موقف الفقهاء من العلم والعلماء

مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي  بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
TT

موقف الفقهاء من العلم والعلماء

مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي  بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)
مركبة «SpaceXDragon» المحملة بالإمدادات تقترب من محطة الفضاء الدولية على مسافة 264 ميلًا فوق المحيط الأطلسي بين أميركا الجنوبية وأفريقيا في 16 مارس 2023 (أ.ف.ب)

أشعر بشيء من غيظ مبرر ممن يكتب ليقرر أن موقف الفقهاء من العلم كان جيداً، لأن الأماني لا تفيد شيئاً أمام الحقائق، وهذه الحقائق ليست شيئاً سننبش عنه في بطون الكتب، بل هو موقف حي ظاهر يتجلى في الموقف من دوران الأرض حول الشمس، ورفض الحساب الفلكي لحساب دخول الشهور، وغيرها من القضايا التي نعيشها وتبرز على السطح في مواسمها.
هذا الموقف العدائي من العلم قديم، وللبرهنة على ذلك، سوف نستعرض هنا موقفين لاسمين من أكبر الأسماء في سماء الفقه الإسلامي: الغزالي، وابن تيمية. اسمان يكادان يكونان أكبر المؤثرين في عالمنا. أما الغزالي فينفي مبدأ السببية، ويعتقد أن كل حجر كسر زجاجاً فإنما كسره بإرادة حادثة لله، شيء جديد يخلقه الله في تلك اللحظة، وفي كل مكان وزمان، وهو لا يتوقف عن التدخل في كل لحظة لإحداث هذا الأثر. إنه يرفض قوانين الطبيعة كلها، ولا يصطف مع الذين يؤمنون بقوانين الطبيعة ويردونها إلى الله. لا يوجد قانون طبيعي، من وجهة نظره.
يعتقد عموم الناس اليوم أن قانون السببية صحيح، لكنهم لا يعرفون على وجه التحديد أهمية هذا القانون. والصحيح الذي لا شك فيه، أن العلم الطبيعي الحديث يعترف بكل أريحية أنه بكُلّه وكلكله، بقَضه وقضيضه، يقوم على مبدأ السببية، وحتى في تلك اللحظات التي ندرس فيها قوانين أخرى، كقوانين السرعة الثلاثة لنيوتن، أو قانون السقوط الحر عند غاليلي فمن تبعه، قانون السببية موجود ومستبطن ويعمل، إنه يدخل في كل شيء.
رفضُ الغزالي، وهو الإمام المجدد في القرن الخامس، لمبدأ السببية ومتابعة المسلمين له، هو سبب الخيبة الكبيرة التي عاش فيها المسلمون خلال قرونهم المتأخرة، حيث غاب العلم وساد التخلف والجهل. لقد أخذ الآخرون بأسباب العلم وصنعوا ثورتهم العلمية، التي صنعت علماً جديداً على أنقاض العلم الحديث، ثم أنتجوا التكنولوجيا التي جعلتهم يتحكمون بالعالم، ونحن من ضمنياته، وهكذا تأخرنا وصرنا من دول العالم الثالث، في قصة تعرفونها ولا حاجة لتكرارها.
أما ابن تيمية، فقد حيكت الأكاذيب الكثيرة حوله حتى كاد محبوه يجعلونه سابقاً لجون لوك مؤسس التجريبية، لمجرد أنه انتقد المنطق الأرسطي. إنه يؤمن حقاً بمبدأ السببية، لكن السببية التي تحدث عنها ليست سببية العلم وقوانين الطبيعة، وإنما هي سببية تُعلل أفعال الله وأفعال الإنسان، ولا تتجاوزهما. سببيته لا تدعم العلم التجريبي المادي الحديث بأي شيء، والواقع أنه يرفض طريقة العلم الحديث رفضاً قاطعاً. نرى هذا جلياً في نقده للمعارف الصاعدة، فالعلم نازل لا صاعد، حسب رأيه، أي ينزل من السماء عن طريق الوحي، ولا يصعد من الأرض إلى السماء على طريق دراسة الطبيعة. لا ضرر في التذكير هنا بأن العلم التجريبي كله قائم على دراسة الطبيعة عن طريق التجربة التي تعتمد على الحواس والعقل في دراسة الظواهر، وأنه كله صاعد، يبدأ من الطبيعة ويصعد إلى الأفلاك. هذا النوع من المعرفة القائم على الحواس والعقل هو بالنسبة لابن تيمية يدخل في وضع العقل فوق منزلة النص الديني.
لم يكن ابن تيمية قط تجريبياً وإنما كان يملك نزعة مادية حسيّة لا تجريبية، ومن علامات كونه فيلسوفاً حسياً أنه يفضل علم الطبيعة على علم الرياضيات الذي وصفه بأنه «مجرد تصور مقادير مجردة أو أعداد مجردة». وفي مكان آخر يصفه بأنه كثير التعب قليل الفائدة. وفي موضع ثالث يتكرر في علم الرياضيات ما سبق وقاله في علم المنطق «لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، وما لم يقم عليه الدليل فظنون وأباطيل»، أي أن الرياضيات تحتاج إلى دليل من القرآن والسنة، فإن لم تجد ولن تجد، فهي ظنون وأباطيل.
هل كان ابن تيمية عالِم رياضيات حتى يحق له أن يصفها بهذا الوصف المجحف؟ الجواب: هو لا، فهو لم يصنف في الرياضيات، بل لم يدرُسها، إنما هي تعليقات وانطباعات، ورجل الدين عندما يتكلم عن انطباعاته حول العلوم الدنيوية يكون في كلامه شطط كبير.
ولا تصمد دعوى من ينسبون ابن تيمية إلى نصرة العلم الحديث بمجرد نقده للمنطق القديم، فقد وجدناه يرفض علم الفلك، ويقرر أنه كثير التعب قليل الفائدة، ووجدناه يرفض معرفة دخول الشهر بواسطته لأننا أمة أمية، حسب رأيه. وفي موضع آخر، يحبذ للمسلم ألا يتعلم الكتابة والحساب إن أمكن تعلم القرآن والعلوم الدينية بدونهما ليكون حاله كحال النبي الأميّ، حسب تعبيره. هذا معناه أنه داعية للأميّة، وأنه لا يعترف إلا بتعلم العلوم الدينية فقط. ولو أنه كان حيّاً اليوم لكان ممن يشترطون الرؤية لدخول شهر رمضان والعيدين بحيث تصوم كل دولة عربية أو إسلامية حسب الرؤية الخاصة بها، رغم أنها فضيحة تتكرر في كل عام ثلاث مرات، تصوم دولة وتفطر دولة مجاورة. مع أنه لا توجد مسافة بينهما تسمح باختلاف دخول الشهر، مع سهولة الرجوع إلى الحساب الفلكي القطعي الذي يعتمد على العلم الحديث وحسابات الفيزياء الفلكية، ويستطيع تحديد بداية الشهور ونهايتها ومواعيد مواليد الأهلة لعشرات السنوات المقبلة بنسبة خطأ قدرها المختصون بواحد في مائة ألف.
أما علمه بالطب فحدث ولا حرج، فقد وجدته يقول في محاولة لتبرير مذهبه في أن لحم الإبل ينقض الوضوء، بأن الإبل فيها «قوة شيطانية»، وأن هذه القوة قد أضرّت من أدمنوا أكلها من الأعراب بحيث امتلأت قلوبهم بالحقد، ولم يُبرر كيف أن الصحابة وهم من ضمن من يأكلون لحمها لم يسرِ فيهم الحقد. وبقي هو وتلميذه ابن القيم دعاة لما أسموه خطأ بالطب النبوي، حتى جاء فقهاء أكثر وعياً، كالطاهر بن عاشور، فقرروا أنه لا يوجد طب نبوي، وأن ما ورد فيه من أحاديث لا ينطلق من كونه وحياً، بل هو من تجارب النبي الشخصية وحركة الطب في زمنه.
