تبقى مدينة بوتشا؛ الواقعة إلى الشمال الغربي من العاصمة الأوكرانية كييف، منذ بداية الحرب شاهدة على واحد من أكثر فصولها فظاعة، فمع اندلاع شرارة الصراع، زحفت القوات الروسية من الحدود الشمالية للبلاد نحو المدينة الصغيرة الممتدة على ضفة نهر تحمل اسمه، ويتفرع منها الطريق المؤدي صوب العاصمة كييف، الهدف الرئيسي لموسكو عند بدء الحرب.
ففي نهاية فبراير (شباط) 2022، تعرضت المدينة، ومدن أخرى مثل غوستوميل وإربين وبلدات أخرى مجاورة لها، لقصف عنيف. وشهدت تلك المحاور معارك شرسة بين القوات الروسية والأوكرانية خلّفت دماراً هائلاً. وعلى وقع الضربات، سقطت المدينة في قبضة الجيش الروسي الذي تمركز فيها حتى إعلان موسكو سحب قواتها من محيط كييف أواخر مارس (آذار) عقب تعثر محاولات التقدم إلى العاصمة.
مطلع أبريل (نيسان) ومع دخول القوات الأوكرانية بوتشا ووصول عدد من الصحافيين إلى شوارعها، بدأت تتكشف تفاصيل مرعبة عمّا شهدته المدينة خلال تلك الفترة. فقد أظهرت الصور ومقاطع الفيديو، التي وثّقتها السلطات الأوكرانية ومنظمات دولية وأممية ومؤسسات إعلامية، مشاهد مروعة لأحوال المدينة وسكانها، إذ تناثرت عشرات الجثث في الشوارع إلى جانب السيارات المحترقة وأمام البيوت التي طالها الخراب. كما قالت السلطات الأوكرانية حينها إنها عثرت على عشرات الجثث الأخرى مدفونة في مقبرة جماعية، مشيرةً بأصابع الاتهام إلى موسكو بارتكاب ما قالت إنها مجزرة ضد المدنيين خلال سيطرتها على المدينة، الأمر الذي تصرّ موسكو على نفيه.
حصيلة الضحايا وفقاً للأرقام الرسمية أشارت إلى العثور على 458 جثة في بوتشا، فيما قالت المفوضية السامية لحقوق الإنسان إنها وثّقت عمليات قتل غير قانونية لعشرات المدنيين الذين عُثر عليهم مقيدي الأيدي ومصابين بطلقات بالرأس من مسافة قريبة، ما قد يرقى إلى جرائم حرب وفقاً للمنظمة الأممية. وفتحت المحكمة الجنائية الدولية بدورها تحقيقاً في جرائم ارتُكبت في أوكرانيا خلال الغزو الروسي للبلاد من بينها ما جرى في مدينة بوتشا.
اليوم وتزامناً مع ذكرى مرور عام على ما شهدته المدينة من فصول وسط نُذُر تصعيد بانتقال الحرب إلى مرحلة جديدة أكثر خطورة، زارت «الشرق الأوسط» المدينة وتحدثت إلى سكانها الذين ما زالوا يعيشون تحت وقع صدمة عميقة جراء ما حل بمدينتهم الصغيرة من خراب وما طال سكانها من معاناة. يستذكر السكان هناك آلامهم ويسردون تفاصيل لحظات صادمة لم تسقط من ذاكرتهم.
شارع يابلونسكا، أو شارع شجرة التفاح، وسط المدينة، بات يُعرَف اليوم بـ«شارع الموت»، إذ شهد حالات قتل كثيرة لمدنيين وُجدت جثثهم متناثرة على أطرافه بُعيد انسحاب القوات الروسية. تقول ليدا التي يقع بيتها على طرف الشارع إن القوات الروسية دخلت المدينة صباح السابع والعشرين من فبراير على وقع أصوات القصف والمدافع العنيفة، مضيفة: «دخلت قوات كبيرة وسيطرت على كل شيءٍ هنا، في هذا الشارع نصب الجنود حواجز. كانوا يطلقون النار على أي شيء يتحرك. لقد رأينا جثثاً متناثرة على امتداد رصيف الشارع».
