الزبداني: آخر معارك حزب الله على الحدود اللبنانية

نقطة أمن دمشق ومائها.. والملاذ شبه الأخير للمعارضة المتحدرة من المنطقة

الزبداني: آخر معارك حزب الله  على الحدود اللبنانية
TT

الزبداني: آخر معارك حزب الله على الحدود اللبنانية

الزبداني: آخر معارك حزب الله  على الحدود اللبنانية

لم تحسم القوات الحكومية السورية، مدعومة بقوات حزب الله اللبناني، معركة الزبداني بعد شهر على انطلاقتها. فالمدينة التي اختبرت خمس محاولات فاشلة لعقد هدنة على مدى السنوات الثلاث الماضية، لا تزال قوات المعارضة فيها تواجه الهجمات، رغم الحصار العسكري، فيما تحشد القوات الحكومية طاقة نارية كبيرة لإنهاء وجود المعارضة في آخر المدن الحدودية مع لبنان.
غير أن التطورات العسكرية، التي ينظر مراقبون إلى أنها لن تكون لصالح 800 مقاتل معارض لا يزالون يتحصنون فيها، فاجأت قياديين معارضين، تحدثوا عن وجوه تشابه بين معركة القصير التي بدأ حزب الله عملياته العسكرية في سوريا منها، نظرًا إلى طول أمد المعركة التي تخطت الشهرين، في وقت تغيب فيه المؤشرات على أن تكون الزبداني، آخر معارك حزب الله في سوريا، رغم أنها آخر الجبهات الاستراتيجية التي تمسّ أمنه على الحدود اللبنانية.