أما الكيمياء فقد أفتى ابن تيمية بأن تعاطيها وتعلمها حرام لأنها غش ومضاهاة لخلق الله. وقد حاول بعضهم أن ينفي هذا عنه فقال إنه يقصد «الخيمياء» لا «الكيمياء» ومن يُحول المعدن الرخيص إلى نفيس، وهذا الدفاع كله لا معنى له، فالكيمياء الحديثة المتفق على عظمتها وفائدتها الكبيرة للإنسانية هي علم التبديل والاستحالة، ويدخل في عملها تحويل المعادن من رخيص إلى نفيس. ولا يزال العلماء يهتمون بهذا الحقل المعرفي، وقد كانت لإسحاق نيوتن بحوثه الخاصة في هذا المضمار، وإلى يومنا هذا هو علم قائم يتطور. وتبدو هذه الفتوى الشاذة نتيجة لفكرة خاطئة لم يختبرها، فترسخت عنده بأن لا أحد على الحقيقة يستطيع أن يغيّر عنصراً ما فيحوله إلى عنصر آخر إلا الله. وهكذا تلج الكيمياء في مضاهاة قدرة الله على الخلق، أو هي من أعمال السحرة. ولذلك، وجدناه يشن هجوماً منكراً على عالم كبير ومفخرة لكل تاريخ الأمة العربية الإسلامية، ألا وهو جابر بن حيّان، أحد أكبر رواد علم الكيمياء على مستوى العالم، ويصفه بأنه رجل مجهول لم يُعرف بدين. هذا المجهول هو أبو موسى جابر بن حيان الذي ترجم آر. راسل عدداً من كتبه إلى الإنجليزية، ووصفه بأن أشهر علماء العرب وفلاسفتهم، وعد له زكي نجيب محمود 52 كتاباً في العلوم الطبيعية.
وقد أظهر ابن تيمية موقفه الحقيقي من العلماء والفلاسفة والأطباء والمهندسين والفلكيين في رسالة غاضبة يخاطب بها رجلاً مات قبله بقرون يقال له ابن سينا، قائلاً: «وكون الواحد منكم حاذقاً في طب، أو نجوم، أو غرس، أو بناء، هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته، وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب، الذي هو أجلّ المطالب، وأرفع المواهب، فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى، إما جهلاً أو تفريطاً». لقد أعدت قراءة هذا النص مرات عدة تعجباً، لأنه أحال الحذق في الطب والإبداع في العلوم إلى الجهل بالله، وكأن الحذق في الطب ومعرفة الله لا يجتمعان.
وبعد هذه، وجدته يكرّ على متخصص في علم الفلك والرياضيات والفلسفة هو نصير الدين الطوسي الذي كان الداعية لإنشاء مرصد مراغة في بلاد فارس، فيقول فيه: «وهل كان الطوسي وأمثاله يَنفُقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين، ومكايد المحتالين، المنافية للعقل والدين؟!». هذا السجع، وهذا الحسد لكل من نال حظوة عند الملوك لن يُنسينا أن الطوسي - بغض النظر عن مواقفه السياسية - هو واحد من أكبر علماء الفلك والرياضيات في زمانه على مستوى العالم، شاء من شاء وأبى من أبى. ترجمت كتبه إلى اللاتينية وغيرها من اللغات الأوربية، وخلاصة القول فيه أنه كان من أعظم علماء الحضارة العربية، ومن أكبر الرياضيين، وقد أسهم بشكل كبير في تطوير العلوم، لا سيما الفلك والرياضيات، وبقيَت مؤلفاته مراجع عالمية لقرون عدة، ونالت شهرة كبيرة بفضل ما قدم مؤلفها من إسهامات غنية.
هذا هو موقف ابن تيمية من العلم التجريبي الحديث. وهو كما ترى موقف سلبي للغاية ولا يقارن بموقف من يكثر من النقل عنهم كالفارابي وابن سينا وابن رشد، فهؤلاء كانوا علماء على الحقيقة، وقد بقيت الجامعات الأوروبية تُدرس كتاب «القانون في الطب» لمدة ستة قرون، وبقي هو الكتاب الأساس الذي يقوم عليه علم الطب إلى زمن ليس بالبعيد، وتمت ترجمته لمعظم لغات العالم، وفي عام 1476 طُبع الكتاب في روما باللغة العربيّة ضمن أربع مُجلدات، وقد تقدّم ابن سينا فيه بالعديد من الابتكارات المُذهلة للبشرية، وكان رائداً في علم دراسة الطفيليات، وإليه يرجع الفضل في اكتشاف أمراض عديدة لا تزال منتشرة إلى الزمن الحالي.
هذا هو موقف الفقهاء المشاهير من العلم والعلماء، ولا يمكن لمن يحترم عقولنا أن يلوي أعناق الحقائق، بغير دليل.
* باحث سعودي



جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
TT

جولة في «دماغ نتنياهو»: كيف سخّر رجل واحد العالم لخدمة أهدافه الشخصية

صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)
صورة ملصق انتخابي ممزق لبنيامين نتنياهو في 1999 (غيتي)

قبل 15 عاماً، سُئل بنتسي نتنياهو، والد رئيس الوزراء الإسرائيلي، عن رأيه، في نجله. فأجاب: «إنه ليس بأهبل».

الصحافي الذي سأله يُدعى عميت سيجال، وهو من سلالة يمينية، يعمل مراسلاً سياسياً في «القناة 12»، التي كانت تُدعى «القناة الثانية». وسيجال يتفاخر بأنه من المعجبين برئيس حكومته نتنياهو. والغرض من سؤال الوالد، لم يكن المساس بشخص الابن بل بالعكس، فقد وجّه سيجال السؤال، لكي يفهم ما وراء التصريح الذي أدلى به نتنياهو الابن في جامعة «بار إيلان»، في سنة 2009، وأعرب فيه عن تأييده حل الدولتين.

وعليه، أجاب الوالد: «بيبي لا يؤيد حل الدولتين. لقد وضع شروطاً لا يمكن للعرب قبولها. وهذه بلاد اليهود ولا مكان للعرب فيها». وكانت الشروط أن يعترف الفلسطينيون بإسرائيل دولةً للشعب اليهودي، وتكون الدولة الفلسطينية منزوعة السلاح، وأن تحل قضية اللاجئين خارج تخوم إسرائيل.

الخطاب جاء في ظروف معينة، تُذكّر بهذه الأيام. ففي حينه، باشر الرئيس باراك أوباما دورته الرئاسية الأولى، في 20 يناير (كانون الثاني)، وبعد شهرين، في نهاية مارس (آذار)، باشر نتنياهو رئاسة الحكومة الإسرائيلية. وفي 18 مايو (أيار) استقبل أوباما نتنياهو في البيت الأبيض، وطلب منه وقف المستوطنات وتأييد حل الدولتين، «الذي لا حل سواه لإنهاء الصراع». وفي 4 يونيو (حزيران)، ألقى الرئيس الأميركي خطاباً في القاهرة، متوجهاً للعالم العربي والإسلامي، وفاتحاً صفحة جديدة في العلاقات الأميركية معهما. وبعد 10 أيام ألقى نتنياهو خطاب «بار إيلان».

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام خريطة لغزة خلال مؤتمره الصحافي في القدس ليلة الاثنين (إ.ب.أ)

قبل هذا الموعد بست سنوات، كان نتنياهو قد عُيّن وزيراً للمالية في حكومة أرئيل شارون، وقد سُئل والده عن مستقبل ابنه، وإن كان يصلح ليصبح رئيس وزراء؟ فأجاب: «كلا، إنه يصلح وزيراً للخارجية». ففي مفهومه، منصب وزير الخارجية يُلائم مَن يحب الكلام، ويجيد الخطابة، ويتمتع بحفلات الكوكتيل، ولا يحب العمل. ومن يعرف الابن أكثر من الوالد.

التسويق في البضائع والسياسة

المشكلة اليوم أن هذا الابن يقود دولة في مركز الأحداث في الشرق الأوسط والعالم، وأولئك الذين يتعاملون مع هذا الابن، هم رؤساء دول وملوك وقادة جيشه ومخابراته وبشر يتحكم بمصائرهم، وكلهم ذاقوا على جلودهم مرارة التجربة.

ومن الصعب أن تجد فيهم مَن يستطيع فك رموز شخصية بنيامين نتنياهو. فهو دائماً مفاجئ، وفي كثير من الأحيان صادم، لكن هناك شيئاً يتقنه جيداً. هو وضع مصالحه الشخصية فوق أي اعتبار؛ إذا أراد أمراً فلن يعيقه شيء عن الوصول إليه. وأهم أدواته في تحقيق أهدافه، إدارة التسويق.

كان نتنياهو قد بدأ حياته موظفاً في تسويق البضاعة بمحل لتجارة الأثاث في الولايات المتحدة، وأبدع في التقاط أسرار هذه المهنة. كان يعرض بضاعة أخشاب السويد على أنها أخشاب زان، ويبيع أشياء تصلح وأشياء لا تصلح.

