لم تتوقف معاناة اللاجئين العراقيين خارج ديارهم التي هجرتهم منها الحرب منذ 8 سنوات عجاف عند إيجاد خيمة لهم أو لأفراد عائلاتهم؛ بل حتى القبور التي يدفنون موتاهم فيها تكون غالباً بلا شواهد. تروي لاجئة عراقية تُدعى صفية، تبلغ من العمر 57 سنة، تتحدر من مدينة الموصل وتقيم في «مخيم الهول» السوري منذ قرابة 6 أعوام، كيف قامت بدفن زوجها في مقبرة بلدة الهول المجاورة، في قبر دون شاهد لم يُكتب عليه أي اسم، كحال مئات القبور التي تعود لعراقيين ماتوا هنا ودُفنوا في قبور دون شواهد.
قالت صفية إن صحة زوجها تدهورت، لأنه كان يعاني من مرض عضال، وبعد معاناة طويلة مع المرض مات قبل ثلاثة أشهر ودُفن في مقبرة الهول: «كانت أمنيته الأخيرة رؤية بلده العراق مرة ثانية، كان يريد العودة للقاء مَن تبقى من أهله، لكن الموت كان أسرع من تحقيق آخر أمانيه». وأعربت هذه اللاجئة عن توقعها بأنها ستبقى تعيش في حسرة بعد عودتها لبلدها، مضيفة: «إذا رجعت لبلدي ما راح أقدر (لن أستطيع) أن أزور قبر زوجي لبعد المسافة والحدود الفاصلة».
وتقع بلدة الهول على بُعد 40 كيلومتراً شرق الحسكة، الواقعة في أقصى شمال شرقي سوريا، وتقع مقبرتها في منطقة صخرية بالجهة الغربية، وتطل مباشرة على المخيم، وتضم أكثر من 500 قبر غالبيتها للاجئين عراقيين، حيث كان بالإمكان التمييز بين قبور سكان البلدة الذين وضعوا شواهد على قبور أحبتهم، فيما بقيت قبور اللاجئين العراقيين من دون شواهد.
أما عواد، المتحدر من محافظة الأنبار العراقية ويعيش اليوم في «مخيم الهول»، فقد تحدث وهو يقف أمام خيمته التي باتت بمثابة منزله منذ سنوات: «في كل سنة، كلما تلد زوجتي يُتوفى المولود ونحتار في إيجاد مكان للدفن. قمنا بدفنهم في مقبرة الهول إلى جانب بعضهم دون شواهد». ويروي هذا اللاجئ كيف سجنه تنظيم «داعش» بعد السيطرة على مسقط رأسه، بتهمة حيازة وتجارة الدخان، لينقل إلى بلدة البوكمال السورية، وبعد الإفراج عنه وجد نفسه في «دولة ثانية» لا يعترف التنظيم بوجودها، بعدما أزال الحدود السورية - العراقية. تابع حديثه ليقول: «ما قدرت (لم أستطع) أن أرجع للعراق، لوجود معارك في مناطقنا لتلتحق بي زوجتي وعائلتي، وقصدنا (مخيم الهول) نهاية 2016، وننتظر العودة بفارغ الصبر».
وعلى اختلاف أشكال القبور وتشابه غياب الشواهد وظروف رحيلهم؛ بين الوفاة العادية أو القتل، يعاني هؤلاء بالفعل من كثير من البؤس، في تجسيد صارخ لمأساة اللاجئين العراقيين الذين شردتهم نيران الحرب التي دارت في بلدهم بين القوات الحكومية وتنظيم «داعش» الإرهابي، وباتوا اليوم عالقين هنا في حالة من اليأس لا يرون لها مخرجاً، بعدما استمرت منذ ما يزيد على 8 سنوات قضوها في هذا المخيم القريب من الحدود العراقية.
وتحدثت لاجئة عراقية ثالثة تُدعى أم محمد (63 سنة) تعيش في خيمة متواضعة، عن هروبها من مدينة الموصل، بداية 2017، برفقة زوجها وأولادها، خلال سيطرة مسلحي تنظيم «داعش» المتطرف على المدينة. قالت إنه بعد مضي 6 سنوات على لجوئها إلى «مخيم الهول»؛ لم يعد بمقدورها السير على قدميها؛ إذ تعاني من مرض السكري، مضيفة أن كل ما تتمناه اليوم هو الخلاص من هذا المخيم والعودة لمن تبقى من أهلها.
قالت: «لا أريد الموت والدفن هنا بعيدة عن بلدي وأقربائي... تعبنا من عيشة المخيم ومن سنوات الانتظار، نموت باليوم ألف موتة دون أن يرأف لحالتنا أحد».
وتوضح إدارة المخيم أن مقبرة البلدة باتت ممتلئة؛ لوجود أكثر من 26 ألف لاجئ عراقي يعيشون في «مخيم الهول»، مشيرة إلى أنهم طالبوا «اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي»، بالعمل على تخصيص مقبرة خاصة لقاطني المخيم، لا سيما اللاجئين العراقيين، نظراً لأعدادهم الكبيرة.
من جهته، قال أحمد الذي كان يلبس شماغاً منقوشاً باللون الأسود و«جلابية» رمادية، إنه لم يُجبَر على المجيء إلى «مخيم الهول» أصلاً، لكن انتهى به المطاف للعيش في خيمة لا تقيه برد الشتاء ولا حرارة فصل الصيف. وأضاف بصوت مليء بالحزن لمرارة معاناته: «لدينا في العراق أرض ومنازل ورزق، وكان لدينا عمل، لكن الحرب أجبرتنا على الخروج بأيد فارغة». وهو يمضي معظم وقته كحال الآخرين؛ بالوقوف بين خيام رُسم عليها شعار المفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة. أضاف بلهجة عراقية محكية: «أكبر أمنياتي اليوم ألا نموت هنا، والخلاص من المخيم ومشكلاته، وأن أرجع لـ(ديرتي)، يكفينا القهر والخوف والجوع الذي عشناه طوال سنوات، وأمنيتي أن أموت في منزلي وبلدي».
«لا شواهد» لقبور اللاجئين العراقيين
«لا شواهد» لقبور اللاجئين العراقيين
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة