بموازاة التحقيقات الجنائية التي شرعت فيها وزارة العدل الأميركية ومكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)، باشرت وزارة الدفاع (البنتاغون) تحقيقاً داخلياً لمعرفة كيفية تسريب الوثائق السريّة التي تفصّل خطط حرب أوكرانيا ومعلومات استخبارية عن حلفاء الولايات المتحدة، وظهورها على الإنترنت منذ أسابيع، مع تزايد الترجيحات أن الاختراق الذي هزّ واشنطن بدأ على منصة «ديسكورد» للتواصل الاجتماعي.
وفي خضم هذه التحقيقات، سعى المسؤولون الكبار لدى إدارة الرئيس جو بايدن إلى تكثيف اتصالاتهم لتهدئة الحكومات الأجنبية التي ورد ذكر بلدانها في الملفات المصنفة «سريّة» أو «سريّة للغاية». وأعلنت مصادر في الكونغرس أن الوثائق تكشف احتمال نفاد صواريخ الدفاع الجوي في أوكرانيا في غضون أسابيع، مما يضغط أكثر على إدارة بايدن والمسؤولين في دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) لزيادة دعم المجهود الحربي، وسط تساؤلات حيال ما إذا كان الكونغرس سيحتاج إلى تمرير حزمة مساعدات عسكرية أخرى قبل نهاية العام الجاري، مما يسرع الجدول الزمني للمواجهة بشأن المساعدات الخارجية والإنفاق العسكري بين رئيس مجلس النواب الجمهوري كيفن مكارثي وزعماء الغالبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ.
وشكل البنتاغون فريقاً لإجراء تحقيق خاص به لتحديد صحة صور الشرائح التي ظهرت على الإنترنت. ويسعى المسؤولون الدفاعيون مع المحققين الآخرين إلى تقييم مدى الضرر المحتمل ويسعون إلى معرفة هوية المسرِّب في أثناء محاولة احتواء التداعيات الدبلوماسية للتسريب. وصرح الناطق باسم (البنتاغون) كريس ميغر بأن «هذا الفريق يعمل حقاً من أجل وضع أيدينا على كل ما له علاقة بهذا النشر»، مضيفاً أن التحقيق «يقيم تداعيات الأمن القومي» بالتنسيق مع أعضاء الكونغرس، وكذلك مع الحلفاء والشركاء. وأوضح أن وزير الدفاع لويد أوستن يقود جهود (البنتاغون)، التي تشمل مسؤولين من الشؤون التشريعية وسياسة الدفاع وفرق العلاقات العامة، بالإضافة إلى كبار المسؤولين العسكريين في هيئة الأركان المشتركة.
«قلق بالغ»
ورغم تزوير بعض الوثائق، يعكس التحقيق «القلق البالغ» لدى الحكومة الأميركية من أن التسريبات كشفت معلومات حساسة حول الحرب في أوكرانيا، واعتراض اتصالات الحلفاء، فضلاً عن تغلغل أجهزة الاستخبارات الأميركية في الخطط العسكرية الروسية. وأفاد المسؤول الكبير السابق في وزارة العدل الأميركية جون كارلين بأنه «قد يكون التسريب الكبير ضاراً للغاية بقدرتنا على جمع المعلومات»، فضلاً عن أنه «يمكن أن يضر (...) بعلاقتنا مع البلدان التي تشاركنا مصالحنا».
وقال رئيس لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ السيناتور الديمقراطي مارك وارنر إن «أي تسرّب للمعلومات السرية ينذر بخطر بالغ. وبينما يحقق البنتاغون في هذا الأمر، يجب على الأميركيين أن يتذكروا أن روسيا لديها تاريخ طويل من جهود التضليل، وسيكون من الحكمة توخي الحذر من الوثوق بأي ادّعاءات يرونها على الإنترنت تتعلق بهذه الوثائق».
وكشف ميغر أن مسؤولين من وزارتي الخارجية والدفاع ووكالات أخرى تواصلوا مع الحلفاء بشأن التسريبات، قائلاً إن «تلك المحادثات بدأت نهاية الأسبوع الماضي وهي متواصلة». ولكنه لم يحدد الحلفاء أو الدول المعنية بهذه الاتصالات، علماً بأنه ورد ذكر بلدان مثل أوكرانيا وتركيا وكوريا الجنوبية وإسرائيل، بالإضافة إلى كندا، التي استهدفت وفقاً لإحدى الوثائق بعدما اخترق قراصنة المعلومات أنظمة مهمة لتشغيل خط أنابيب غاز طبيعي كندي في فبراير (شباط) الماضي، ونقلوا المعلومات لأجهزة الأمن الروسية.