يشكك مصدر معارض بارز أن تكون معركة حزب الله في الزبداني، هي الأخيرة، مستندًا إلى خطاب للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، قال فيه «أينما يجب أن نكون، سنكون». ويقول لـ«الشرق الأوسط» إن دخول حزب الله في المعركة «لم يكن بسبب حماية المقامات الدينية كما زعم في البداية، ولا الحفاظ على أمن الحدود اللبنانية كما قال قياديون فيه»، معتبرًا أن الحزب «أخذ على عاتقه حماية نظام (الرئيس السوري بشار) الذي اعترف صراحة بعجزه عن حشد الطاقات البشرية في المعارك، فنشر قواته في دمشق وريفها وجنوب سوريا وحمص وحلب وأخيرًا إدلب».
وتعتري حزب الله في الزبداني مشكلة ديموغرافية تحول دون تحقيق حسم في المدينة، كما تحول دون التوصل إلى اتفاقات لا تصب لمصلحة المعارضة. ويقول الباحث السياسي والخبير العسكري السوري عبد الناصر العايد: «حين بدأت معركة القصير، انسحب مقاتلو المعارضة إلى القلمون وحمص، قبل انسحابهم أخيرًا بفعل الهجوم على القلمون الغربي إلى الزبداني»، لافتًا إلى أن المدينة «باتت الملاذ شبه الأخير لقوات المعارضة التي تتحدر من المنطقة، ما يزيد حجم الاعتماد على المواجهة». ويضيف: «انسحب مقاتلو المعارضة في السابق من القصير، باتجاه جبهات أخرى لأن موازين القوى لا تسمح بذلك، أما اليوم، فإن عائلاتهم لم يبقَ أمامها خيار آخر، وهم يدركون أن جميع المقاتلين المعارضين الذين قاتلوا في القصير، لم تعد عائلاتهم إليها، وبالتالي، لن يغادروا اليوم مناطقهم».
والزبداني، هي آخر المدن السورية على الحدود اللبنانية التي تحكم قوات المعارضة فيها السيطرة على أجزاء من المدينة، رغم انتشار قوات المعارضة في تلال حدودية، أهمها في جرود عرسال اللبنانية الحدودية مع سوريا. وتمتاز بميزتين استراتيجيتين بالنسبة للمعارضة، من جهة، ونظام الرئيس السوري بشار الأسد وحليفه حزب الله من جهة ثانية، ويتمثلان في موقعها الجغرافي وبأنها تتضمن محطات ضخ مياه الري للعاصمة السورية.
بالنسبة لقوات المعارضة، تتمتع الزبداني بأهمية رمزية، كونها أول مدينة سورية سيطرت عليها بعد اندلاع الأزمة السورية في مارس (آذار) 2011، وقليلاً ما استقطبت مقاتلين أجانب، كون القسم الأكبر من المقاتلين يتبعون فصيل «أحرار الشام»، وهم من أهالي الزبداني وريفها، وأهالي القلمون والقصير الذين استقطبتهم المدينة بعد استعادة النظام السيطرة عليهما.
ومن الناحية الاستراتيجية، تعتبر الزبداني نقطة انطلاق لقطع طريق دمشق - بيروت الدولي، نظرًا لبعد قواتها في جرود الزبداني عن الطريق الدولية، مسافة 8 كيلومترات فقط، فضلاً عن أنها نقطة انطلاق باتجاه العاصمة السورية عبر بلدات ريف دمشق الغربي، ونقطة اتصال بالغوطة الشرقية لدمشق، وبالتالي يمكن تهديد العاصمة السورية التي تسعى قوات النظام لإبعاد الخطر عنها. إضافة إلى ذلك، تعتبر المدينة خط اتصال خلفيا، ولو أنه ضعيف، بمقاتلي المعارضة في الغوطة الغربية لدمشق، وبالتالي باتجاه جنوب سوريا.
وفي المقابل، تسعى القوات النظامية لإنهاء ظاهرة المعارضة على حدود دمشق، وبالتالي استكمال سيطرتها على الحدود اللبنانية، وريف دمشق، وتأمين طريق العاصمة، ومياه الشفة إليها. وقد بدأ الهجوم على الزبداني بعد أسبوع على قطع المعارضة مياه الشفة عن العاصمة السورية، مقابل إطلاق سراح معتقلات، بحسب ما أعلنت فصائل المعارضة أواخر شهر يونيو (حزيران) الماضي.
ويوضح الخبير الاستراتيجي عبد الناصر العايد لـ«الشرق الأوسط»، أن تأمين العاصمة السورية واحتفاظ النظام بها، هو هدف النظام وحزب الله وحلفائهما في روسيا وإيران، وذلك «لتعزيز مكانة النظام، والإبقاء عليه كممثل وحيد للبلاد أمام المجتمع الدولي»، مشيرًا إلى أن النظام اليوم «يتمسك بتمثيله للدولة، وبرموزها السيادية التي تعد أهم نقاط قوته الدولية»، لافتًا إلى أن سيطرته على العاصمة دمشق «توفر له تلك الميزة».