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مع عدد من القادة الأوروبيين اليوم في إحياء ذكرى السنة على تحرير بوتشا (أ.ب)
تروي ليدا والدموع تومض في عينيها وهي تستعيد شريط الذكريات القاسية، كيف شرعت قوات الجيش الروسي بعملية تفتيش للمنازل واعتقال الرجال واقتيادهم للاستجواب في مركز احتجاز خاصة قبل إطلاق النار عليهم، «لقد دخلوا علينا في القبو الذي كنا نحتمي فيه وأخرجوا الرجال إلى الشارع ثم أطلقوا النار عليهم».
برجفة وتقطع في الكلام، تحاول نتاليا التي يطل منزلها على الشارع ذاته سرد تفاصيل ما عايشته وزوجها في تلك الأيام، بيد أنها تجد صعوبة في استدعاء المشاهد المروعة. تقول: «لا أستطيع أن أسرد لكم كل شيءٍ، تصيبني رعشة في جسدي، لا أعلم كيف بقيت على قيد الحياة، فما فعلوه هنا شيء مرعب»، وتضيف: «مضى وقت على تلك الأحداث. لكن عندما أشاهد شيئاً في التلفاز تنهمر دموعي وأتذكر كل شيء»، مضيفةً أن جيرانها جميعاً غادروا المنطقة، «وبقينا هنا أنا وزوجي وحدنا».
أما زوجها فيقول إن ما عايشه في تلك الآونة لا يتمناه لأحد، سائلاً الله ألا يعيش التجربة مجدداً. يقول: «لقد بلغت السبعين بيد أنني لم أتخيل في حياتي أبداً أن أعيش مثل هذه المشاهد المروعة». يسرد الرجل السبعيني مشاهداته لما جرى في الشارع المقابل لبيته ويروي ما جرى أمام عينيه من جرائم قتل ذهب ضحيتها عشرات الضحايا المدنيين... «رأيت سيارة مدمَّرة وكان في داخلها جثة محترقة كلياً. وعند التقاطع القريب، حيث كانت هناك نقطة تفتيش روسية، شاهدت جثة ملقاة على الأرض».
... مع بدء عمليات إجلاء المدنيين من المنطقة عبر ممرات آمنة نحو مناطق مجاورة، بدأت تتبدى للسكان حقيقة ما حل بمدينتهم. يروي ديمتري: «عندما بدأنا الخروج من هنا وبالقرب من تقاطع سكة الحديد، رأيت سيارات كثيرة محترقة وجثثاً ملقاة على الأرض». أما آنيا، الطالبة الجامعية التي يطل بيتها على الشارع، فتروي تفاصيل يومياتها الثقيلة ومشاعر الخوف التي تملّكتها في تلك الأيام، بقولها: «كان ينتابني خوفٌ شديدٌ ولم أكن أعلم ما ينتظرني. كنت أعيش حالة من الرعب والخوف على نفسي وعلى عائلتي لا سيما أختي الرضيعة».
ومع بسط القوات الروسية سيطرتها على تلك المنطقة وقطع شريان المساعدات عن المدينة المحاصرة، واجه السكان صعوبات بالغة في الحصول على الغذاء والمياه. تشير آنيا إلى أن عائلتها حصلت على بعض الغذاء من بيوت غادرها سكانها، أما المياه فكان الوصول إليها محفوفاً بالخطر، تقول: «كنا نذهب إلى بئر قريبة من بيتنا، نملأ المياه في أوعية ونحملها معنا. كان الروس يطلقون النار على أي جسم متحرك في الشارع حتى أولئك الذين يحملون أوعية الماء».
ومع دخول الحرب عامها الثاني على وقع تصاعد في وتيرة المعارك على الأرض وفي السماء، فإن سكان المدينة يتوجسون من تكرار سيناريو «الكابوس» الذي عاشوه مع بداية الحرب وما زالت ندوبه العميقة محفورة في ذاكرتهم. تقول نتاليا إن الأمر سيكون مرعباً إذا حصل مرة أخرى، «ففي المرة الثانية لن يكون ثمة مكان نلجأ إليه».