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متحدّثاً لأعضاء في الكونغرس الأميركي في يوليو 2024 (غيتي)

وإذا ما قرر صاحب المحل التخلُّص من بضاعة كاسدة، كلّف نتنياهو بالمهمة، فيروِّج لها الأخير كما لو أنها أفضل المنتجات. كان يكذب بتلقائية، ومن دون أن تظهر على وجهه أي علامة. كان يقبض ولا يدفع. المراوغة والاحتيال وخيانة الأمانة، كلها تمر على الزبائن بفضل قدرته العالية على الكلام، وقبل أن يُكتشف أمره، انتقل إلى العمل السياسي. عُين ممثلاً لإسرائيل في الأمم المتحدة، ثم نائباً لوزير الخارجية، ووزيراً للخارجية، ثم وزيراً للمالية، ثم رئيساً للوزراء، لفترة أطول من أي رئيس وزراء سابق له.

لقد حمل نتنياهو معه إلى السياسة كل صفاته في التسويق. المثل الصارخ على ذلك، هو ما يفعله اليوم في اختراعه معضلة «محور فيلادلفيا» لعرقلة صفقة تبادل الأسرى. قبل هذه المعضلة بواحد وثلاثين سنة، اخترع نتنياهو قصة أخرى بفضلها انتخب لرئاسة «الليكود»، ليُمهّد الطريق لرئاسة الحكومة. ففي الرابع عشر من يناير من سنة 1993، وعلى أثر هزيمة «الليكود»، بقيادة إسحق شامير، خاض نتنياهو انتخابات داخلية على منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة، في مواجهة 3 مرشحين: دافيد ليفي، وبيني بيغن، وموشيه قصاب.

رجل يضع ملصقاً انتخابياً لإيهود باراك فوق صورة المرشح بنيامين نتنياهو في انتخابات 1999 (غيتي)

قبل 10 أيام من الانتخابات، طلب نتنياهو الوصول إلى استوديوهات القناة الرسمية الوحيدة للتلفزيون للكشف عن فضيحة كبرى، وهناك أعلن أنه كان على علاقة بامرأة أخرى خارج الزواج، وأن شخصية كبيرة في «الليكود»، محاطة بعصابة مجرمين، هددت بكشف شريط يوثق علاقته بها بشكل فاضح، إذا لم ينسحب من المنافسة. وألمح إلى أن هذه الشخصية هي المنافس الأساسي دافيد ليفي. وانقلبت المعركة الانتخابية وفقاً للأجندة التي فرضها. وبالنتيجة فاز على منافسيه الثلاثة بنسبة 52 في المائة.

وبالطريقة نفسها، لكن بمستوى أخطر، فاز برئاسة الحكومة، فقد أدار حملة تحريض دموية على إسحاق رابين، واتهمه بخيانة مصالح إسرائيل الأمنية عندما وقع على اتفاقيات «أوسلو»، فقرر شاب يميني متطرف اغتيال رابين. ورغم أن الاغتيال أحدث زلزالاً في السياسة الإسرائيلية، نجح نتنياهو في رئاسة الحكومة بعد أقل من سنة.

الناس زبائن تُحركهم نقاط ضعفهم

التسويق إذن هو الحمض النووي (DNA) في شخصية نتنياهو. يضع لنفسه هدفاً، ويبتدع أنجع الطرق لتسويقه. يقرأ خريطة الناس بصفتهم زبائن، يكتشف نقاط الضعف، وينفذ من خلالها كالسهم. قد تكون هذه الطرق قذرة، وقد تكون طافحة بالأكاذيب، وفائضة بالخدع، وقد تُكلف بلاده وشعبه وحتى حزبه ثمناً باهظاً، لكن المهم أنه يجد مَن يصفق له. وكيف يصفقون له: بنوعية الرسائل التي يبثها.

بنيامين نتنياهو معلناً عودته للحياة السياسية في 2000 بعد فوز إيهود باراك في 1999 (غيتي)

داني فيدوسلافسكي، المتخصص في سلوك الفرد، ويدير كلية لتعليم السياسيين كيف ينجحون في الوصول إلى قلوب الجماهير، أصدر كتاباً بعنوان: «أسرار التسويق عند بيبي». وهو يُعدّ أهم عنصر في نجاحه معرفته صياغة رسائل قصيرة وبسيطة للناس. ويقول: «ليس مهمّاً إن كانت هذه الرسائل صحيحة أو صادقة، بل المهم أن يعرف كيف تُصيب وجدان الجماهير، وتخترق دماغهم». يخاطب الناس بلغة نحن وهم، وعندما يقول نحن يقصد هو وهم. يتحدث عن خصومه: «يسار». وبعدما جعل من كلمة يسار لعنة، راح يلصقها بكل خصومه حتى داخل «الليكود».

