من الفاشل؟... مبعوثو الأمم المتحدة أم مجلس الأمن؟

خلافات الـ5 الكبار تجعلهم «أكياس ملاكمة» لمهمات «مستحيلة»

جلسة لمجلس الأمن يوم 23 مارس الماضي (أ.ب)
جلسة لمجلس الأمن يوم 23 مارس الماضي (أ.ب)
TT

من الفاشل؟... مبعوثو الأمم المتحدة أم مجلس الأمن؟

جلسة لمجلس الأمن يوم 23 مارس الماضي (أ.ب)
جلسة لمجلس الأمن يوم 23 مارس الماضي (أ.ب)

ينقل مسؤول كبير عمل لدى الأمم المتحدة وفي بلاده، عن المندوب الروسي الراحل فيتالي تشوركين، طرفة ذات مغزى: يريد الدبلوماسيون الغربيون، لا سيما الأميركيون والبريطانيون، من أي مبعوث أممي أن يستشيرهم في كل ما يقوم به، من دون أن يحصل منهم على أي شيء. إذا نجح في مهمته -وهذه حال نادرة- ينسبون إنجازه لهم. وإذا فشلوا في التوافق على أمر -كما يحصل في غالب الأحيان- يلقون تبعات إخفاقهم على المبعوث الأممي. كأن الأخير «مجرد كيس ملاكمة!». يعترف دبلوماسي غربي رفيع بأنه «عندما تسير الأمور بشكل حسن، يقفز الجميع لادعاء الفضل في ذلك، ولكن عندما تسوء الأمور، ينظر الجميع إلى الجانب الآخر»، لإلقاء مسؤولية المشكلة على مبعوث الأمم المتحدة. لم تكن الحال بين الروس والأميركيين في زمن فيتالي تشوركين سيئة كما هي اليوم. أعاد الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية عقارب الساعة إلى الوراء. تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة والصين إلى حد ينذر بحرب باردة جديدة. ثمة إجماع على أنه كلما ازدادت الخلافات بين الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، صارت مهمات المبعوثين الأمميين أكثر عرضة للفشل. «الشرق الأوسط» استطلعت مواقف مسؤولين دوليين، بينهم المندوب الفرنسي الدائم لدى الأمم المتحدة نيكولا دو ريفيير، ودبلوماسي آخر رفيع (طلب عدم نشر اسمه) من إحدى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، والمبعوثان الأمميان السابقان إلى ليبيا: طارق متري، وغسان سلامة، والناطق باسم الأمم المتحدة، وخبيران كبيران في شؤون المنظمة الأممية.
في حوار مع «الشرق الأوسط»، يتذكر أستاذ العلاقات الدولية غسان سلامة الذي عمل مبعوثاً خاصاً للأمم المتحدة إلى ليبيا، وفي مناصب عديدة مع المنظمة الدولية في العراق وسواه، وتولى حقائب وزارية مهمة في بلده لبنان، أن مهمة الوساطة التي أوكلتها الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية في أكتوبر (تشرين الأول) 1989 لوقف الحرب الأهلية اللبنانية، ما كانت لتنجح إلا لأنها «تزامنت» مع توافق الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الأب، وآخر الزعماء السوفيات ميخائيل غورباتشوف، على طي صفحة الحرب الباردة في الشهر ذاته عامذاك.

غسان سلامة

بعد النجاح النسبي الذي أحرزه في لبنان، من نافل القول إن الحظ نفسه لم يرافق الدبلوماسي الجزائري العتيق الأخضر الإبراهيمي في مهماته الأخرى من العراق إلى أفغانستان ومن ثم سوريا. حاول تقديم حلول. في المقابل، ما كان لظروف السلام أن تصير مواتية في كولومبيا إلا لأن الحكومة في بوغوتا قررت وضع حد للتمرد عن طريق التسوية. وهذا حصل لأن هزيمة المتمردين -الذين كانوا منهكين- عسكرياً أمر غير ممكن. جاء دور الأمم المتحدة التي «لم تصنع التسوية» لأن «التسوية صنعها الكولومبيون» أنفسهم. الأمر ذاته حصل في لبنان؛ حيث «لم يكن اتفاق الطائف من صنع الأخضر الإبراهيمي»؛ بل هو اتفاق حصل لأن «اللبنانيين تقاتلوا وأُنهكوا (...) وصار الظرف ناضجاً» لمجيء مهمة الإبراهيمي.

«المقاربة البيكرية»

لم يكن مجرد سوء طالع أن المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء، الدبلوماسي الأميركي المخضرم كريستوفر روس، لم يتمكن من تسوية النزاع الصحراوي خلال السنوات الثماني التي أمضاها في هذا المنصب. وقد همس لـ«الشرق الأوسط» بأنه حاول السير على هدي وزير الخارجية الأميركي سابقاً جيمس بيكر الذي كان قد تولى هذه المهمة. هناك من يعتقد أن «المقاربة البيكرية» صعبة المنال؛ بل مستحيلة، للتوصل إلى اتفاق بين المملكة المغربية من جهة و«البوليساريو» والجزائر من الجهة الأخرى.