ويشرح العايد أن سيطرته على الرموز السيادية للدولة «تتمثل في الوزارات والحكومة ومؤسسات الدولة، وبالتالي يحتكر التمثيل ويبقى الطرف المعترف به في الأمم المتحدة». ويضيف: «وعي النظام لأهمية الحفاظ على الورقة يمنحه قوة في المحافل الدولية، لذلك أولى معركة دمشق أهمية بالغة».
أما الميزة الاستراتيجية الثانية للنظام التي تمنحه قدرة على الصمود، فتتمثل في الدفاع عن حاضنته الشعبية العلوية في الساحل السوري، والإبقاء على اتصالها بمركز الدولة في العاصمة، كما يقول العايد، معتبرًا أن «حماية العاصمة والمنطقة العلوية، والإبقاء على الاتصال بينهما، يشعره بأمان نسبي، ومن هنا تأتي أهمية العملية في الزبداني بالنسبة إليه التي تعد جزءًا من العاصمة، بينما إبعادها عن الخطر يحظى بأولوية بالنسبة للنظام».
ويتشارك حزب الله، مع حليفه النظام السوري، بتلك الدوافع للانخراط في معركة الزبداني، فيما يهم حزب الله سبب آخر يمثل أولوية بالنسبة إليه، وهو إبعاد قوات المعارضة السورية عن مناطق نفوذه في المناطق اللبنانية أيضًا. فعلى المقلب اللبناني من الحدود، تنتشر بلدات وقرى يغلب عليها الطابع الشيعي، تعتبر الخزان البشري لقاعدة حزب الله الشعبية، وقد تعرضت في وقت سابق في شرق بعلبك، لإطلاق صواريخ مصدرها السلسلة الشرقية لجبال القلمون، فضلاً عن أن قوات المعارضة نفذت كمائن على نقاط تمركز حزب الله في المنطقة الحدودية، وهو ما دفع الحزب، خلال الأشهر الماضية، لإطلاق معركة واسعة للسيطرة على التلال الحدودية مع سوريا في القلمون الغربي والتي كانت تتحصن فيها قوات المعارضة.
ومنذ انطلاق الهجوم على الزبداني، سرى اعتقاد بأن المعركة ستكون آخر المعارك الحدودية لحزب الله التي أطلقها في مدينة القصير (ريف حمص الجنوبي) في ربيع 2013 وامتدت إلى القلمون. وعقدت المقارنة بين القصير والزبداني، على قاعدة «التحصين» لقوات المعارضة، و«الاستنزاف» لحزب الله، فضلاً عن أن المنطقتين تتشابهان لناحية الهجوم على مدينة مأهولة بالسكان المدنيين.
غير أن توقعات مشابهة بأنها ستكون آخر معارك حزب الله الحدودية، ينفيها العايد، قائلا إن المعركة «هي حرب واسعة بكل ما تعنيه الكلمة، وتتطلب القضاء على وجود المعارضة ماديا، عبر القضاء على البيئة البنائية في المدينة، إضافة إلى انتشار المقاتلين المعارضين في بيئتهم الجغرافية وامتدادهم الديموغرافي»، مضيفًا: «هنا نتحدث عن بؤر متعددة، يصعب السيطرة عليها بالنهاية، فالمعارضة في ريف دمشق، ليسوا جيشًا له قيادة تتحطم ويُعلن الانتصار عليها»، معربًا عن اعتقاده أن «القيادة في المدينة، لن تسلم، فقد تختفي في مكان وتظهر في مكان آخر، مثلما حصل إبان معركة القصير، وستخوض حرب العصابات التي لا يمكن إنهاءها ولا يمكن تسجيل نصر إثرها».
ويقول إن «الطبيعة الديموغرافية والجغرافية تقود إلى أن حزب الله والنظام سيوجدون في بيئة مناوئة لهم من الناحية الديموغرافية، ما يعني أن نهاية المعركة لن تتحقق، وستفتح التضاريس حرب استنزاف»، لافتًا إلى أن الحرب «ستكون بلا أفق كونها لا تخضع لمعايير الحروب النظامية»، مشيرًا إلى أن «الحزب والنظام يدركان ذلك، وقد اختبرا الهدن في مناطق أخرى مثل المعضمية والحجر الأسود واليرموك وغيرها حول العاصمة، لكنها لم تمنحهما السيطرة بثقة على المكان، وبقيت سيطرة غير مضمونة النتائج».
وكانت القوات النظامية توصلت إلى هدن واتفاقات مع قوات المعارضة، قضت بسحب السلاح الثقيل، وتخفيف الحصار عنها، لكنها لم تحقق نجاحًا كاملاً نظرًا إلى اختراقها بين الحين والآخر.. وقد اختبرت الزبداني، خمس محاولات للتوصل إلى اتفاق بين قوى المعارضة والنظام، لكنها كانت تسقط، ولم تنجح في عقد اتفاقات كما في مناطق أخرى، رغم أن أولى المحاولات في ريف دمشق بدأت في المدينة.
