ليس المناخ وحده سبباً لكل الكوارث

من سوريا إلى مدغشقر

الرعي الجائر تسبب في تصحُّر البادية السورية
الرعي الجائر تسبب في تصحُّر البادية السورية
TT

ليس المناخ وحده سبباً لكل الكوارث

الرعي الجائر تسبب في تصحُّر البادية السورية
الرعي الجائر تسبب في تصحُّر البادية السورية

يزداد حديث السياسيين ووسائل الإعلام عن تغيُّر المناخ باعتباره سبباً مباشراً للكوارث الطبيعية جميعها، من الفيضانات إلى المجاعات. وفي المقابل، يحذّر علماء من أن إلقاء اللوم على المناخ فقط في حصول الكوارث يهدف إلى تحويل الأنظار عن السياسات والقرارات الفاشلة التي تجعل هذه الأحداث أكثر سوءاً.
ويجادل كثيرون بأن غياب الاستقرار في سورية كان نتيجة تغيُّر المناخ الذي تسبب بجفاف شديد بين عامي 2006 و2010، ودفع كثيرين لهجرة أراضيهم وتشكيل ضغوط على سوق العمل المحدودة. غير أن القرارات الحكومية الخاطئة وغياب شبكة الأمان الاجتماعي أسهما في تفجّر الأوضاع في شهر مارس (آذار) 2011، وتطوّرها إلى الأسوأ.
ويرى الباحث في الحفاظ على الأنواع الحيّة، جيانلوكا سيرا، أن إلقاء اللوم على فترات الجفاف الطويلة أو تغيُّر المناخ كان مخرجاً سهلاً لموظفي الحكومة السورية للتملّص من المسؤولية وتبرير تقاعسهم عن العمل. ويؤكد سيرا، الذي عَمِل في تدمر خلال الفترة بين 2000 و2011، أن التركيز على الجفاف الشديد بوصفه سبباً رئيسياً لغياب الاستقرار في سورية يتجاهل السبب المباشر المتمثّل في الاستغلال المفرط والكارثي لنظام السهوب الهش في البلد.
ويعرض سيرا صورة التقطها لمسيّج محمية التليلة قرب تدمر في ذروة فترة الجفاف عام 2008. وتثبت الصورة المرفقة قدرة النظام البيئي للسهوب السورية على التكيُّف مع الجفاف (القسم الأيمن من الصورة ضمن المحمية)، بينما كانت المنطقة المفتوحة لرعي الأغنام الجائر (القسم الأيسر من الصورة خارج المحمية) شبه متصحّرة.
ويُشير سيرا إلى أن البادية تغطي 55 في المائة من الأراضي السورية، وهي سهوب شاسعة تمتد إلى أجزاء من العراق والأردن والسعودية. ولمئات السنين، اعتادت قبائل البدو الرحّل تقاسم المراعي موسمياً لضمان استدامة الموارد الطبيعية، حتى إن الرعاة في شبه الجزيرة العربية أنشأوا «الحِمى» لمساعدة المراعي على التعافي. ولكن خلال 50 عاماً من سوء إدارة المراعي في البادية السورية، تسارع تدهور السهوب، متسبباً في كارثة بيئية تبعتها أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
ويستغل السياسيون في كل مكان تغيُّر المناخ حجةً واهية يحمّلونها مسؤولية الكوارث التي يفشلون في تجنُّبها. ففي ألمانيا، على سبيل المثال، تسبب فيضان نهر كيل في جبال إيفل غرب البلاد في وفاة أكثر من 220 شخصاً في منتصف شهر يوليو (تموز) 2021، مما جعل الحادثة أسوأ كارثة فيضان تشهدها أوروبا الغربية منذ عقود. وسارع السياسيون إلى إلقاء اللوم على تغيُّر المناخ في هطول الأمطار الغزيرة التي غمرت النهر. وصرّحت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أثناء زيارتها المنطقة بأن العالم يجب أن يكون «أسرع في المعركة ضد تغيُّر المناخ».
لم يكن كلام ميركل خاطئاً بالكامل، لكنه عرض جانباً واحداً من الواقع. ففي حين خلص علماء المناخ لاحقاً إلى أن الغلاف الجوي الأكثر دفئاً في تلك الفترة زاد من احتمالية هطول الأمطار بنسبة تصل إلى تسع مرّات، فإن عاملاً آخر كان وراء الكارثة لم يذكره سوى عدد قليل من السياسيين ووسائل الإعلام. وفي هذا المجال يقول علماء الهيدرولوجيا الذين يراقبون تدفقات نهر كيل إن انتشار المزارع في التلال، التي كانت مستنقعة في السابق، دمّر قدرة الأرض الشبيهة بالإسفنج على امتصاص الأمطار الغزيرة. وأدّت المصارف الحقلية والطرق وإزالة الغطاء النباتي الطبيعي إلى توجيه المياه إلى النهر في غضون ثوانٍ بدلاً من أيام.
ومن الأمثلة الصارخة في تحميل تغيُّر المناخ المسؤولية، وتجاهل الأسباب الحقيقية للكوارث، أزمة الغذاء الحالية في مدغشقر. ففي أبريل (نيسان) الماضي، قال «برنامج الغذاء العالمي»، التابع للأمم المتحدة، إن 1.3 مليون شخص في جنوب الدولة الأفريقية يتضورون جوعاً بعد أربع سنوات متتالية من الجفاف. وتم الإبلاغ على نطاق واسع عن تحذير المنظمة الدولية من أن تصبح الكارثة «أول مجاعة يسببها تغيُّر المناخ»، كما صرّح رئيس مدغشقر، أندري راجولينا، بأن «أبناء بلدي يدفعون ثمن أزمة مناخ لم يخلقوها».
ولكن دراسة معمّقة لأسباب المجاعة في مدغشقر، قام بها لوك هارينغتون من معهد أبحاث المناخ النيوزيلندي، أظهرت أن المناخ لعب دوراً ثانوياً على الأكثر في الجفاف. ويُلقي هارينغتون باللائمة في أزمة الجوع في مدغشقر على الفقر وضعف البنية التحتية، مثل عدم كفاية إمدادات المياه لري المحاصيل، وهي قضايا لم تعالجها حكومة الرئيس راجولينا.
وفي مجال التنوُّع البيولوجي، يزداد القلق من تركيز المجتمع الدولي على تغيُّر المناخ، مما يحرف الأنظار عن أولويات أهم لحفظ الأنواع الحيّة. ويُظهر تحليل لبيانات «القائمة الحمراء»، الخاصة بالأنواع المهددة بالانقراض، أن فقدان الموائل لا يزال أكثر أهمية بثلاث مرات من تغيُّر المناخ في حالات انقراض الفقاريات. ويقوّض تجاهل هذه الحقيقة الاستراتيجيات اللازمة لمنع إزالة الغابات والتهديدات الأخرى للموائل.
وإذ يُجمع العلماء على دور النشاط البشري في تغيُّر المناخ، وآثاره الكارثية على معظم مناحي الحياة، يزداد الجدل حول التركيز دائماً على تغيُّر المناخ بوصفه سبباً بارزاً ومباشراً في عديد من الكوارث. ويرى كثيرون أن ذلك يهمّش الطرق المحلية في تقليل مخاطر الطقس القاسي، ويُعفي صانعي السياسات من إخفاقاتهم في حماية مواطنيهم من تغيُّر المناخ.