ولكن، من كثرة ما بنى له من خصوم، أصبح واضحاً أنه لا يهتم بشيء بمقدار مصلحته الشخصية، فصار فناناً في تصفية كل مَن يعترض طريقه، وليس فقط من الخصوم. وبنى لنفسه قاعدة جماهيرية محدودة من اليمين، ذات تركيبة عجيبة. غالبيتهم من الفقراء، مع أن سياسته رأسمالية راديكالية. شرقيون مع أنه إشكنازي متعجرف. على طول طريقه السياسي، نجح في تحطيم الأحزاب التي تنافسه. في سنة 2009، كان ينافسه إيهود باراك. وباراك كان قائد نتنياهو في الجيش، وفي سنة 1999 هزمه في الانتخابات، وفاز برئاسة الحكومة. لكن نتنياهو أقنعه بدخول حكومته وزيراً للدفاع، وتسبب بذلك في تفسخ حزب «العمل» وانهياره، إلى أن اعتزل باراك السياسة. وفعل الأمر نفسه مع يائير لبيد، ومع بيني غانتس، ومع موشيه كحلون.

ومن كثرة نجاحاته هذه، اقتنع بأنه يتمتع بقدرات عالية فوق طبيعية.

ويُحكى أنه ذات مرة قال أمام مقربين منه: «احمدوا الله على أنه حباكم قائداً مثلي». وزوجته سارة تردد هذه الجملة باستمرار. وإذا أراد أن يكون متواضعاً، يُشبه نفسه بالقائد البريطاني ونستون تشرشل.

ولا يكتفي نتنياهو بأن يرى نفسه أو يراه أفراد عائلته والمقربون والمنافقون بهذا الشكل، بل يطالب العالم بأن يراه بهذا الشكل أيضاً، فهو يُعدّ نفسه قائداً عالمياً، تاريخياً، أرسله الله ليقود معركة الغرب كله بشكل صحيح، ولديه نصائح لجميع القادة الكبار في العالم. ذات مرة التقاه الرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض، وبعد انتهاء اللقاء قال أوباما لمساعديه: «من منا رئيس الدولة العظمى؟». ولكن الرئيس التالي بعد أوباما، دونالد ترمب، ورغم غروره ونبرته، اقتنع من نتنياهو بضرورة الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران. وتباهى نتنياهو بذلك، وبأن إسرائيل تحت قيادته وجهت ضربات لإيران، أكثر من أي قائد غربي آخر.

حب المال وتلقي الهدايا

مشكلة نتنياهو أنه على طريقه الطويل، وقع في حادث أليم، فقد كُشفت إحدى نقاط ضعفه الخطيرة، وهي المال. رأس ماله يقدر بثلاثة وعشرين مليون دولار. راتبه الشهري 20 ألف دولار. أمواله جمعت من الرواتب العالية، وكذلك من المحاضرات، إذ يُعدّ محاضراً مطلوباً في العالم، خصوصاً في الولايات المتحدة.

بنيامين نتنياهو وزوجته سارة في زيارة رسمية لباريس (أرشيفية - غيتي)

لكن الأهم من دخله، الذي جمعه من عرق الجبين بغالبيته، هو مصروفه. نتنياهو معروف بأنه لا يصرف مطلقاً. كل مصاريفه على حساب الدولة، على عكس كل سابقيه، الذين حرصوا على الدفع من جيوبهم. لا يوجد له أصدقاء، ولكنه يحرص على علاقات جيدة مع عدد كبير من أصحاب الرساميل في العالم، الذين يُحدد مستوى القرب معهم بمستوى صرفهم هم عليه. وهو محب للهدايا السخية بشكل خاص، فإذا أهدى أحد المعارف عقداً من الذهب الخالص لزوجته سارة، لا يتردد نتنياهو بالاتصال بمقدم الهدية، مظهراً الزعل ومعاتباً: لماذا لم تشترِ لها الخاتم والحلق الملائمين للعقد؟