كريستوفر روس

على الرغم من أهميته البالغة، يبقى الدور الممنوح للمبعوث الأممي مربوطاً بالتوافق الأصيل والحقيقي بين أعضاء مجلس الأمن، ولا سيما بين الدول الخمس الدائمة العضوية: الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين، على الملف الذي يجري تسليمه إلى شخص المبعوث. ولا يخفي المندوب الفرنسي نيكولا دو ريفيير أن الممثلين الخاصين للأمين العام «يتصرفون ضمن الإطار» الذي يحدده لهم مجلس الأمن. ومع أنه «يجب الاعتراف بالسلطة» التي يمنحها إليهم المجلس «على أرض الواقع»، فإنهم يواجهون كثيراً من المشكلات في عملهم وانخراطهم مع الأطراف المعنية في أي نزاع.
لكن هذا قد لا يكون كافياً. فالدبلوماسي الأميركي كريستوفر روس يميّز بين عمل كل من المبعوثين الأمميين، فهناك مبعوثون خاصون تختلف مهماتهم بين واحد وآخر باختلاف البلد المعني، وهناك عدد من الممثلين الخاصين الذين يعتنون بمواضيع مختلفة نيابة عنه. وهناك فئة أخرى من الممثلين الخاصين الذين يترأسون مهمات حفظ السلام. وهؤلاء لا يعتقد روس أن التسوية تندرج في إطار ملفهم. فما لا ينتبه إليه كثيرون هو أن الأمم المتحدة بوصفها منظمة «ليس لديها جيش وقدرات لتأمر الناس بالقيام بأمور معينة»؛ بل هي تسعى إلى بذل جهود لتسوية الخلافات وحل النزاعات. يوضح روس: «يحصل المبعوث الخاص والممثل الشخصي على سلطاته من مجلس الأمن» الذي يشكل «مصدر القدرة» لدى هؤلاء. قال له جيمس بيكر: «كريس (كريستوفر)، هناك نصيحة واحدة: تحتاج إلى الإنصات بعناية: كائناً ما كان العمل الذي تحاول القيام به في طريق تيسير المفاوضات، عليك أن تحصل على دعم مجلس الأمن. إذا لم تفعل فلن تحقق شيئاً». كانت هذه العبرة الأولى التي تلقفها روس من بيكر، حين ذهب إليه لاستمزاج رأيه في المهمة التي كان على وشك توليها.
وبالفعل، يلقي أحدهم المسؤولية عن معظم الإخفاقات على «الجهات الفاعلة داخل البلد»، موضحاً أن «الفاعلين السيئين يمكن أن يكونوا من الحكومات أو من جهات فاعلة غير حكومية. يمكن أن يكونوا مجموعات إرهابية، أو من المتمردين». ويرى أن المبعوثين «عادة ما يفشلون؛ إما بسبب سوء الإدارة وإما بسبب وضع سياسي داخلي شديد الصعوبة، ولكن هناك آخرين يساهمون في الفشل»، ولا سيما إذا فشل مجلس الأمن في التوافق على إعطاء تفويضات واضحة، بالإضافة إلى «التدخلات الثنائية التي في العادة لا تتحمل مسؤولية الفشل»؛ بل تلقي هذا الفشل على «المبعوثين المساكين الذين يحتفظون بعواقب التدخلات الثنائية».

«حصرمة» في عين روسيا

تتضاعف التعقيدات عندما يتعطل مجلس الأمن كما هو الوضع حالياً، إذ إن هذا المنتدى لا يعود قادراً على دعم المبعوث الأممي. وظل الوضع في بلد مثل ليبيا يمثل «حصرمة شديدة الحموضة» في عين روسيا التي شعرت بأنها «خُدعت وأُهينت»، حين سمحت للقوى الغربية الرئيسية، وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بتمرير القرار 1970 في مجلس الأمن، عام 2011، وهو القرار الذي استُخدم عملياً كترخيص لإطاحة حكم العقيد معمر القذافي.
عندما جرى تعيينه مبعوثاً لليبيا، لمس غسان سلامة «ثلاثة شروط أساسية» لنجاح أي مبعوث إلى أي نزاع: أولها و«أكثرها أهمية» هو وجود «حد أدنى من التوافق» في مجلس الأمن، حتى إذا ذهب المبعوث إلى بلدان مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو اليمن، أو سواهما «يمكنه الكلام باسم المجتمع الدولي». وأكد أنه «من دون التوافق سيكون شغل المبعوث -حتى لو كان ألبرت أينشتاين- صعباً جداً أو شبه مستحيل».
ويذهب متري إلى القول إنه «حين يكون مجلس الأمن موحداً، يرسم للمبعوثين الدوليين مهمة طموحة كثيراً، وأحياناً تكاد تكون مستحيلة؛ لأنه موحد ويعتقد أنه قادر على اتخاذ موقف قوي، ويحمِّل مبعوثه مهمة جليلة وعظيمة». ولكنه يستدرك أيضاً بأن «الواقع يأتي ليظهر أن دعم مجلس الأمن الموحد ليس فاعلاً بشكل دائم؛ لأنه في بعض الأحيان لا ينعكس التوافق في مجلس الأمن توافقاً في الميدان»، معترفاً في الوقت ذاته بأنه إذا اختلف أعضاء مجلس الأمن، فإن المبعوثين «سيكونون مقيدين أو أحياناً مشلولين».