وفشلت جولة المفاوضات الأخيرة بين النظام والمعارضة في الزبداني، التي بدأت المحاولات فيها بعد 15 يومًا على انطلاق الهجوم، بتحقيق أي نتائج. وفيما تحدث معارضون عن انخراط إيرانيين بالمفاوضات بشكل مباشر، نفت مصادر بارزة في المعارضة السورية ذلك، قائلة لـ«الشرق الأوسط» إن أطرافًا لبنانيين وسوريين «انخرطوا بالمفاوضات عن النظام بالوساطة عبر أعضاء في فريق المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، الذين التقوا بدورهم بممثلين عن لواء أحرار الشام الذي يتمتع بالنفوذ العسكري الأوسع في المدينة». وقال إن المفاوضات التي سهلتها أيضًا فعاليات مدنية من المدينة «وصلت إلى حائط مسدود».
ميدانيًا، وبعد شهر على انطلاق المعركة، لم تستطع القوات الحكومية السورية، مدعومة بقوات حزب الله اللبناني، حسم معركة الزبداني (ريف دمشق الغربي)، رغم التوقعات بالسيطرة عليها في فترة قياسية، وحشد الطاقات لإنهاء وجود المعارضة في آخر معاقل المعارضة السورية على الحدود اللبنانية.
وبحسب «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، يشارك حزب الله اللبناني وقوات الدفاع الوطني والفرقة الرابعة وجيش التحرير الفلسطيني في المعارك ضد فصائل إسلامية أهمها «أحرار الشام» ومسلحين محليين، وسط توثيق سقوط أكثر من 900 برميل متفجر في المدينة، إضافة إلى عشرات الصواريخ ومئات القذائف المدفعية.
وتحولت المعركة إلى مواجهات مباشرة تتركز في الأحياء الواقعة جنوب شرقي الزبداني، بعد انحسارها في مساحة من الأبنية، إثر انسحاب قوات المعارضة من المزارع المحيطة بالمدينة، كان آخرها حي الحكمة المتصل بشارع الجرجانية شرق الزبداني. وبفعل الاشتباكات والالتحام المباشر، تضاءل عدد الغارات الجوية اليومية التي تنفذ ضد قوات المعارضة، فيما يقول ناشطون إن مقاتلي المعارضة يستخدمون «تكتيك الأنفاق لمباغتة قوات حزب الله».
ويقول عضو مجلس قيادة الثورة بريف دمشق إسماعيل الداراني لـ«الشرق الأوسط»، إن وتيرة المعارك خفت عن السابق، مشيرًا إلى أنه «بفعل المواجهات المستمرة، تحولت المعركة إلى استنزاف للطرفين، ولم يستطع حزب الله السيطرة على مناطق استراتيجية». واعتبر أن «المعارك ستعيد تجربة داريا التي لم تستطع قوات النظام السيطرة عليها رغم الدمار الكبير فيها». ويضيف: «تمكنت القوات النظامية من تدمير أبنية بفعل القصف العنيف، لكن تلك الأبنية باتت كتلة إسمنتية بمثابة دشمة، يختبئ فيها القناصون ويتحصنون فيها، ما يمنحهم أهلية لصد الهجمات».
وإذ أشار إلى أن مقاتلي المعارضة في الداخل «يتخطى عددهم الـ800 مقاتل»، قال الداراني إن الحصار المطبق عليها «منع وصول مقاتلين معارضين من الخارج، رغم أن الحصار لا ينطبق بعد على الأسلحة، لأن تهريبها، حتى لو أنه تضاءل، فلا يزال ممكنًا».
وأدت وتيرة العمليات إلى مقتل 37 مقاتلاً من عناصر حزب الله اللبناني في الزبداني خلال شهر يوليو (تموز) الفائت.
ورغم الحصار والقصف، يعرب معارضون عن تفاجئهم من القدرة على الاستمرار بالقتال. ويقول العايد، وهو محلل عسكري سوري معارض: «في الحرب السورية شهدنا عمليات كر وفر واستعادة، مئات المرات، والأمور خاضعة لهذا المنطق، فلا يمكن الحكم على مدينة بالسقوط»، معربًا عن توقعاته «أن نشهد انقلابًا في خريطة الموازين العسكرية لصالح المعارضة، لأنها الطرف المبادر دومًا للمفاجآت، ويستطيعون تحقيق إنجازات رغم أنهم لا يمتلكون خطط واضحة معلن عنها، كما النظام والجيوش النظامية، وقد ظهر ذلك في مفاجأة السيطرة على إدلب وغيرها في الجنوب».



فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟
TT

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

فرنسوا بايرو: رجل المصالحة أو الفرصة الأخيرة؟

بعد 9 أيام من سقوط الحكومة الفرنسية، بقيادة ميشال بارنييه، في اقتراع لحجب الثقة، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فرنسوا بايرو، زعيم رئيس حزب الوسط (الموديم)، على رأس الحكومة الجديدة. يأتي قرار التعيين في الوقت الذي تعيش فيه فرنسا أزمة برلمانية حادة بسبب غياب الأغلبية وهشاشة التحالفات، مما يضفي على الحياة السياسية جواً من عدم الاستقرار والفوضى. كان هذا القرار متوقَّعاً حيث إن رئيس الوزراء الجديد من الشخصيات المعروفة في المشهد السياسي الفرنسي، والأهم أنه كان عنصراً أساسياً في تحالف ماكرون الوسطي وحليف الرئيس منذ بداية عهدته في 2017. تساؤلات كثيرة رافقت إعلان خبر التعيين، أهمها حظوظ رئيس الوزراء الجديد في تحقيق «المصالحة» التي ستُخرِج البلاد من الأزمة البرلمانية، وقدرته على إنقاذ عهدة ماكرون الثانية.

أصول ريفية بسيطة

وُلِد فرنسوا بايرو في 25 مايو (أيار) عام 1951 في بلدة بوردار بالبرينيه الأطلسية، وهو من أصول بسيطة، حيث إنه ينحدر من عائلة مزارعين، أباً عن جدّ. كان يحب القراءة والأدب، وهو ما جعله يختار اختصاص الأدب الفرنسي في جامعة بوردو بشرق فرنسا. بعد تخرجه عمل في قطاع التعليم، وكان يساعد والدته في الوقت ذاته بالمزرعة العائلية بعد وفاة والده المفاجئ في حادث عمل. بدأ بايرو نشاطه السياسي وهو في سن الـ29 نائباً عن منطقة البرانس الأطلسي لسنوات، بعد أن انخرط في صفوف حزب الوسط، ثم رئيساً للمجلس العام للمنطقة ذاتها بين 1992 و2001. إضافة إلى ذلك، شغل بايرو منصب نائب أوروبي بين 1999 و2002. وهو منذ 2014 عمدة لمدينة بو، جنوب غربي فرنسا، ومفتّش سامٍ للتخطيط منذ 2020.

شغل بايرو مهام وزير التربية والتعليم بين 1993 و1997 في 3 حكومات يمينية متتالية. في 2017 أصبح أبرز حلفاء ماكرون، وكوفئ على ولائه بحقيبة العدل، لكنه اضطر إلى الاستقالة بعد 35 يوماً فقط، بسبب تورطه في تحقيق يتعلق بالاحتيال المالي. ومعروف عن فرنسوا بايرو طموحه السياسي، حيث ترشح للرئاسة 3 مرات، وكانت أفضل نتائجه عام 2007 عندما حصل على المركز الثالث بنسبة قاربت 19 في المائة.

مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف (إ.ب.أ)

شخصية قوية وعنيدة

في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون: كيف ضغط رئيس (الموديم) على إيمانويل ماكرون»، كشفت صحيفة «لوموند» أن رئيس الوزراء الجديد قام تقريباً بليّ ذراع الرئيس من أجل تعيينه؛ حيث تشرح الصحيفة، بحسب مصادر قريبة من الإليزيه، أن بايرو واجه الرئيس ماكرون غاضباً، بعد أن أخبره بأنه يريد تعيين وزير الصناعة السابق رولان لوسكور بدلاً منه، واستطاع بقوة الضغط أن يقنعه بالرجوع عن قراره وتعيينه هو على رأس الحكومة.

الحادثة التي نُقلت من مصادر موثوق بها، أعادت إلى الواجهة صفات الجرأة والشجاعة التي يتحّلى بها فرنسوا بايرو، الذي يوصف أيضاً في الوسط السياسي بـ«العنيد» المثابر. ففي موضوع آخر نُشر بصحيفة «لوفيغارو» بعنوان: «فرنسوا بايرو التلميذ المصاب بالتأتأة يغزو ماتنيون»، ذكرت الصحيفة أن بايرو تحدَّى الأطباء الذين نصحوه بالتخلي عن السياسة والتعليم بسبب إصابته وهو في الثامنة بالتأتأة أو الصعوبة في النطق، لكنه نجح في التغلب على هذه المشكلة، بفضل عزيمة قوية، واستطاع أن ينجح في السياسة والتعليم.

يشرح غيوم روكيت من صحيفة «لوفيغارو» بأنه وراء مظهر الرجل الريفي الأصل البشوش، يوجد سياسي محنّك، شديد الطموح، بما أنه لم يُخفِ طموحاته الرئاسية، حيث ترشح للرئاسيات 3 مرات، و«لن نكون على خطأ إذا قلنا إنه استطاع أن يستمر في نشاطه السياسي كل هذه السنوات لأنه عرف كيف يتأقلم مع الأوضاع ويغيّر مواقفه حسب الحاجة»، مذكّراً بأن بايرو كان أول مَن هاجم ماكرون في 2016 باتهامه بالعمل لصالح أرباب العمل والرأسماليين الكبار، لكنه أيضاً أول مع تحالف معه حين تقدَّم في استطلاعات الرأي.

على الصعيد الشخصي، يُعتبر بايرو شخصية محافظة، فهو أب لـ6 أطفال وكاثوليكي ملتزم يعارض زواج المثليين وتأجير الأرحام، وهو مدافع شرس عن اللهجات المحلية، حيث يتقن لهجته الأصلية، وهي اللهجة البيرينية.

رجل الوفاق الوطني؟

عندما تسلّم مهامه رسمياً، أعلن فرنسوا بايرو أنه يضع مشروعه السياسي تحت شعار «المصالحة» ودعوة الجميع للمشاركة في النقاش. ويُقال إن نقاط قوته أنه شخصية سياسية قادرة على صنع التحالفات؛ حيث سبق لفرنسوا بايرو خلال الـ40 سنة خبرة في السياسة، التعاون مع حكومات ومساندة سياسات مختلفة من اليمين واليسار.

خلال مشواره السياسي، عمل مع اليمين في 1995، حيث كان وزيراً للتربية والتعليم في 3 حكومات، وهو بحكم توجهه الديمقراطي المسيحي محافظ وقريب من اليمين في قضايا المجتمع، وهو ملتزم اقتصادياً بالخطوط العريضة لليبيراليين، كمحاربة الديون وخفض الضرائب. وفي الوقت ذاته، كان فرنسوا بايرو أول زعيم وسطي يقترب من اليسار الاشتراكي؛ أولاً في 2007 حين التقى مرشحة اليسار سيغولين رويال بين الدورين الأول والثاني من الانتخابات الرئاسية للبحث في تحالف، ثم في 2012 حين صنع الحدث بدعوته إلى التصويت من أجل مرشح اليسار فرنسوا هولاند على حساب خصمه نيكولا ساركوزي، بينما جرى العرف أن تصوّت أحزاب الوسط في فرنسا لصالح اليمين.

ومعروف أيضاً عن رئيس الوزراء الجديد أنه الشخصية التي مدّت يد المساعدة إلى اليمين المتطرف، حيث إنه سمح لمارين لوبان بالحصول على الإمضاءات التي كانت تنقصها لدخول سباق الرئاسيات عام 2022، وهي المبادرة التي تركت أثراً طيباً عند زعيمة التجمع الوطني، التي صرحت آنذاك قائلة: «لن ننسى هذا الأمر»، كما وصفت العلاقة بينهما بـ«الطيبة». هذه المعطيات جعلت مراقبين يعتبرون أن بايرو هو الأقرب إلى تحقيق التوافق الوطني الذي افتقدته الحكومة السابقة، بفضل قدرته على التحدث مع مختلف الأطياف من اليمين إلى اليسار.

ما هي حظوظ بايرو في النجاح؟رغم استمرار الأزمة السياسية، فإن التقارير الأولية التي صدرت في الصحافة الفرنسية توحي بوجود بوادر مشجعة في طريق المهمة الجديدة لرئيس الوزراء. التغيير ظهر من خلال استقبال أحزاب المعارضة لنبأ التعيين، وعدم التلويح المباشر بفزاعة «حجب الثقة»، بعكس ما حدث مع سابقه، بارنييه.

الإشارة الإيجابية الأولى جاءت من الحزب الاشتراكي الذي عرض على رئيس الوزراء الجديد اتفاقاً بعدم حجب الثقة مقابل عدم اللجوء إلى المادة 3 - 49 من الدستور، وهي المادة التي تخوّل لرئيس الحكومة تمرير القوانين من دون المصادقة عليها. الاشتراكيون الذين بدأوا يُظهرون نيتهم في الانشقاق عن ائتلاف اليسار أو «جبهة اليسار الوطنية» قد يشكّلون سنداً جديداً لبايرو، إذا ما قدّم بعض التنازلات لهم.

وفي هذا الإطار، برَّر بوريس فالو، الناطق باسم الحزب، أسباب هذا التغيير، بالاختلاف بين الرجلين حيث كان بارنييه الذي لم يحقق حزبه أي نجاحات في الانتخابات الأخيرة يفتقد الشرعية لقيادة الحكومة، بينما الأمر مختلف نوعاً ما مع بايرو. كما أعلن حزب التجمع الوطني هو الآخر، وعلى لسان رئيسه جوردان بارديلا، أنه لن يكون هناك على الأرجح حجب للثقة، بشرط أن تحترم الحكومة الجديدة الخطوط الحمراء، وهي المساس بالضمان الصحّي، ونظام المعاشات أو إضعاف اقتصاد البلاد.

يكتب الصحافي أنطوان أوبردوف من جريدة «لوبنيون»: «هذه المرة سيمتنع التجمع الوطني عن استعمال حجب الثقة للحفاظ على صورة مقبولة لدى قاعدته الانتخابية المكونة أساساً من كهول ومتقاعدين قد ترى هذا الإجراء الدستوري نوعاً من الحثّ على الفوضى».