مقالات ذات صلة

سلوفينية تبلغ 12 عاماً تُنقذ مشروعاً لإعادة «الزيز» إلى بريطانيا

يوميات الشرق أحدثت الفارق وغيَّرت النتيجة (صندوق استعادة الأنواع)

سلوفينية تبلغ 12 عاماً تُنقذ مشروعاً لإعادة «الزيز» إلى بريطانيا

اختفى هذا النوع من الحشرات من غابة «نيو فورست» ببريطانيا، فبدأ «صندوق استعادة الأنواع» مشروعاً بقيمة 28 ألف جنيه إسترليني لإعادته.

«الشرق الأوسط» (لندن)
بيئة أظهرت الدراسة التي أجراها معهد «كلايمت سنترال» الأميركي للأبحاث أنّ الأعاصير الـ11 التي حدثت هذا العام اشتدت بمعدل 14 إلى 45 كيلومتراً في الساعة (رويترز)

الاحترار القياسي للمحيطات زاد حدة الأعاصير الأطلسية في 2024

أكدت دراسة جديدة، نُشرت الأربعاء، أن ظاهرة الاحترار المناخي تفاقم القوة التدميرية للعواصف، مسببة زيادة السرعة القصوى لرياح مختلف الأعاصير الأطلسية.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
أوروبا وزيرة البيئة الأوكرانية تلقي كلمة في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (كوب 29) في أذربيجان 20 نوفمبر 2024 (رويترز)

أوكرانيا تُقدّر الضرر البيئي نتيجة الحرب بـ71 مليار دولار

قالت وزيرة البيئة الأوكرانية إن الضرر البيئي بسبب العمليات العسكرية جراء الغزو الروسي لأوكرانيا منذ فبراير 2022 يقدّر بـ71 مليار دولار.