طارق متري

ويقر الدبلوماسي الغربي الرفيع بأن «هناك مبعوثين في أماكن صعبة حقاً؛ لأننا في أمسّ الحاجة إليهم». ولكن «في معظم الأوقات يقومون بمهمات غير مرغوب فيها ولا تتحسن الأمور»، ملاحظاً أن المبعوثة الأممية إلى أفغانستان ديبورا ليونز، على سبيل المثال «تقوم بعمل شاق حقاً، في محاولة العمل مع (طالبان)، ومع كثير من الشركاء الدوليين الذين ينظرون من فوق كتفها للتعليق على ما تفعله».

دبلوماسية على قيد الحياة

ويلفت مدير دائرة الأمم المتحدة لدى مجموعة الأزمات الدولية ريتشارد غاون، في حوار مع «الشرق الأوسط»، إلى أنه كثيراً ما يُطلب من الأمم المتحدة التوسط في «نزاعات مستعصية لا يحتمل أن ينجح أحد في صنع السلام فيها»، معتبراً أن قلة قليلة تريد تولي أصعب قضايا الوساطة، مثل الصحراء الغربية أو سوريا أو جورجيا. ويرى أنه «لا يمكن لمسؤولي الأمم المتحدة الاعتراف بذلك بصوت عالٍ؛ لكن مهمتهم غالباً ما تكون ببساطة الحفاظ على شكل من أشكال الدبلوماسية على قيد الحياة، في شأن النزاعات، دون أي أمل حقيقي في النجاح». ولكن «على طول الطريق، يمكن أن يتمكن مسؤولو الأمم المتحدة من إحراز تقدم محدود في تخفيف التوترات، أو تحسين وصول المساعدات الإنسانية في منطقة الحرب».

ريتشارد غوان

فشل في التعيين... وفي المهمة

ويرى دو ريفيير أن تعيين الممثلين الخاصين «يجب أن يبقى من مسؤولية الأمين العام»، موضحاً أن وضعاً مثل ليبيا استوجب تعيين ممثل خاص، هو السنغالي عبد الله باتيلي الذي يعمل من أجل إجراء الانتخابات «في أقرب وقت ممكن هذا العام». ويؤكد أنه «لا تزال هناك حاجة إلى مواجهة التحدي المتمثل في التعاون الجيد، لا سيما مع المنظمات الإقليمية؛ وهذه هي الحال في مالي؛ حيث تتكامل جهود الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة القاسم وأين، مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)».

نيكولا دو ريفيير

لا يرى الناطق باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك «خبراً عاجلاً» في الحديث عن «اختلافات في الآراء بين عدد من الدول الأعضاء داخل مجلس الأمن»، فضلاً عن أن وظائف المبعوثين «صعبة بشكل متزايد». ويضيف: «لدينا إيمان كامل بقدرة أعضاء مجلس الأمن على الالتقاء حول قضايا معينة، بينما يظلون منقسمين بشأن قضايا أخرى». ولذلك فإن «أملنا وتفاؤلنا لا حدود لهما. وكذلك تصميمنا».

ستيفان دوجاريك

بالإضافة إلى إجماع مجلس الأمن بشكل صادق على دعم المبعوث، يتحدث سلامة عن شرط ثانٍ أساسي يتمثل في أن يكون لدى المبعوث «تشخيص دقيق وناجح للنزاع الذي يتوجه إليه، قبل أن يبدأ في عرض حلول ويجري جولات مكوكية بين فريق وآخر»؛ لأنه «لا يوجد نزاع كنزاع آخر». ويعطي مثلاً عن «الاختلاف الجوهري» بين الوضعين في ليبيا واليمن، ففي الأول، على المبعوث أن «يحاول إيجاد آلية لتوزيع عادل للموارد في مثل هذه الدول الريعية»، أما في الثاني فهناك قلة في الموارد «تؤدي إلى خلافات. وهناك حاجة إلى جلب موارد بشرية وغير بشرية إلى هذا البلد الفقير». وكذلك هناك دول، مثل لبنان؛ حيث تلعب الطوائف دوراً أساسياً فيها.
ويلاحظ غاون أنه «في بعض الأحيان، يمكن لوسطاء الأمم المتحدة الاستفادة من الأحداث في ساحة المعركة لإيجاد فرصة للسلام»، ولذلك «أحرزت بعثة الأمم المتحدة في ليبيا بعض التقدم، نحو تسوية سياسية بين عامي 2020 و2021، بعدما وصلت الفصائل الليبية إلى طريق مسدود». ولا يخفي قلقه الآن من أن التوترات بين روسيا والغرب في شأن أوكرانيا «تعني أن الأمم المتحدة لم تعد قادرة على لعب هذا الدور الإيجابي. لذلك فإن الجغرافيا السياسية تضر بالأمم المتحدة مرة أخرى».
ويؤكد طارق متري أن «جزءاً من مشكلات الأمم المتحدة أنهم يرسلون أحياناً مبعوثاً لا يعرف البلد كفايةً، أو أنه غير قادر على فهمه»؛ مشيراً إلى تعقيدات بلدان النزاعات، مثل: مالي، والكونغو، واليمن، وليبيا أو سوريا. ويوضح أن «المسألة لا تتعلق بيمين ويسار يتصادمان، أو بمجموعتين إثنيتين تتحاربان منذ 400 عام وتواصلان الحرب الآن».

الحال اليمنية... حالياً

ويقابل الكلام المتكرر عن إخفاقات المبعوثين الدوليين ما أشار إليه دبلوماسي غربي رفيع في مجلس الأمن، حول «الدور المهم» الذي اضطلع به المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن هانس غروندبرغ، علماً بأن «آخرين قاموا بأدوار مختلفة، بما في ذلك الجيران مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، للتوصل إلى الهدنة وتمديدها، في واحد من أصعب الملفات» في العالم.
ويلفت دو ريفيير أيضاً إلى مثل غروندبرغ الذي «اضطلع بدور حاسم في إرساء الهدنة الأخيرة وتجديدها» في اليمن؛ لكنه يذكر في الوقت ذاته أن الممثلين الخاصين «غالباً ما يواجهون تحدي الانقسام، بما في ذلك في مجلس الأمن، وأحياناً بين بعضهم وبعض».
صحيح أنه في بعض الأحيان الأخرى «يمكن إنجاز أمور»، على غرار ما قام به أخيراً المبعوث الخاص إلى الصومال جايمس سوان، على الرغم من أن فريقه يعمل في بيئة صعبة. ويوضح الدبلوماسي الغربي، في هذا الإطار، أن المبعوثين «لا يجرون الانتخابات بمفردهم؛ لكنهم يقدمون مساهمة مهمة»، مؤكداً أن «هذه وظائف صعبة»، و«ليست مجزية للغاية في كثير من الأحيان».

المزايا الشخصية والمبادئ

وعن العناصر التي يجب أن يملكها المبعوث الأممي من أجل تحقيق بعض الإنجاز، يقول متري إن المرشح لمنصب الوساطة «يجب أن يكون صادقاً، وأن يطلع فعلاً بدقة على وضع البلد الذي هو فيه، وألا تكون عنده أوهام، ولا يبيع الناس أوهاماً، وعليه ألا يكون منحازاً. ولكن هناك قضايا أخلاقية وسياسية وقانونية لا يمكن أن تكون فيها حيادياً، في مواضيع حقوق الإنسان، إما أن تكون مع حقوق الإنسان وإما لا تكون. إما أن تكون ضد جرائم الحرب وإما تسكت عن جرائم الحرب». والأوضاع التي يواجهها المبعوثون الأمميون إلى دول ومناطق بعينها، تكون شبيهة في كثير من الأحيان بما يلاقيه ممثلو الدول الأقل حظوة في مجلس الأمن. يتفق معه مدير الأمم المتحدة في منظمة «هيومان رايتس ووتش» الأميركية، لويس شاربونو، الذي يلفت إلى أنه «في العادة، لا يمكن للمرء أن يلقي على السفراء تبعات سياسات حكوماتهم، سواء كانت جيدة أو سيئة»، مضيفاً أن «شخصيات السفراء يمكن أن تحدث فرقاً، ولا سيما عندما يثيرون قضايا حقوق الإنسان حين يلتزم الآخرون الصمت». وأعطى مثالاً على ما قام به المندوب الألماني الدائم لدى الأمم المتحدة سابقاً، كريستوف هيوسيغن، الذي «جعل رفع الوعي حول الانتهاكات المنتشرة والمنهجية ضد الأويغور في شينجيانغ بالصين، نوعاً من الحملة الشخصية خلال السنوات التي أمضاها في نيويورك»، مذكراً بأن «حكومته كانت وراءه؛ لكنه لم يفوِّت فرصة لطرحه في كل أنواع اجتماعات الأمم المتحدة -وحتى أكثرها تفاهة- ما أثار انزعاج نظرائه الصينيين».
بالفعل، تجلى انزعاج البعثة الصينية في تصريح لأحد دبلوماسييها الذي تمنى «بئس المصير» لمغادرة ألمانيا مقعدها في مجلس الأمن بحلول نهاية عام 2020. بالإضافة إلى ألمانيا، أثارت الولايات المتحدة وبريطانيا ودبلوماسيون آخرون مسألة «اضطهاد» أقلية الأويغور في الصين؛ لكن هيوسيغن «غالباً ما كان يقود هذه الحملة».
وكذلك كانت الحال بالنسبة إلى المندوبة الليتوانية السابقة ريموندا مورموكايت التي «أثارت باستمرار قضية ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، واضطهادها اللاحق لتتار القرم، ودعم الحكومة الروسية للمقاتلين الانفصاليين في شرق أوكرانيا»، وكل ذلك كان مجرد لمحة عما حدث عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022. كان واضحاً عامذاك أن نشاط مورموكايت في مجلس الأمن أغضب نظيرها الروسي الراحل فيتالي تشوركين، إلى درجة أنه اعترف بأنها جعلت الوفد الليتواني «لا يعرف الكلل» خلال فترة عمله في مجلس الأمن.

الصبر مفتاح

ويؤكد سلامة أن «الشرط الثالث للنجاح هو القدرة على الاستماع والصبر»؛ لأنه «لا يوجد أي حل عجائبي لأي نزاع، أو حل بلحظة واحدة أو تفاهم واحد أو اجتماع واحد»، فضلاً عن «توفر آليات إقليمية ودولية مساعدة لنجاح أي مبعوث». وتساءل: «كيف تحل أي مشكلة في العالم إذا كان الأميركيون والروس متدخلين فيها، وهما بحال شبه حرب مرعبة، تتضمن تهديدات نووية في أوكرانيا؟».
ولكل ذلك تأثيرات هائلة على النزاعات الأخرى. فهل سيمرر الأميركي أي شيء للروسي في جمهورية أفريقيا الوسطى، أو في مالي، أو ليبيا، أو أي مكان، إذا كانا في هذه الحال من التنافر والتباغض؟ هذا مستحيل.

