شعراء وأدباء جاءوا إلى فلسطين لينقلوا صورتها إلى العالم

الدورة السابعة لـ«الملتقى الثقافي التربوي» تنحاز إلى الأدب وتستضيف إسبانيا

من أمسية الشاعر والكاتب رسمي أبو علي (الثاني من اليسار)
من أمسية الشاعر والكاتب رسمي أبو علي (الثاني من اليسار)
TT

شعراء وأدباء جاءوا إلى فلسطين لينقلوا صورتها إلى العالم

من أمسية الشاعر والكاتب رسمي أبو علي (الثاني من اليسار)
من أمسية الشاعر والكاتب رسمي أبو علي (الثاني من اليسار)

تحت شعار «فلسطين حرية وثقافة»، انطلقت مساء الأربعاء الماضي فعاليات الملتقى الثقافي الفلسطيني السابع، الذي نظمته اللجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم، بحفل مركزي احتضنته قاعة مبنى الهلال الأحمر الفلسطيني في مدينة البيرة، في الضفة الغربية.
وعلى عكس الدورات السابقة التي انحازت لفنون الغناء والرقص الشعبي، لمطربين عرب وفرق فلسطينية وعربية حققت حلمها بالغناء على أرض فلسطين، كان من أبرزهم الفنان الراحل «أبو عرب»، وفرقة العاشقين، وغيرهم - انحازت الدورة السابعة إلى الأدب بشتى صنوفه، دون إغفال الفنون الأخرى، عبر مشاركة شعراء وروائيين وكتاب ومسرحيين وسينمائيين من إسبانيا، ضيف شرف المهرجان، وروسيا، وداغستان، وبريطانيا، والعراق، وفلسطين.
ومن أبرز المشاركين من إسبانيا: المسرحي والشاعر ميغيل أنشو فران بيّو، والشاعرة والناقدة بيلار غونثالث، والشاعر والقاص والناقد لبناني الأصل سمير دلغادو، والشاعرة ماري آنخلس فرنانغوميث، والشاعرة بيبا نييّتو، والشاعر باو باديل، والشاعرة ماريا فيكتوريا كارو بيرنال، والسينمائي مانو تريّو، والناشرة سارة مورينو.
وشارك في الملتقى القاص الروسي فلاديمير كروبين، والشاعر غينادي إيفانوف، ورئيس اتحاد كتاب روسيا الأديب أوليغ ميترافانوفيش بافيكين، وشاعر الشعب الداغستاني محمد أحمدوف، والكاتب العراقي المقيم في إسبانيا عبد الهادي سعدون.
ومن فلسطينيي الشتات شارك في الملتقى كل من: الشاعر والمترجم نزار سرطاوي، والأديب والشاعر رسمي أبو علي، والشاعر والكاتب محمد ضمرة، والشاعر عبد الله عيسى، فيما يشارك في الداخل الفلسطيني كل من: الكاتب والأديب سلمان ناطور، والشاعرة إيمان مصاروة، والشاعر أحمد فوزي أبو بكر، والمتخصصة في أدب الأطفال أنوار أيوب سرحان، والقاصة حنان جلبيلي عابد، والأكاديمية ريما عابد زينه، والشاعرة زهيرة صباغ، والشاعر فرحات فرحات، والكاتبة عناق مواسي، والكاتب والمخرج المسرحي عفيف شليوط، والشاعر سامي مهنا رئيس الاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين في الداخل.
وأشار مراد السوداني، الأمين العام للجنة الوطنية للتربية والثقافة والعلوم، إلى تقسيم الملتقى في دورته السابعة، إلى أربعة ملتقيات سنويًا تذهب نحو التخصصية، وتغطي غير مكان في العالم، «بحيث ينفتح على بعده الكوني، من أجل استقطاب وإعادة إنتاج المقولة الثقافية الفلسطينية على خريطة الإبداع الكوني».