كما أعلن حزب اليمين الجمهوري، على لسان نائب الرئيس، فرنسوا كزافييه بيلامي، أن اليمين الجمهوري سيمنح رئيس الحكومة الجديد شيئاً من الوقت، موضحاً: «سننتظر لنرى المشروع السياسي للسيد بايرو، ثم نقرر». أما غابرييل أتال، رئيس الوزراء السابق عن حزب ماكرون، فأثنى على تعيين بايرو من أجل «الدفاع على المصلحة العامة في هذا الظرف الصعب».

أما أقصى اليسار، الممثَّل في تشكيلة «فرنسا الأبية»، إضافة إلى حزب الخضر، فهما يشكلان إلى غاية الآن الحجر الذي قد تتعثر عليه جهود الحكومة الجديدة؛ فقد لوَّحت فرنسا الأبية باللجوء إلى حجب الثقة مباشرة بعد خبر التعيين، معتبرة أن بايرو سيطبق سياسة ماكرون لأنهما وجهان لعملة واحدة.

فرانسوا بايرو يتحدث في الجمعة الوطنية الفرنسية (رويترز)

أهم الملفات التي تنتظر بايرو

أهم ملف ينتظر رئيس الوزراء الجديد الوصول إلى اتفاق عاجل فيما يخص ميزانية 2025؛ حيث كان النقاش في هذا الموضوع السبب وراء سقوط حكومة بارنييه. وكان من المفروض أن يتم الإعلان عن الميزانية الجديدة والمصادقة عليها قبل نهاية ديسمبر (كانون الأول) 2024، لولا سقوط الحكومة السابقة، علماً بأن الدستور الفرنسي يسمح بالمصادقة على «قانون خاص» يسمح بتغطية تكاليف مؤسسات الدولة وتحصيل الضرائب لتجنب الشلّل الإداري في انتظار المصادقة النهائية. أوجه الخلاف فيما يخّص القانون تتعلق بعجز الميزانية الذي يُقدَّر بـ60 مليار يورو، الذي طلبت الحكومة السابقة تعويضه بتطبيق سياسة تقشفية صارمة تعتمد على الاقتطاع من نفقات القطاع العمومي والضمان الاجتماعي، خاصة أن فرنسا تعاني من أزمة ديون خانقة حيث وصلت في 2023 إلى أكثر من 3200 مليار يورو. الرفض على المصادقة قد يأتي على الأرجح من اليسار الذي يطالب بإيجاد حل آخر لتغطية العجز، وهو رفع الضرائب على الشركات الكبرى والأثرياء. وكان فرنسوا بايرو من السياسيين الأكثر تنديداً بأزمة الديون، التي اعتبرها مشكلة «أخلاقية» قبل أن تكون اقتصادية؛ حيث قال إنه من غير اللائق أن «نحمّل أجيال الشباب أخطاء التدبير التي اقترفناها في الماضي».

الملف الثاني يخص نظام المعاشات، وهو ملف يقسم النواب بشّدة بين اليمين المرحّب بفكرة الإصلاح ورفع سن التقاعد من 62 إلى 64 سنة، إلى اليسار الذي يرفض رفع سنّ التقاعد، معتبراً القانون إجراءً غير عادل، وبالأخص بالنسبة لبعض الفئات، كذوي المهن الشاقة أو الأمهات.

وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا كانت قد شهدت حركة احتجاجات شعبية عارمة نتيجة إقرار هذا القانون، وبالأخص بعد أن كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية من الفرنسيين معارضة له. صحيفة «لكبرس»، في موضوع بعنوان «بايرو في ماتنيون ماذا كان يقول عن المعاشات» تذكّر بأن موقف رئيس الوزراء بخصوص هذا الموضوع كان متقلباً؛ فهو في البداية كان يطالب بتحديد 60 سنة كحّد أقصى للتقاعد، ثم تبنَّى موقف الحكومة بعد تحالفه مع ماكرون.