من هو الفاشل؟

يقول روس إنه «صحيح أنه عندما يستمر النزاع وتنخرط الأمم المتحدة، يقول الناس: حسناً، الأمم المتحدة ليست فاعلة. إنها فاشلة ولا تفعل أي شيء، وهلُمَّ جراً». غير أنه من «الشائع للغاية»، وفقاً لمسؤول كبير، أن «يقاس النجاح النسبي أو الفشل النسبي بالتوقعات» من القوى المحلية المعنية بالنزاع؛ لأن لدى هذه القوى «مواقف مزدوجة أو مختلطة. أحيانا تتوقع الكثير، ولكنها تستبق الفشل في الوقت ذاته. يتم تحميل الأمم المتحدة أكثر مما تستطيع، أو يتم التنديد بها قبل إعطائها فرصة». يكشف أن «لا أوهام لدى الناس حول الأمم المتحدة، ويقولون إن هذه منظمة خاضعة لنفوذ الدول الكبرى، ولا يثقون بالدول الكبرى، فيحكمون على فشلها بشكل مسبق».
يعيّن الأمين العام مبعوثيه وممثليه بموافقة أعضاء مجلس الأمن الذي لا يمنح المبعوثين الأمميين «عضلات دبلوماسية»، مما يعني أن هؤلاء يعملون جميعاً تحت الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، مما يعني أن التوصل إلى تسوية ممكن فقط بإقناع أطراف النزاع. وهذا الأمر يختلف تماماً عن وضع النزاع تحت الفصل السابع الذي يجيز إصدار أمر للأطراف بالقيام بأمور معينة. ولذلك تقول الأطراف المتنازعة: «يمكن للمبعوث أن يقول ما يشاء، ولكن لا يمكنه فعل أي شيء».
حالياً، لا يوجد إجماع في مجلس الأمن على أي موضوع: أوكرانيا، سوريا، ليبيا، اليمن، مالي، جمهورية الكونغو الديمقراطية، وغيرها من الدول التي تشهد نزاعات. بلا إجماع مجلس الأمن، لن يستطيع أي مبعوث القيام بأي شيء.
مع ذلك، يخلص متري إلى أن فشل الأمم المتحدة في بلد ما هو «بالمقام الأول فشل النخب السياسية في البلد المعني بالنزاع».
ويدعو غاون الذي يعد من أكبر الخبراء عالمياً في شؤون المنظمة الدولية، إلى «التساهل في الحكم على مسؤولي الأمم المتحدة الذين يتعين عليهم إدارة مهمات صنع السلام التي تكاد تكون مستحيلة. هم معدون للفشل»، مذكراً بأنه «عندما تضع الولايات المتحدة أو قوة عظمى أخرى طاقتها في عملية سلام تقودها الأمم المتحدة، تتحسن فرص النجاح، على الرغم من عدم ضمان ذلك». ويؤكد أن «مبعوث الأمم المتحدة أفضل من لا شيء».
حتى غوتيريش يلعب دوراً إنسانياً فقط في أوكرانيا بدلاً من قيادة صنع السلام.


مقالات ذات صلة

مفوّض شؤون اللاجئين يزور بيروت ويندد بأزمة «مروّعة» يواجهها لبنان

المشرق العربي عائلات لبنانية وسورية تعبر الحدود إلى سوريا على أقدامها بعدما استهدفت غارة إسرائيلية معبر المصنع (أ.ب)

مفوّض شؤون اللاجئين يزور بيروت ويندد بأزمة «مروّعة» يواجهها لبنان

ندّد مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي، لدى وصوله إلى بيروت، السبت، بما يواجهه لبنان من «أزمة مروعة»، بعد فرار مئات الآلاف من منازلهم.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
الاقتصاد جانب من زيارة وزير السياحة والآثار المصري والوفد المرافق له لمقر مكتب الأمم المتحدة للسياحة في السعودية (الشرق الأوسط)

وزير السياحة المصري: اتفقنا على مبادرات مع السعودية سنطورها لاحقاً

كشف وزير السياحة والآثار المصري، شريف فتحي، لـ«الشرق الأوسط» عن أبرز مضامين لقائه الأخير مع وزير السياحة السعودي، أحمد الخطيب.

بندر مسلم (الرياض)
المشرق العربي قوة مشتركة من اليونيفيل والجيش اللبناني في الناقورة قرب الحدود الإسرائيلية (أرشيفية - أ.ف.ب)

اليونيفيل تُبقي قواتها بمواقعها في جنوب لبنان رغم طلب اسرائيل نقل بعضها

أكدت قوة الأمم المتحدة الموقتة في جنوب لبنان (يونيفيل) أن قواتها لا تزال في مواقعها رغم تلقيها قبل نحو أسبوع طلبا من اسرائيل لإعادة نقل بعضها.