هذه العادات قادت نتنياهو إلى قفص الاتهام بتهمة تلقي الرشى وخيانة الأمانة، لأن هناك اشتباهاً بأنه استغل منصبه بصفته رئيس حكومة ليوفي الهدايا بخدمات يحتاج إليها أصحابها. وهناك شبهات نشرها اليعاد شارغا، رئيس حركة «طهارة الحكم»، الذي يقود منذ عشرات السنين معارك قضائية كبيرة ضد الفساد وضد المساس بالديمقراطية. وقال خلال مؤتمر «هرتسليا 2024»: «نتنياهو ارتكب أكبر وأخطر قضية فساد في تاريخ إسرائيل، جرى فيها هدر مليارات الدولارات عبثاً، على أسلحة لسنا بحاجة إليها، وبصفقة تمت من وراء ظهر وزير الأمن ورئيس أركان الجيش وقائد سلاح البحرية. وبلغ فيها الفساد فحشاً في قدس أقداسنا، الأسلحة الاستراتيجية. نتنياهو أدخل إلى جيبه 25 مليون شيقل عمولة في هذه القضية، وهذا عدا عمولات أخرى لشركائه في الجريمة. غابي إشكنازي، قال يومها إنه في اللحظة التي نشتري فيها الغواصة السادسة، لن يبقى لدينا مال للمجنزرات والمدرعات التي نحتاج إليها لاجتياح الشجاعية. وهذا ما حصل فعلاً، واليوم نذوق هذا النقص على جلود أبنائنا الجنود في قطاع غزة».

هذه القضية هي أيضاً مطروحة على بساط البحث في المحكمة، ولم يتقرر بعد تحويلها إلى لائحة اتهام. وتلميح شارغا إلى غزة يتعلق بالتهمة الموجهة إلى نتنياهو بأنه كان مسؤولاً عن إخفاق 7 أكتوبر (تشرين الأول) بشكل شخصي، إذ إنه قام بتقوية «حماس»، وتباهى بأنه يُحول لها الأموال لكي يعمق الانقسام الفلسطيني، وتم تحذيره بأن سياسة حكومته ستفجر حرباً، ولم يكترث.

الفساد... قضية حياة أو موت سياسي

نتنياهو يعرف جيداً خطورة هذه القضايا الثلاث، ويدرك أنه يواجه خطر الحبس بسببها. مسألة حياة أو موت، سياسياً، فإذا تخلّى عن منصبه بصفته رئيس حكومة، سيسهل على الجهاز القضائي الحكم عليه بالسجن، وإذا بقي رئيس حكومة، ستسير محاكمته ببطء شديد كما هي الحال اليوم؛ حيث إنها بدأت قبل 4 سنوات وما زالت في مرحلة سماع الشهود، وسيتمكن من منع إقامة لجنة تحقيق رسمية في قضية 7 أكتوبر، وسيمارس الضغط لتغيير القضاة في المحكمة العليا والنيابة، فلا يقدم إلى المحاكمة بسبب قضية الغواصات.

وقد وجد نتنياهو ائتلافاً قوياً لحكومته، من 64 نائباً من مجموع 120، يتألف من حزبه «الليكود» والأحزاب الدينية والاستيطانية. لهم مصلحة مشتركة في البقاء معاً. الأحزاب الدينية تحصد أموالاً طائلة لمدارسها ومؤسساتها وحاخاماتها، والأحزاب الاستيطانية تكسب توسيع الاستيطان وإجهاض حل الدولتين وتصفية القضية الفلسطينية، و«الليكود» تمت تصفية المعارضة فيه وقادته ينافقون نتنياهو، لدرجة الحضور معه إلى المحكمة تضامناً في قضايا الفساد.

قاعدة توفر إكسير الحياة

هذا الائتلاف، ومعه نحو 20 بالمائة من الناخبين في إسرائيل يشكلان قاعدة جماهيرية ثابتة لا تتزعزع، حتى الآن، ويعتمد عليها نتنياهو اعتماداً أساسياً. عندما يخطب يأخذ هذه القاعدة في الاعتبار، وعندما يتخذ قراراته يضعها فوق كل اعتبار. هي أهم بالنسبة له من الأسرى الإسرائيليين في أنفاق «حماس»، وأهم من عائلات هؤلاء الأسرى الذين لا يصدقون أن حياة أبنائهم أهدرت على هذا النحو. وأهم من الجنود الذين يُحاربون هباءً في غزة، ومن قادة الجيش وبقية الأجهزة الأمنية، الذين يؤكدون أن سياسة نتنياهو تلحق ضرراً استراتيجياً بأمن إسرائيل، فيهاجمهم علناً ويؤنبهم باللغة الإنجليزية -حتى يسمع الغرب كله- «إسرائيل دولة يوجد لها جيش وليس جيشاً توجد له دولة». وهي أهم من الإدارة الأميركية، التي وقفت إلى جانبه بوصفها شريكة في الحرب رغم الخلافات العميقة معه، وتمكّن من جرّها إلى كثير من الورطات، ولا يزال يحاول جرها إلى حرب إقليمية. لا بل إنه يحاربها في بيتها، ويقف مع انتخاب ترمب للرئاسة، نكاية بها، لأنها باتت معنية بوقف الحرب.