وقال السوداني إن الملتقى سعى إلى استقطاب عدد من المبدعين من دول في العالم، اشتهروا بانحيازهم إلى فلسطين، وجاءوا لمشاهدة ما تتعرض له وأهلها من استهداف ومحو وتزييف وإلغاء على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلية، وهؤلاء سينقلون مشاهداتهم إلى العالم، خاصة مع سعي الماكينة الإعلامية الإسرائيلية إلى نقل صورة مشوهة عن فلسطين، حيث يوفر للكتاب والشعراء والمسرحيين والسينمائيين والناشطين الثقافيين وغيرهم من ضيوف، فرصة التعرف على الواقع الفلسطيني والوجع الفلسطيني، ونقله لاحقًا في أعمال إبداعية.
وأضاف: «نسعى إلى الحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني بكل الاتجاهات، ليكون مكونًا أصيلاً للملتقى الثقافي التربوي الفلسطيني بطبعاته المتعددة. لهذا اتخذنا القرار بتقسيم الملتقى إلى ملتقيات متخصصة، واستهداف دول بعينها، حيث تحضر إسبانيا وروسيا وغيرهما بقوة في الملتقى»، لافتًا إلى أن التحول في طبيعة الملتقى من التركيز على الفنون الشعبية والغناء إلى الأدب والمسرح والسينما والفنون التشكيلية، يعود إلى انتشار المهرجانات المتخصصة في الغناء والفنون الشعبية في مختلف المحافظات الفلسطينية، و«بالتالي هناك فيض من الاهتمام في هذه المجالات، وإغفال للاهتمام بالشأن الثقافي والمعرفي والأدبي، خاصة على مستوى التواصل مع البعدين العربي والكوني وعمقنا الفلسطيني في الشتات والداخل، من خلال مشاركة أسماء وازنة في الشعر والرواية والقصة والسينما والمسرح والفنون التشكيلية وغيرها، وهم في غالبيتهم ممن يدافعون عن فلسطين وقضيتها، وبعضهم انخرط في صفوف الثورة الفلسطينية».
وتجول المشاركون في الملتقى في كل من القدس، والناصرة، وعكا، وبيت لحم، والخليل، وأريحا، وطولكرم، ونابلس. كما شارك في عزاء الشهيد الطفل علي الدوابشة، الذي ذهب ضحية حرق منزل عائلته في قرية دوما من قبل مستوطنين.
وكشف السوداني أن سلطات الاحتلال حالت دون مشاركة الكثير من الكتاب الفلسطينيين في الخارج، كالشاعر يوسف عبد العزيز والأديب هشام عودة مع أنهما زارا فلسطين أكثر من مرة، وكذلك الشاعر الفلسطيني عبد الله عيسى المقيم في روسيا، كما أعادت رئيس اتحاد كتاب تشاد من على المعابر، وتعاملت مع الوفد بصلافة، وذلك لإدراك سلطات الاحتلال أن «كل مداخلة في الشأن الثقافي والفني والمعرفي (...) تشكل خطرًا على كينونته»، وبالتالي يسعى على الدوام لعزل فلسطين عن محيطها العربي والكوني.
واشتملت الفعاليات على أمسية شعرية روسية فلسطينية مشتركة في طولكرم، وأمسية شعرية إسبانية في بيت لحم، وأمسية للكاتب والشاعر الفلسطيني المقيم في الأردن، رسمي أبو علي، أدارها الشاعر أحمد دحبور في رام الله، وأخرى للمترجم والشاعر نزار سرطاوي والشاعر محمد ضمرة في البيرة، ليرتحل المشاركون محملين بمئات من الصور في الذاكرة وعلى هواتفهم الجوالة وحواسيبهم، مؤكدين أنهم سينقلون كل ما شاهدوه إلى العالم، حكايات وإبداعات.



قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية
TT

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

قصة «أيمن» الحقيقي بطل القصيدة والأغنية

لطالما كانت كلمات الأغاني محل اهتمام البشر بمختلف أجناسهم وأعمارهم وشرائحهم الاجتماعية والثقافية. وإذا كانت القلة القليلة من الباحثين وأهل الاختصاص تحصر تعاملها مع الأغاني في الإطار النقدي، فإن معظم الناس يبحثون في كلماتها، كما في اللحن والصوت عما يحرّك في دواخلهم أماكن الرغبة والحنين وترجيعات النفس والذاكرة. لا، بل إن بعض الأغاني التي تعجز عن لفت انتباه سامعيها بسبب سذاجتها أو مستواها الهابط سرعان ما تكتسب أبعاداً وتأثيرات لم تكن لها من قبل، حين يمرون في تجربة سفر أو فراق أو حب عاصف أو خيانة غير متوقعة.

وحيث لا يُظهر البعض أي اهتمام يُذكر بالدوافع التي أملت على الشعراء كتابة النصوص المغناة، فإن البعض الآخر يجدُّون بدافع الفضول أو المعرفة المجردة، في الوقوف على حكايات الأغاني ومناسباتها وظروف كتابتها. وهو فضول يتضاعف منسوبه إذا ما كانت الأغنية تدور حول حدث بعينه، أو اسم علم مبهم الملامح وغير مكتمل الهوية.

وإذا كان لموت الأبطال في الملاحم والأساطير وحركات المقاومة تأثيره البالغ في النفوس، فإن موت الأطفال في الحروب يكتسب تأثيره المضاعف لأنه ينتقل من الخاص إلى العام فيصيب البراءة في عمقها ويسدد طعنته القاتلة إلى نحر الأحلام ووعود المستقبل. وهو ما جسّدته بشكل جلي أعداد وافرة من الروايات واللوحات التشكيلية والقصائد والأغاني، بدءاً من قصيدة «الأسلحة والأطفال» لبدر شاكر السياب، وليس انتهاءً بشخصية «شادي» المتزلج فوق ثلوج الزمن الذي حولته الأغنية الفيروزية رمزاً أيقونياً لتراجيديا البراءة الطفولية التي قصفتها الحرب في ريعانها.

ولم تكن مأساة «أيمن» الذي قتلته الطائرات الإسرائيلية المغيرة على الجنوب اللبناني في نهاية عام 1977 والتي استوحيت من حادثة استشهاده القصيدة التي تحمل الاسم نفسه، سوى حلقة من حلقات التراجيديا الإنسانية التي تجدد نفسها مع كل صراع قومي وإثني، أو مواجهة قاسية مع الطغاة والمحتلين. تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الفارق بين شادي وأيمن هو أن الأول قد اخترعه الرحبانيان بخيالهما المحض، في حين أن أيمن كان طفلاً حقيقياً من لحم ودم، قضى في ظل الظروف نفسها والصراع إياه.

أما الفارق الآخر الذي لا ينبغي إغفاله، فيتمثل في كون النص الرحباني كُتب في الأساس ليكون جزءاً من مسرح الأخوين الغنائي، في حين أن قصيدة أيمن لم تُكتب بهدف الغناء، رغم أن جرسها الإيقاعي سهّل أمر تلحينها وغنائها في وقت لاحق. ومع ذلك، فإن ما يثير العجب في تجربة الرحبانيين هو أن كتابة النص أغنيةً لم تنقص بأي وجه من رشاقته وعوالمه الساحرة وأسلوبه التلقائي.

والواقع أنني ما كنت أعود لقصة أيمن بعد 47 عاماً من حدوثها، لو لم تكن هذه القصة محلّ أخذ ورد على مواقع التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة، فهوية الطفل القتيل قد حُملت من قِبل المتحدثين عنها على غير رواية ووجه. على أن تبيان وقائع الحدث المأساوي لا بد أن تسبقه الإشارة إلى أن الفنان مرسيل خليفة الذي كانت تربطني به ولا تزال صداقة وطيدة، كان قد فاتحني بشأن كتابة نص شعري يعكس مأساة لبنان الرازح تحت وطأة حربه الأهلية، أو معاناة الجنوبيين وصمودهم في وجه العدو الإسرائيلي. ومع أنني عبّرت لمرسيل عن حماسي الشديد للتعاون معه، وهو الذي اعتُبر أحد الرموز الأبرز لما عُرف بالأغنية الوطنية أو الملتزمة، أبديت في الآن ذاته توجسي من أن يقع النص المطلوب في مطب الحذق التأليفي والصنعة المفتعلة. وإذ أجاب خليفة الذي كان قد أنجز قبل ذلك أغنيات عدة مقتبسة من نصوص محمود درويش، بأن المسألة ليست شديدة الإلحاح وأنه ينتظر مني الاتصال به حالما ينجز الشيطان الذي يلهمني الشعر مهماته.

ولم يكد يمرّ أسبوعان اثنان على لقائي صاحب «وعود من العاصفة»، حتى كنت أتصل هاتفياً بمرسيل لأسمعه دون إبطاء النص الذي كتبته عن أيمن، والذي لم يتأخر خليفة في تلحينه وغنائه. لكن مَن هو أيمن؟ وفي أي قرية وُلد وقضى نَحْبَه؟ وما هي قصته الحقيقية وسبب معرفتي به وبمصيره الفاجع؟

في أوائل سبعينات القرن المنصرم وفي قرية «العزّية» الجنوبية القريبة من الطريق الساحلية الواقعة بين صور والبيّاضة وُلد أيمن علواني لأب فلسطيني وأم لبنانية من بلدة برجا اللبنانية الشوفيّة. وإذ كانت معظم أراضي القرية ملكاً لعائلة سلام البيروتية المعروفة، فقد قدُمت العائلة إلى المكان بهدف العمل في الزراعة شأنها في ذلك شأن عائلات قليلة أخرى، ليؤلف الجميع مجمعاً سكنياً صغيراً لا يتجاوز بيوته العشرين بيتاً، ولا يبلغ سكانه المائة نسمة. أما البساتين الممتدة هناك على مرمى البصر، فقد كان يتعهدها بالنمو والخصوبة والاخضرار نبع دائم الجريان يحمل اسم القرية، ويختتم سلسلة الينابيع المتقطعة الذي يتفتح أولها في كنف الجليل الفلسطيني دون أن يتمكن آخرها من بلوغ البحر.

شكَّل نبع العزية جزءاً حيوياً من مسرح طفولتي الأولى، حيث كان سكان قريتي زبقين الواقعة على هضبة قريبة من مكان النبع يقصدونه للسباحة والاستجمام ويلوذون بمياهه المنعشة من حر الصيف، كما أن معرفتي بأيمن وذويه تعود إلى عملي في التدريس في ثانوية صور الرسمية، حيث كان من بين تلامذتي خالة الطفل وبعض أقاربه الآخرين. وحين قصف الإسرائيليون بيوت القرية الوادعة بالطائرات، متسببين بتدمير بيوتها وقتل العشرات من سكانها الآمنين، ومتذرعين بوجود معسكر تدريب فلسطيني قريب من المكان، فقد بدا اغتيال أيمن ذي الوجه القمري والعينين الخرزيتين بمثابة اغتيال لطفولتي بالذات، ولكل ذلك العالم المصنوعة فراديسه من قصاصات البراءة ونثار الأحلام. وفي حين لم أجد ما أردّ به على موت أيمن سوى كتابة القصيدة التي تحمل اسمه، فإن ذوي الطفل القتيل قرروا الذهاب إلى أبعد من ذلك، فأنجبوا طفلاً آخر يحمل اسم ابنهم الراحل وملامحه، ويواصل حتى الساعة الحياة بالأصالة عن نفسه ونيابة عن أخيه.

بعد ذلك بات اسم أيمن بالنسبة لي محفوراً في مكان عميق من القلب والذاكرة إلى حد أنني كلما قرأته في جريدة أو كتاب، أو قابلت أحداً بهذا الاسم تناهت إلي أصداء ضحكات الطفل القديم وأطيافه المدماة على ضفاف نبع العزية. ومع ذلك، فإن السيناريو الذي ضجت به في الأسابيع الأخيرة مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، ومفاده أن قصيدة أيمن قد استوحيتْ من مقتل الطفل أيمن رحال إثر غارة إسرائيلية على قرية طير حرفا الجنوبية عام 1978، لم يكن هو وحده ما أصابني بالذهول، بل معرفتي بأن الرقيب في الجيش اللبناني الذي استُشهد مؤخراً بفعل غارة مماثلة هو الشقيق البديل لأيمن الأول.

ومع أنه لم يسبق لي معرفة أيّ من «الأيمنين» الآخرين، إلا أن نسبة القصيدة إليهما لا تضير الحقيقة في شيء، بل تؤكد مرة أخرى على أن الشعر كما الأغنية والفن على نحو عام يتجاوز الحدث الباعث على كتابته ليلد نفسه في كل زمن، وليتجدد مع كل مواجهة غير عادلة بين الأطفال والطائرات. لكن كم من أيمن عليه أن يسقط، وكم من قصيدة ينبغي أن تُكتب لكي يرتوي القتلة من دم القتلى وتأخذ الحرية طريقها إلى التفتح؟