«الشرق الأوسط» (بيروت)
المشرق العربي لبنانيون ينزحون من لبنان إلى سوريا وسط التصعيد في الصراع (إ.ب.أ)

الأمم المتحدة تثير أزمة العاملات المنزليات المهاجرات «المحتجزات» في لبنان

كشفت الأمم المتحدة، اليوم (الجمعة)، أن بعض العاملات المنزليات المهاجرات في لبنان محتجزات داخل منازل أرباب عملهن الذين فروا من الغارات الجوية الإسرائيلية.

«الشرق الأوسط» (جنيف)
المشرق العربي مساعدات وأدوية ومستلزمات طبية مقدمة من منظمة الصحة العالمية تصل إلى مطار بيروت (إ.ب.أ)

الأولى منذ بداية التصعيد الأخير... لبنان يتسلّم شحنة مساعدات طبية من الأمم المتحدة

تسلّم لبنان، اليوم (الجمعة)، شحنة مساعدات طبية من الأمم المتحدة، وصلت جواً إلى مطار بيروت، هي الأولى منذ بداية التصعيد الأخير بين «حزب الله» وإسرائيل.

«الشرق الأوسط» (بيروت)

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

TT

ذكرى 11 سبتمبر وإغلاق «معتقل غوانتانامو»... وعود متجددة دونها عراقيل

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)
معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، الساعة 8:46 صباحاً بتوقيت واشنطن، تصاعدت ألسنة اللهب وراء دخان طائرتين اصطدمتا ببرجي مركز التجارة العالمي. مشاهد صادمة طُبعت في أذهان الأميركيين والعالم إلى الأبد، ورغم أنها الأقوى والأكثر تداولاً، فإن الهجمات لم تقتصر عليها، بل تعدتها لتشمل مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) التي دُمِّر جزء منه بعد سقوط طائرة من الطائرات الأربع في ساحته، فيما فشلت الطائرة الرابعة في الوصول إلى هدفها المزعوم: مبنى الكابيتول في العاصمة واشنطن، فتحطمت بركابها والخاطفين في حقل في ولاية بنسلفانيا.

صور الاعتداءات هذه حفرت جروحاً لم تندمل في المجتمع الأميركي بعد 23 عاماً من ذكراها، وولّدت حرباً مستعرة «ضد الإرهاب» شنتها الإدارات المتعاقبة في العراق وأفغانستان، في سلسلة من القرارات السياسية والخطوات العسكرية التي هدفت إلى تجنب تكرار حوادث مشابهة ومحاسبة المنفذين والمخططين، لكنها أيضاً تجاهلت القوانين الدولية والأعراف الأميركية، ليكون الرمز الأبرز لهذه الممارسات «معتقل غوانتنامو» في كوبا.

اليوم وفي الذكرى الـ23 للهجمات، لا يزال المعتقل مفتوحاً رغم كل الوعود والتعهدات بإغلاقه لطي صفحة لطخت سمعة أميركا في العالم، وساعدت أعداءها في تجنيد عناصر لمهاجمتها.

ومع انسحاب إدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن من أفغانستان، واستعداداتها الجارية للانسحاب من العراق (وتمت جدولته لعام 2026) تبقى الآمال معلقة على وعود إغلاق هذه القاعدة العسكرية الموجودة في كوبا والتي استقبلت أول الوافدين العشرين إليها بعد اعتداءات سبتمبر، في 11 يناير (كانون الثاني) 2002 في عهد جورج بوش الابن. ثم وصل عدد المعتقلين إلى قرابة 800 في الأعوام الماضية، قبل أن يتم نقل عدد كبير منهم ويبقى منهم اليوم نحو 30 معتقلاً.

هجمات 11 سبتمبر 2001 في أميركا (رويترز - أرشيفية)

غوانتنامو بين بايدن، وأوباما وترمب

سعت إدارة بايدن جاهدة لتنفيذ وعودها بإغلاق غوانتنامو ونقل المعتقلين، وكانت باشرت في عملية النقل الأولى في 19 يوليو (تموز) 2021، وسعت لاستكمال هذه العملية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ أفادت تقارير صحافية عن خطتها لنقل 11 معتقلاً لسلطنة عمان. وقد أبلغت الكونغرس نيتها الإقدام على هذه الخطوة قبل 30 يوماً من موعد التنفيذ بحسب القانون الأميركي، لكن هجوم 7 من أكتوبر الماضي عرقل المساعي بعدما حذّر أعضاء الكونغرس من المضي قدماً خوفاً من تدهور الوضع في الشرق الأوسط.

وتسلّط هذه الخطوات الضوء على التحديات الضخمة بوجه قرار الإغلاق وتنفيذه وهذا ما يتحدث عنه آدم كليمينتس مدير الاستراتيجية والسياسة السابق لقطر والكويت في وزارة الدفاع الأميركية والمستشار العسكري السابق في هيئة الأركان المشتركة لليمن والسعودية والأردن وعمان، فيقول لـ«الشرق الأوسط» إنه «من الصعب على إدارة بايدن اتخاذ خطوة من هذا النوع في عام انتخابي لأن خصومه السياسيين سيعثرون على طريقة لاستعمال هذا القرار ضده وضد الديمقراطيين». ويخص كلمينتس بالذكر أفغانستان وانتقادات الجمهوريين المتزايدة لما يصفونه بـ«الانسحاب الكارثي» فيقول: «رغم أن إدارات بوش الابن وأوباما وترمب وبايدن تتحمل مسؤولية مشتركة لفشل السياسة الأميركية في أفغانستان، فإن الجمهوريين يسعون لربط الانسحاب الأميركي من أفغانستان بصفته فشل في سياسة بايدن الخارجية، بأي قرار حول غوانتنامو».