وأعلن المسؤولون الأميركيون أن مئات الأشخاص تمكنوا من الوصول إلى المستندات السريّة، لكنهم لم يحددوا عددها. وأفاد منسق الاتصالات الاستراتيجية لدى مجلس الأمن القومي جون كيربي، بأن الولايات المتحدة لا يبدو أنها تعرف أصل التسريبات، مضيفاً أن الرئيس بايدن اطّلع للمرة الأولى على قضية الوثائق الأسبوع الماضي. وقال: «نأخذ الأمر على نحو جاد جداً جداً»، مشيراً إلى أن وزارة الدفاع تُجري مراجعة في كل الهيئات حول «التأثيرات المحتمل أن تكون لهذا الأمر على الأمن القومي». وتابع كيربي أنه يبدو أن المعلومات المنشورة تم تغييرها في بعض الحالات على الأقل «لكنني لا يمكنني أن أقول لكم في الوقت الحالي على وجه الدقة كيف حدث هذا. نحن نتتبع الأمر بشكل مكثف قدر الإمكان لكي نفهم هذا».
دعم أميركي إضافي؟
ولم يطلب البيت الأبيض رسمياً بعد من الكونغرس مزيداً من الأموال لتمويل الحرب في أوكرانيا، علماً بأن كبار مسؤولي الإدارة قدموا في إحاطات مع المشرعين رواية متفائلة حول قدرة أوكرانيا على مضاهاة القوات المسلحة الروسية بل حتى هزيمتها. وقال أحد الجمهوريين: «تقول الإدارة إن لديها ما يكفي من (المال) حتى نهاية السنة المالية (...) لكني لا أعرف ما إذا كان ذلك سيتغيّر وسنحتاج إلى أمر عاجل»، مؤكداً أنه لم يكن يتوقع اتخاذ الكونغرس أي إجراء بشأن حزمة مساعدة أخرى لأوكرانيا قبل سبتمبر (أيلول) المقبل.
وأرفق الكونغرس 47 مليار دولار من المساعدات العسكرية والاقتصادية لأوكرانيا ضمن الحزمة الاقتصادية الشاملة البالغة 1.7 تريليون دولار التي أقرها في ديسمبر (كانون الأول)، متوقعاً أن تستمر طوال عام 2023، وكانت الأموال المخصصة لأوكرانيا تزيد بمقدار عشرة مليارات دولار عن طلب الإدارة.
ومع ذلك، أثار تسريب (البنتاغون) مخاوف في الكونغرس من أن إدارة بايدن لن تنتظر طويلاً لمنع نفاد أسلحة الدفاع الجوي لدى أوكرانيا، لأن ذلك يمكن أن يقلب الميزة في ساحة المعركة بشكل حاسم لمصلحة روسيا. وأدت التسريبات إلى كشف أن أوكرانيا يمكن أن تستنفد بالفعل جزءاً كبيراً من أسلحتها للدفاع الجوي بحلول أوائل الشهر المقبل، مما فاجأ المشرعين. وقال الزميل البارز في معهد «بروكينغز» مايكل أوهانلون: «يجب أن يكون الافتراض أننا قد نحتاج إلى زيادة عمليات تسليم (الأسلحة) وربما الأموال أيضاً».
ورغم أن أي طلب للحصول على مساعدة عسكرية إضافية لأوكرانيا سيحظى بدعم قوي من الحزبين في مجلس الشيوخ، فإن رئيس مجلس النواب كيفن مكارثي لا يزال يمثل عقبة محتملة. وهو أعلن في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أن الجمهوريين لن يكتبوا «شيكاً على بياض» لأوكرانيا إذا سيطروا على مجلس النواب. وأفاد مسؤول بأن الإدارة جعلت الدفاعات الجوية الأوكرانية على رأس أولوياتها، مذكّراً بأن (البنتاغون) أعلن في 4 أبريل (نيسان) الماضي أنه سيقدم ما يصل إلى 500 مليون دولار من الأسلحة الجديدة، بما في ذلك ذخائر لأنظمة الدفاع الجوي «باتريوت» وذخائر إضافية لأنظمة صواريخ أرض - جو متقدمة. وقال: «أعطينا الأولوية باستمرار لأنظمة الدفاع الجوي منذ الخريف الماضي ولتعزيز قدرات الدفاع الجوي الأوكرانية».
ولفت المسؤول الأميركي إلى أنّ بعضاً من الصور المتداولة على الإنترنت يُظهر على ما يبدو معلومات حسّاسة. وقال إن هناك «صوراً يبدو أنّها تُظهر وثائق مشابهة في الشكل لتلك التي تُستخدم في تقديم تحديثات يومية لكبار قادتنا حول عمليات على صلة بأوكرانيا وروسيا، وأيضاً تحديثات استخبارية أخرى»، مشيراً إلى أنّ بعضاً منها «يبدو معدّلاً». وأوضح أنّ من بين هذه الوثائق واحدة تمّ تداولها على الإنترنت ويبدو أنّها عُدّلت لكي تُظهر أنّ أوكرانيا تكبّدت خسائر بشرية أكثر مما تكبّدته روسيا، في حين أنّ الوثيقة الأصلية تشير إلى أنّ العكس صحيح. وقد تكون تداعيات التسريب كبيرة وحتى مدمّرة، إذ يمكن أن تعرّض للخطر مصادر استخبارية للولايات المتحدة وأن تمنح أعداء البلاد معلومات قيّمة. وقال ميغر إن «كشف مواد حسّاسة مصنّفة يمكن أن تكون له تداعيات كبرى ليس فقط على أمننا القومي بل قد يؤدي إلى خسارة أرواح».