«الشرق الأوسط» (كييف)
خاص قام أفراد المجتمع بزراعة أكثر من مليون شجيرة في متنزه ثادق السعودي لإصلاح الأراضي المتدهورة ومعالجة التصحر (برنامج الأمم المتحدة للبيئة)

خاص ثياو قبل «كوب 16»: العالم يحتاج 355 مليار دولار سنوياً لمكافحة التصحر

مع اقتراب انعقاد «كوب 16» يترقّب العالم خطوات حاسمة في معالجة أكبر التحديات البيئية التي تواجه كوكب الأرض.

آيات نور (الرياض)
بيئة ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية (أرشيفية - رويترز)

ارتفاع مستويات الميثان من الأراضي الرطبة الاستوائية يُهدد خطط المناخ

أظهرت أوراق بحثية أن الأراضي الرطبة الاستوائية حول العالم بات نبعث منها كميات من غاز الميثان أكبر من أي وقت مضى.

«الشرق الأوسط» (باكو)

نيودلهي تعتزم استخدام مسيّرات لمكافحة الضباب الدخاني

تتصدر نيودلهي والمنطقة الحضرية المحيطة بها باستمرار التصنيف العالمي لتلوث الهواء في الشتاء (إ.ب.أ)
تتصدر نيودلهي والمنطقة الحضرية المحيطة بها باستمرار التصنيف العالمي لتلوث الهواء في الشتاء (إ.ب.أ)
TT

نيودلهي تعتزم استخدام مسيّرات لمكافحة الضباب الدخاني

تتصدر نيودلهي والمنطقة الحضرية المحيطة بها باستمرار التصنيف العالمي لتلوث الهواء في الشتاء (إ.ب.أ)
تتصدر نيودلهي والمنطقة الحضرية المحيطة بها باستمرار التصنيف العالمي لتلوث الهواء في الشتاء (إ.ب.أ)

كشفت العاصمة الهندية، الجمعة، عن خطط لإطلاق مسيّرات خاصة لإزالة الضباب الدخاني الذي يلوث أجواءها، ما أثار سخرية خبراء عدّوها حلاً مؤقتاً جديداً لأزمة صحة عامة.

وتتصدر نيودلهي والمنطقة الحضرية المحيطة بها، والتي يقطنها أكثر من 30 مليون شخص، باستمرار التصنيف العالمي لتلوث الهواء في الشتاء.

ويُنسب إلى الضباب الدخاني المسؤولية عن آلاف الوفيات المبكرة كل عام، مع فشل كثير من المبادرات الحكومية الجزئية في معالجة المشكلة بشكل ملموس.

وشهد يوم الجمعة، بداية تجربة مسيّرات مكلفة التحليق حول نقاط التلوث الساخنة في المدينة لرش ضباب الماء، في محاولة لإزالة الغبار والجسيمات الضارة من الهواء.

وقال وزير البيئة في دلهي غوبال راي، بعد إطلاق المبادرة: «درسنا الحلول التكنولوجية المختلفة وأفضل الممارسات من جميع أنحاء العالم»، مضيفاً: «هذه المسيّرات جزء من مشروع تجريبي لإحدى الشركات. سندرس ذلك، وإذا نجحت (التجربة)، فسنمضي قدماً في هذا الأمر».

وقال راي إنه بمجرد انتهاء التجربة، ستصدر حكومة دلهي مناقصة لشراء مسيّرتين إضافيتين.

وفي حال إنجاز المشروع، من شأن المسيّرات الثلاث التخفيف من تلوث الهواء في جميع أنحاء المدينة التي تمتد عبر 1500 كيلومتر مربع، ما يوازي تقريباً حجم لندن الكبرى.

وقال فني في الموقع، لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، شرط عدم الكشف عن هويته، إن المسيّرات تحمل 16 لتراً من الماء كحد أقصى، ولا يمكنها العمل إلا لبضع دقائق في كل مرة قبل الحاجة إلى إعادة تعبئتها.

لكن سونيل داهيا من مجموعة «إنفايروكاتاليستس» (Envirocatalysts) البيئية قال لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، إن «هذه الحلول مؤقتة».

وفشلت الجهود الحكومية السابقة للتخفيف من الضباب الدخاني، مثل حملة عامة تشجع السائقين على إيقاف تشغيل محركاتهم عند إشارات المرور، في إحداث تأثير في المدينة.

وسجلت مستويات الجسيمات «بي إم 2.5»، وهي أصغر حجماً وأكثر ضرراً، ويمكن أن تدخل مجرى الدم، أكثر من 300 ميكروغرام لكل متر مكعب في دلهي هذا الأسبوع، وفق هيئة المراقبة «أي كيو إير» (IQAir).

وهذا المستوى أعلى بـ20 مرة من الحد الأقصى اليومي الموصى به من منظمة الصحة العالمية.