من ناحيته، يشير الكولونيل عباس داهوك المستشار العسكري السابق لوزارة الخارجية إلى تحديات سياسية وقانونية وأمنية حالت دون إغلاق غوانتنامو فيقول لـ«الشرق الأوسط»: «معظم الأدلة ضد المعتقلين يعتمد على معلومات استخباراتية سرية، مما يعقد استخدامها في محاكمات علنية من دون المخاطرة بالكشف عن معلومات حساسة تصعّب بدورها عقد محاكمات عادلة». ولا تتوقف التحديات عند هذا الحد، بل تشمل، بحسب داهوك، التعاون والتنسيق بين مختلف الوكالات الأميركية بما فيها وزارات الدفاع والعدل والخارجية، مضيفاً: «هذه التعقيدات البيروقراطية تعرقل الإغلاق».

وخيمت هذه التعقيدات على مساعي إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما أيضاً في إغلاق المعتقل، فمع تعالي الأصوات المنتقدة للممارسات الأميركية فيه، وصدور تقارير كثيرة كشفت أساليب تعذيب مبتكرة تخرق اتفاقيات معاملة الأسرى، وصلت إلى حد وصف منظمة العفو العالمية لغوانتنامو بأنه «رمز التعذيب ونقل المعتقلين بطريقة غير شرعية، والاحتجاز إلى أجل غير مسمى من دون تهمة أو محاكمة»، سعت إدارة أوباما إلى وضع خطة لإغلاقه. فأصدر الرئيس الديمقراطي السابق قراراً في 22 يناير 2009 بإغلاق كل العمليات في غوانتنامو خلال عام واحد وتعليق جلسات المحاكمة، كما أمر بتأسيس فريق عمل لمراجعة وضع بقية المعتقلين الذين وصل عددهم حينها إلى نحو 240 رجلاً.

لكن العرقلة جاءت أيضاً من الداخل الأميركي وتحديداً من الكونغرس الذي رفض جهود الإغلاق، ليأتي الرئيس الأميركي دونالد ترمب ويوقع أمراً تنفيذياً في يناير من عام 2018 لإبقاء المعتقل مفتوحاً و«إرسال المزيد من الإرهابيين إليه».

سمعة ملطخة و«رمز للنفاق»

على مدار السنوات وتبدل الإدارات، لم تقف العرقلات بوجه تحركات الداعين لإغلاق غوانتنامو ومنهم «مركز الحقوق الدستورية» المعني بالدفاع عن المعتقلين. وتقول كبيرة المحامين الإداريين في المركز شاين كاديدال لـ«الشرق الأوسط»: «لقد حان الوقت لإغلاق غوانتنامو وإنهاء الاحتجاز إلى ما لا نهاية من دون تهمة أو محاكمة» وتتابع مذكرة بتصريح الجنرال الأميركي أنطونيو تابوغا الذي أعد تقريراً داخلياً يفصل الانتهاكات في سجن أبو غريب قائلة: «إن السجن أضر بصورة الولايات المتحدة لأسباب تستحقها، وهو مستمر بهذا الضرر، وأذكر تصريح الجنرال تابوغا للكونغرس حين قال إن السببين وراء مقتل الأميركيين في ساحة المعركة في أفغانستان والعراق هما أبو غريب وغوانتنامو فقد تم استعمالهما كأدوات تجنيد لأعداء الولايات المتحدة».

معتقلون في «معسكر إكس» الشديد الحراسة ضمن «معتقل غوانتانامو» (غيتي)

وبالفعل يوافق كل من كلمينتس وداهوك مع هذه المقاربة، فيشير الأول إلى وجود الكثير من الإخفاقات السياسية الأميركية المتعلقة بالعراق وأفغانستان مضيفاً: «نعم إن فكرة انتهاك حقوق الإنسان أو انتهاكات الكرامة الإنسانية تؤثر على سمعة الولايات المتحدة في الخارج، وهذه النظرة، حتى لو كانت شرعية تقنياً ضمن القوانين الدولية والأميركية، فإنها قد توفر مادة (بروباغندا) للمجموعات المتشددة».

ويقدم داهوك تقييماً مماثلاً فيقول: «قد يكون غوانتنامو قدم حلولاً قصيرة الأمد للأمن القومي الأميركي من خلال اعتقال أشخاص خطرين وتجنب تهديدات فورية، لكنه أصبح رمزاً للنفاق في السياسة الخارجية. وهذا يؤثر سلباً على جهود القيادة بالمثل في حقوق الإنسان ويعقد من التعاون مع شركاء أساسيين في الحرب ضد الإرهاب. كما أن غوانتنامو أضرَّ الأمن القومي الأميركي من خلال تغذية التشدد وإيذاء التحالفات المهمة مع الشركاء».

