Julieta»، يضيء على العلاقات الملتبسة والمعقّدة بين الأمهات وبناتهن. أما «All About my Mother» الحائز هو الآخر على جائزة أوسكار، فأشبه بسيمفونية تعزفها الممثلة سيسيليا روث بدور «مانويلا»، الأم التي خسرت وحيدها في حادث أليم. اختار ألمودوفار أن يهدي هذا الفيلم لأمه التي كانت تعيش أسابيعها الأخيرة أثناء تصويره.
تقول الممثلة بينيلوبي كروز التي شاركت في الفيلم، إن لقاءها بوالدة ألمودوفار ساعدها في فهم الكثير عنه وعن اندهاشه بالنساء ومعرفته العميقة بطباعهنّ. نشأ المخرج وسط أمه وخالاته وجاراتهنّ، مراقباً بدقّة تفاصيل يومياتهن. هو الذي منح التضامن النسائي أجمل صورة، غالباً ما يكرر أنه كان محاطاً بسيّدات قويات خلال طفولته: «كنّ سعيدات، يعملن بجهد ويتكلّمن بشكل متواصل. لقد صقلن شخصيتي. لم أتماهَ يوماً مع الذكور، الأمومة تُلهمني أكثر من الأبوّة».
يتجلّى التضامن النسائي بأبهى حلّة في «Volver»، حيث تتكاتف الجدّة مع الأم والابنة لإنقاذ بعضهنّ البعض من الأب المعتدي. هي تحيّة أنثويّة عابرة للأجيال، تُثبت أن المرأة قادرة على تحطيم إطار الضحية بقوّة الدمع والضحك والغناء.
في هذا الفيلم أيضاً، يستعيد ألمودوفار مشاهد من طفولته في منطقة لا مانشا الإسبانية، ويستلهم بعض الشخصيات من أمه فرانشيسكا كاباييرو. يقول إنها، مثل تلك الشخصيات، كانت تمتلك قدرة طبيعية على اختلاق الأمور لحلّ المشاكل بسلاسة وحماية أولادها. وقد وسّعت موهبة الاختراع تلك مخيّلة بيدرو الصغير الذي وظّفها لاحقاً في أفلامه.
ألمودوفار ووالدته خلال تصوير أحد أفلامه عام 1984 (تويتر)
مُلهِمات ألمودوفار
صحيح أن والدة ألمودوفار هي ملهمته الأولى، إلا أنه وجد من بين الممثلات اللواتي تعاون معهنّ، ملهماتٍ أخريات. تقول أدريانا أوغارتي التي مثّلت في فيلم «جولييتا» إنه «وفي ما يشبه اللغز، يشعر ألمودوفار بما نشعر به كنساء ويعرف مَن نحن».
هو الذي صوّر المرأة كما لم يصوّرها أي مخرج آخر، يتميّز بإخلاصه لممثّلاته، وهنّ يبادلنه هذا الإخلاص. منهنّ مَن مثّلن في 9 من أفلامه، مثل روسي دي بالما التي اكتشفها ألمودوفار في إحدى حانات مدريد حيث كانت تعمل نادلة. لفتته ملامحها الغريبة فدعاها إلى التمثيل في فيلم «قانون الرغبة – Law of Desire» عام 1987، ومنذ ذلك الحين لم يفترقا.
الممثلة روسي دي بالما مع ألمودوفار (إنستغرام)
الصورة النسائية المتصدّرة المشهد في سينما ألمودوفار لا ترتبط إطلاقاً بجمال الممثلة أو بسنّها الصغيرة. لا تقدّر عينُه ما هو ظاهرٌ من مفاتن، بل تخترق الداخل لتستخرج ما خفيَ من محاسن. وكَم من ممثّلة بدأت مسيرتها في أفلامه، وجدت نفسها تكبر عبرها.
بعد والدته والسيّدات الحاضرات في طفولته، أتت الممثلة كارمن ماورا لتشكّل ملهمته الثانية. لعبت بطولة فيلمه الأول عام 1980، ورافقته على مدى 7 أفلام كان آخرها «Volver» عام 2006. ومنذ ذلك الفيلم انفصلا، لتصرّح ماورا لاحقاً بأنها لن تعمل معه مجدداً لأن جلسات تصويره متشنّجة جداً.
في المقابل، تعد ممثلات أخريات كسيسيليا روث أن «العمل مع بيدرو هو أفضل ما قد يحصل لممثلة». توافقها بينيلوبي كروز الرأي، وهي الفنانة التي لطالما وصفها ألمودوفار بملهمته. التقيا عام 1997 وشاركت حتى الآن في 8 من أفلامه. يتشاركان الطاقة والحيويّة ذاتها، وهي غالباً ما تصف عملها معه بالنعمة في حياتها ليس كممثلة فحسب، بل كامرأة كذلك.
الممثلة بينيلوبي كروز مع ألمودوفار عام 2019 (أ ب)