وعلى طاولة رئيس الوزراء الجديد أيضاً ملف «الهجرة»؛ حيث كان برونو ريتيلو، وزير الداخلية، قد أعلن عن نصّ جديد بشأن الهجرة في بداية عام 2025، الهدف منه تشديد إجراءات الهجرة، كتمديد الفترة القصوى لاحتجاز الأجانب الصادر بحقهم أمر بالترحيل أو إيقاف المساعدات الطبية للمهاجرين غير الشرعيين. سقوط حكومة بارنييه جعل مشروع الهجرة الجديد يتوقف، لكنه يبقى مطروحاً كخط أحمر من قِبَل التجمع الوطني الذي يطالب بتطبيقه، بعكس أحزاب اليسار التي هددت باللجوء إلى حجب الثقة في حال استمرت الحكومة الجديدة في المشروع. وهذه معادلة صعبة بالنسبة للحكومة الجديدة. لكن محللّين يعتقدون أن الحكومة الجديدة تستطيع أن تنجو من السقوط، إذا ما ضمنت أصوات النواب الاشتراكيين، بشرط أن تُظهر ليونة أكبر في ملفات كالهجرة ونظام المعاشات، وألا تتعامل مع كتلة اليمين المتطرف.

إليزابيث بورن (أ.ف.ب)

بومبيدو

دوفيلبان

حقائق

رؤساء الحكومة الفرنسيون... معظمهم من اليمين بينهم سيدتان فقط


منذ قيام الجمهورية الخامسة عام 1958، ترأَّس حكومات فرنسا 28 شخصية سياسية، ينتمي 8 منها لليسار الاشتراكي، بينما تتوزع الشخصيات الأخرى بين اليمين الجمهوري والوسط. ومن بين هؤلاء سيدتان فقط: هما إيديت كريسون، وإليزابيث بورن.هذه قائمة بأشهر الشخصيات:جورج بومبيدو: ترأَّس الحكومة بين 1962 و1968. معروف بانتمائه للتيار الوسطي. شغل وظائف سامية في مؤسسات الدولة، وكان رجل ثقة الجنرال شارل ديغول وأحد مقربيه. عيّنه هذا الأخير رئيساً للوزراء عام 1962 ومكث في منصبه 6 سنوات، وهو رقم قياسي بالنسبة لرؤساء حكومات الجمهورية الخامسة. لوران فابيوس: ترأَّس الحكومة بين 1984 و1986. ينتمي للحزب الاشتراكي. شغل منصب وزير المالية، ثم وزيراً للصناعة والبحث العلمي. حين عيّنه الرئيس الراحل فرنسوا ميتران كان أصغر رئيس وزراء فرنسي؛ حيث كان عمره آنذاك 37 سنة. شغل أيضاً منصب رئيس الجمعية الوطنية. تأثرت شعبيته بعد محاكمته بوصفه مسؤولاً عن الحكومة في قضية الدم الملوّث الذي راح ضحيته أكثر من 4 آلاف فرنسي. كما تكرر اسمه في مفاوضات الملف النووي الإيراني.جاك شيراك: إضافة لوظيفته الرئاسية المعروفة، ترأَّس جاك شيراك الحكومة الفرنسية مرتين: المرة الأولى حين اختاره الراحل فاليري جيسكار ديستان وكان ذلك بين 1974 و1976، ثم إبان عهدة الرئيس فرنسوا ميتران بين 1986 و1988. شغل مناصب سامية، وتقلّد مسؤوليات عدة في مؤسسات الدولة وأجهزتها، حيث كان عمدة لمدينة باريس، ورئيس حزب التجمع الجمهوري اليميني، ووزيراً للزراعة.دومينيك دوفيلبان: شغل وظيفة رئيس الحكومة في عهدة الرئيس جاك شيراك بين 2005 و2007، وكان أحد مقربي الرئيس شيراك. كما شغل أيضاً حقيبة الخارجية ونال شعبية كبيرة بعد خطابه المعارض لغزو العراق أمام اجتماع مجلس الأمن في عام 2003. حين كان رئيس الوزراء، أعلن حالة الطوارئ بعد أحداث العنف والاحتجاجات التي شهدتها الضواحي في فرنسا.فرنسوا فيون: عيّنه الرئيس السابق نيكولا ساركوزي في منصب رئيس الوزراء بين 2007 و2012، وهو بعد بومبيدو أكثر الشخصيات تعميراً في هذا المنصب. شغل مناصب وزارية أخرى حيث كُلّف حقائب التربية، والتعليم، والشؤون الاجتماعية، والعمل. أصبح رسمياً مرشح حزب الجمهوريون واليمين والوسط للانتخابات الرئاسية الفرنسية 2017، وأُثيرت حوله قضية الوظائف الوهمية التي أثّرت في حملته الانتخابية تأثيراً كبيراً، وانسحب بعدها من الحياة السياسية.