تكاليف باهظة وصفقات سرية

بالإضافة إلى تشويه سمعة الولايات المتحدة، يشير كثيرون إلى أن إغلاق غوانتنامو ضروري بسبب تكاليفه الباهظة. فبحسب مبادرة «ذي بريدج» وهي مشروع أبحاث عن الإسلاموفوبيا في جامعة جورج تاون الأميركية، تخطت تكلفة المعتقل 6 مليارات دولار منذ عام 2002 ووصلت تكلفة احتجاز كل فرد إلى 13 مليون دولار، مما يجعل المعتقل «أكثر برامج الاحتجاز تكلفة في العالم». وفي معرض المقارنة، فإن السجين الواحد في سجن كولورادو الفيدرالي بتصنيف «سوبرماكس»، أي الشديد الحراسة كلف دافع الضرائب الأميركي 78 ألف دولار في عام 2012.

اليوم ومن ضمن المعتقلين الثلاثين الموجودين في غوانتنامو، هناك 3 معتقلين «إلى ما لا نهاية» بموجب قانون الحرب، من دون توصيات بنقلهم، وهم: زين العابدين محمد حسين- أبو زبيدة (فلسطيني) ومصطفى فرج مسعود الجديد محمد (ليبي) ومحمد رحيم (أفغاني).

وهناك 16 معتقلاً تمت التوصية بنقلهم بحسب قوانين الحرب «في حال الإيفاء بالشروط الأمنية» ومعظمهم من اليمن. أما البقية، وهم 11 فقد تم توجيه اتهامات لهم بارتكاب جرائم حرب في المحاكم العسكرية، وينتظر 7 منهم المحاكمة فيما تمت إدانة أربعة.

لا لعقوبة الإعدام

هنا يكمن تحدٍ من نوع آخر، ففي نهاية يوليو من العام الحالي، أعلن البنتاغون إن المسؤول المشرف على اللجان العسكرية توصل إلى اتفاق قضائي مع ثلاثة من المعتقلين المتهمين بالتخطيط لهجمات 11 سبتمبر هم خالد شيخ محمد ووليد محمد صالح مبارك بن عطاش، ومصطفى أحمد آدم الهوساوي، مفاده الاعتراف بالذنب مقابل موافقة الادعاء على عدم المطالبة بعقوبة الإعدام. وتفسر كاديدال لـ«الشرق الأوسط» خلفيات الاتفاق فتقول: «الادعاء يريد الاتفاق لأنه يعلم أن عقوبة الإعدام لن تنفذ. ليس لان الأدلة ملطخة بالتعذيب، بل لأن نظام المحاكمات العسكرية ليس مؤهلاً بما يكفي للمضي قدماً بقضايا معقدة لهذه الدرجة، وعندما تنتهي المحاكمة وعمليات الاستئناف سيكون المتهمون إما في السبعينات من عمرهم أو قد ماتوا لأسباب طبيعية».

خالد شيخ محمد العقل المدبر لـ«هجمات سبتمبر» الإرهابية (نيويورك تايمز)

ويوافق داهوك مع كاديدال على تقييم المحاكمات العسكرية فيصفها بالبطيئة وغير الفعالة، مع وجود بعض القضايا التي استمرت لأكثر من عقد.

لكن هذه الحجج لم تقنع وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي عمد إلى اتخاذ خطوة غير اعتيادية وتدخل في الإجراءات معلناً نقضه للاتفاق قائلاً إنه «لطالما اعتقدت بأن عائلات الضحايا والقوات الأميركية والشعب الأميركي يستحق الفرصة بأن يرى المحاكم العسكرية تتخذ مجراها في هذه القضية.» إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، فمن غير المؤكد أن أوستن لديه الصلاحية الكافية لنقض قرار من هذا النوع، لهذا فقد عمد القاضي العسكري في قضية الاعتداءات الكولونيل ماثيو مكول إلى السماح للمحامين بالتحقيق فيما إذا كان قرار أوستن ضمن الأعراف والقوانين المعتمدة على أن يتم النظر فيها في الجولة المقبلة من جلسات الاستماع التي ستبدأ في 16 من الشهر الحالي. وعن هذا تقول كاديدال: «أعتقد أن محاولة وزير الدفاع لنقض قرار تم البت فيه سوف تفشل قانونياً، وسوف يتم المضي قدماً بالاتفاق. وهذا أمر جيد، لأن الاتفاق هذا هو الفرصة الوحيد لآلاف العائلات للحصول على نوع من الخاتمة العاطفية، كما أنه قد يولد بعض الأجوبة من المتهمين على أسئلة كثيرة».

وبانتظار المزيد من الوضوح لتبيان تفاصيل المرحلة المقبلة، يدق الديمقراطيون ناقوس الخطر محذرين من أن وصول ترمب إلى البيت الأبيض مجدداً من شأنه أن يعيد الزمان إلى الوراء ويحيي المعتقل، لكن مواقف ترمب غير ثابتة في هذا الخصوص، فبعد أن تعهد بعدم إغلاق غوانتنامو في عام 2018 تحدث عن تكلفته الباهظة في عام 2019 قائلاً: «هذا جنون، إدارة غوانتنامو تكلف ثروة».

أما أغرب تصريح لترمب حول الملف، فهو ما ذكره صحافيا «واشنطن بوست» ياسمين أبو طالب وداميان باليتا في كتاب لهما صدر مؤخراً، ويقول فيه ترمب إنه أراد حجر المصابين بـ«كورونا» في غوانتنامو... فماذا ستكون خطته إذا ما فاز؟