فهذه القاعدة هي التي توفر له إكسير الحياة. ولأجلها يكرس كل مواهبه وطاقاته ولديه كثير منها. لها يكرس البضاعة التي يسوقها. لا يهمه أحد غيرها، فإذا كان الأمر يحتاج إلى إجهاض الصفقة، يدير سياسة منهجية تجهض الصفقة، وإذا كان الأمر يحتاج إلى حرب يذهب إلى الحرب. في نظره، أميركا مجبورة على مساندة إسرائيل؛ لأنه يخدم مصلحتها، وأعداؤه هم أعداؤها. فإذا خسر في المعارك، يتهم الجيش والمخابرات والشرطة وكل العالم ما عدا الاعتراف بمسؤوليته. وإذا حقق الجيش إنجازات، يتقدم نتنياهو إلى الشاشات يتباهى. والجيش يلهث في اللحاق وراءه، ويدافع عن نفسه أمام هجماته، ويحاول أن يثبت أن اتهامات اليمين له بالجبن غير صحيحة، ويثبت ذلك في حرب عبثية يقاتل فيها الفلسطينيين من بعيد، بالغارات والقصف المدفعي وقتل المدنيين.

متظاهر بالقرب من فندق ووترغيت بواشنطن ضمن احتجاجات تستبق كلمة بنيامين نتنياهو أمام الكونغرس الأربعاء (أ.ب)

اليسار... تهمة

إذا كانت هناك معارضة سياسية، يتهمها بأنها يسارية، وهذا يكفي لقاعدته الشعبية. وإذا وقف الإعلام ضده، فإنه يهاجم الإعلام، ويقيم مؤسسات إعلامية كبيرة لمواجهته، وهذا إضافة إلى حسابه في «تويتر» (إكس) الذي يوجد له فيه 1.4 مليون متابع، أو «فيس بوك» (2.3 مليون متابع).

فقط قبل سنة كادت الجماهير، التي نزلت إلى الشوارع بمئات الألوف مدعومة من الدولة العميقة، تُسقط نتنياهو. وراح يسعى لحرب تحرف الأنظار، إلا أن الجيش رفض شن حرب. فجاء هجوم «حماس» في 7 أكتوبر. فخرج الجيش إلى الحرب، ويمكن القول إنه «علّق نفسه بهذه الحرب»، ولا يعرف كيف يُخرج منها. ونتنياهو بالمقابل يزدهر. العرق يتصبب من كل خلايا جسده، لكنه من حيث تحقيق الأهداف يزدهر.

هذا هو نتنياهو اليوم، وهذه هي حساباته. بعيد عن المنطق؟ نعم، يجعل من إسرائيل دولة هشّة؟ نعم، ألا يوجد مَن يتصدى له في إسرائيل؟ يوجد لكن صوتهم ضعيف مخنوق، على المستوى الشعبي، وأداؤهم هزيل على مستوى المعارضة السياسية. ففي وضع طبيعي تُعدّ حالة نتنياهو فريسة سهلة لأي معارض سياسي له. بهذا الفشل وهذا الفساد وبهذه الأخطار التي يجلبها، يمكن إلحاق هزيمة شديدة به. أي قائد سياسي قوي وحكيم كان سينقض على هذه الفرصة لإسقاط حكومة نتنياهو، لكن قادة المعارضة في إسرائيل لا يتمتعون بهذه الصفات بعد. وحتى الجمهور الذي يثبت في الاستطلاعات، باستمرار أنه عاف نتنياهو ويريد تغييره، لا يرى في أي من قادة المعارضة الحالية عنواناً له. وقوة نتنياهو مستمدة تحديداً من هذا الضعف.